التحذيرات الغربية لروسيا تتصاعد، والتلويح بالعقوبات تضاعف للتأكيد للروسيا أن أي عمل عسكري في أوكرانيا سيكون ثمنه غاليًا. جورجيا والقرم نماذج لا يردها الناتو أن تتكرر مرة أخرى، لذا فاللهجة الغربية المستخدمة مع بوتين هذه المرة أشد من كل المرات السابقة. وبوتين يكرر نفس مطالبه، ضمانات فورية ألا يتسع الناتو نحو الشرق أو ينشر منظومات أسلحة يمكنها أن تهدد أمن روسيا انطلاقًا من أوكرانيا.

بوتين أخبر الرئيس الأمريكي جو بايدن أن دول الناتو هي من خرقت عهودها إثر سقوط الاتحاد السوفيتي. تلك العهود كانت تقتضي عدم توسيع حدود الناتو ليشمل أي دول من أوروبا الشرقية أو الجمهوريات السوفيتية السابقة. لكن الناتو يصر على رفض استبعاد دول أوروبا الشرقية، ومن جانبها تصر موسكو أنها لن تقبل انضمام أوكرانيا للناتو، فأوكرانيا خط أحمر، على حد تعبير بوتين.

رغم أن القوات الروسية لم تتحرك إلا في الأيام الماضية لمحاصرة الحدود الأوكرانية، فإن روسيا بالفعل تلعب دورًا عسكريًا في الداخل الأوكراني. فموسكو هي الداعم الأساسي، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، للانفصاليين المواليين لها الذين يشنون حربًا ضد القوات الأوكرانية منذ 8 سنوات. لكن في الأيام الماضية نشرت موسكو عشرات الآلاف من جنودها عبر الحدود مع أوكرانيا، ومعهم مئات الآليات العسكرية شديدة التطور، ما يعطي انطباعًا أن روسيا ستخوض مغامرة جديدة بغزو أوكرانيا.

ولم تسفر محاولات الردع الغربية عن أي نتيجة. فرغم كل الجهود الدبلوماسية التي دارت في الآونة الأخيرة، لم يعط بوتين أي إشارة تنم عن استعداده للتفاوض. بل يستمر الرجل في التصريح بأن جنوده الواقفين على الحدود الأوكرانية لا يهددون أمن أوكرانيا، بل يحمون أمن روسيا. وأن روسيا هي الضحية في هذه القصة، ورد فعله ليس إلا دفاعًا عن النفس وحفظًا للأمن القومي الروسي.

لا جدية في الحماية

ربما تكون الضحية الحقيقية هنا هي أوكرانيا، لكنها ضحية الجغرافيا لا ضحية أي طرف من الاثنين. فأوكرانيا بمثابة كوبا بالنسبة للولايات المتحدة إبان الحرب الباردة. وكلما رغبت أوكرانيا في الاستعانة بالمظلة الأطلسية زادت تهديدات موسكو لها. وردًا على تلك التهديدات أعلن البرلمان الأوكراني في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2021 تمديد وجود قوات الناتو على الأراضي الأوكرانية.

التمديد الأخير أضاف تعديلات لقانون انتشار القوات الأجنبية يسمح بانتشار 4000 جندي من قوات حلف شمال الأطلسي، من بينهم 2000 جندي أمريكي. وسيتم زيادة عدد طائرات الناتو المقاتلة من 10 إلى 40 مقاتلة. وكذلك سوف تزيد عدد سفن الناتو في المياه الإقليمية الأوكرانية إلى 20 سفينة. على أن تُجرى 9 مناورات عسكرية باشتراك عدد من دول الحلف على أراضي أوكرانيا عام 2022. وبالطبع سوف تستمر الإمدادات اللوجيستية التي يقدمها الناتو للقوات الأوكرانية، والمتمثلة في التدريب لمواجهة الانفصاليين الذي يسيطرون على مساحات واسعة من شرق البلاد.

الصراع المستمر منذ 8 سنوات راح ضحيته 13 ألف فرد. ورغم توصل الطرفين لخطة سلام فإن أحدًا من الطرفين لم يتلزم بها. وحين دخلت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 جعلت أوكرانيا من الانضمام للناتو هدفًا قوميًا، حتى أن تعديلًا دستوريًا أجرى عام 2019 نص على ذلك الهدف. ترغب أوكرانيا بذلك الانضمام أن تحتمي خلف درع الناتو من التهديد الروسي. ويبدو أن أوكرانيا حاليًا تدفع ثمن رغبتها في البعد عن روسيا، كما أنها أيضًا تحصد ثمرة القرب من الناتو، فلا يحميها من اقتحام قرابة 100 ألف جندي روسي على حدودها الآن إلا التحذيرات الغربية لبوتين.

لكن ما دون ذلك فأوكرانيا تشعر بالتهديد لأنها تدرك عدم جدية الدول الغربية في حمايتها. وتدرك الحكومة الأوكرانية أنه في حال غزتها موسكو فعلًا فلن يقدم الناتو على أي عمل عسكري حقيقي. ذلك الانطباع الأوكراني يأتي، كما يفسر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي، من العراقيل التي يضعها الناتو أمام الانضام له. ورفض تزويد أوكرانيا بمنظومة أسلحة متطورة. زيلينكسي اتهم ألمانيا تحديدًا بأنها من تقف وراء منع تسليم بلاده أسلحة دفاعية. وخص الرئيس بالذكر أن ألمانيا عرقلت تسلم بلاده أسلحة مضادة للطائرات المسيرة.

برلين من جهتها لم تنف عرقلة صفقات الأسلحة، وقالت إنها تعمل على الوساطة بين روسيا وأوكرانيا. ألمانيا تحديدًا تتخذ موقفًا لا تُحسد عليه في تلك الأزمة. فروسيا هي منبع الطاقة الألمانية، ولا تستطيع ألمانيا أن تتخذ موقفًا عدائيًا صريحًا ضد روسيا. لكنها كذلك لا تستطيع تجاهل تصرفات بوتين على الساحة الدولية، خصوصًا أنها تتعرض لضغوط كبيرة من شركائها الغربيين للمشاركة في العقوبات القاسية التي يلوح بها الناتو في حال غزت موسكو كييف.

لا ثابت إلا اللايقين

أما بالعودة لسيناريو الحرب بين أوكرانيا وروسيا فيمكن القول، إنه قد يكون سيناريو نظريًا فحسب. لكن حتى في حالة حدوثه فعليًا، فالأمر قد لا يكون بالبساطة التي يتخيلها بوتين. فرغم أن روسيا دولة نووية تمتلك جيشًا مهولًا، فإن أوكرانيا استطاعت في السنوات السبع الماضية أن تبني جيشًا جيدًا قادرًا على المواجهة، بمجموعة من الأسلحة المصنّعة محليًا، والمستوردة من الخارج.

كما أنه في حال نشوب الحرب فستكون الاستخبارات الغربية في خدمة الجانب الأوكراني. ومن المؤكد أن روسيا لن تحقق فوزًا سهلًا على أوكرانيا كما فعلت مع جورجيا عام 2008 في الحرب التي استمرت 5 أيام فقط قبل أن تنتهي لصالح روسيا.

ولا يمكن لروسيا أن تراهن على التجاهل الغربي كما حدث مع جورجيا، ففي هذه المرة استطاعت روسيا أن تستفز العالم أجمع وأن تُشعر الجميع بالتهديد من تنامي قوتها. فقد قام الكرملين بتعليق عمل بعثة الناتو تمهيدًا لإنهاء أعمالها بشكل نهائي، ردًا على قيام الناتو بطرد 8 دبلوماسيين روس بحجة أنهم جواسيس. لكن رغم ذلك تحتفظ روسيا بالملحق العسكري للناتو في سفارتها ببروكسل إشارةً إلى أنها لا ترغب في قطع العلاقات بشكل نهائي أو الدخول في معادلة صفرية.

الثابت في علاقة روسيا بالناتو هو حالة اللايقين، فلا تصدر التهديدات بالتصعيد إلا وتتبعها محاولات التهدئة. ويمكن عزو ذلك التوتر بشكل غير مباشر لجو بايدن، بايدن من جهته يحاول دفع الأزمة بين الناتو وروسيا إلى حافة الهاوية. مع تكرار بايدن لكلمات ترامب بأنه على الغرب أن يدفع ثمن حمايته. لهذا يفسر بعض المحللين التصرفات الروسية بأنها رغبة بإظهار القوة للحلف كي لا يخضعوا بالكامل للرغبات الأمريكية الرامية لفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا.

كما أن حلف الناتو يمكن وصفه بالعبء على السياسة الأمريكية، ورغبة روسيا في تصدير أزمات مستمرة يأتي كمحاولة لشغل الإدارة الأمريكية عن عدد من الملفات الأخرى مثل الملف الأفغاني والصيني.

لماذا يغتصبون أمهم؟

الرئيس الأوكراني تساءل ساخرًا حين كان يعمل كممثل كوميدي لماذا يصر الروس على اغتصاب أمهم؟ زيلنيسكي يشير إلى أن العاصمة كييف كان المهد الحقيقي لحضارة كييف روس التي امتدت في روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا. وتعتبر الدول الثلاث أن كييف هي العاصمة الأم للحضارة الروسية. لهذا فروسيا تضع اعتبارًا مختلفًا في غزوها لأوكرانيا باعتبارها جزءًا من الأراضي الروسية التاريخية لا يجب تدميرها.

كما أن العرق السلافي هو ذات العرق المنتشر في الدول الثلاث. والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية رغم إعلانها الانفصال عن بطريركية موسكو فإنها لم تنجح في ضم كافة الكنائس تحت لوائها. لتبقى بذلك روسيا وأوكرانيا مشتركين في المهد التاريخي، والدين المتبع، والعرق. كما يتشارك البلدان 70 عامًا من الوحدة في ظل الاتحاد السوفيتي.

تلك الرفقة التاريخية الطويلة تجعل موسكو بالتأكيد تدرك أن أوكرانيا ثاني أكبر دول أوروبا مساحة، وبالتالي فالسيطرة عليها سيكون عسيرًا، كما أن الناتو لن يسمح بضياعها كما تساهل مع مناطق أصغر كشبه جزيرة القرم. بالطبع لا يمكن نسيان أن الجيش الأوكراني قد وصل حاليًا إلى 250 ألف جندي، بعد أن كان 135 ألفًا فقط عام 2013. وميزانيته الحالية 6% من الدخل القومي الأوكراني، بعد أن كانت 1% فحسب.

ويحتل الجيش الأوكراني المرتبة العاشرة أوروبيًا من حيث القوة، ورقم 25 عالميًا، لذا فلا يمكن للجانب الروسي اعتباره مجرد ميليشيا مسلحة سوف يتغلب عليها بسهولة. كل تلك الاعتبارات تجعل التدخل العسكري المباشر أمرًا مستبعدًا، لكنه يظل محتملًا، فمع وجود بوتين في المعادلة لا يمكن الجزم بشيء.