شهدت بعض فترات الحكم العباسي محاولات تمرد وانشقاق داخل الأسرة الحاكمة، بهدف الاستئثار بالحكم وإزاحة الخليفة، فترتب عليها تداعيات سياسية خطيرة وصلت إلى الاقتتال بين الأطراف المتنازعة.

وهكذا لم يتوقف الخطر على مُلك العباسيين من حركات التمرد الخارجية فقط، وإنما نشأ في بعض الأحيان من العباسيين أنفسهم.

دوافع العصيان

يذكر موفق سالم نوري في دراسته «العلاقة بين الخلفاء العباسيين وأفراد الأسرة العباسية 132- 324هـ»، أن السنوات الأولى لحكم الأسرة العباسية شهدت محاولات متعددة من العباسيين للتمرد والعصيان والخروج على السلطة، بهدف خلع الخليفة واستبداله، وتنوعت دوافع ذلك، لكن أهمها تمثل في إدراك بعض أفراد الأسرة أن الخلافة ستنحصر بفرع معين من البيت العباسي، وأنه ستضيع عليه الفرصة في تولي الأمر، لذا طلب بعضهم الخلافة لنفسه.

وكان لتأثيرات الحاشية والبلاط المقربين من الخلافة دور في هذا العصيان؛ إذ كان لكل من هؤلاء دوافعه الذاتية داخل البيت العباسي، لذا جعلوا من محاولة إضعاف أو شق العباسيين وسيلة لتحقيق تلك الأهداف، وينطبق هذا على الدور الذي لعبه كلٌّ من الوزيرين الفضل بن سهل، والفضل بن الربيع في الصراع بين الأمين والمأمون، والدور الذي لعبه القائد عجيف بن عنبسة في حثه العباس بن المأمون على خلع الخليفة المعتصم.

وكان من بين دوافع هذه التمردات أيضًا الرغبة في الحفاظ على مصالح البيت العباسي إذا ما تعرضت للخطر على يد أحد الخلفاء، وتجسد ذلك في مبايعة إبراهيم بن المهدي بالخلافة عندما سعى المأمون لنقلها إلى العلويين.

وبحسب نوري، لعبت الوشاية والحسد أحيانًا دورًا مضللًا من أجل إضعاف نفوذ أحد أفراد الأسرة أو التخلص منه، وتمثل ذلك في حالتين رئيستين؛ فقد قام جعفر بن سليمان بن علي بالكتابة إلى الخليفة الرشيد، مشيرًا إلى أن أخاه محمد بن سليمان يجمع بطرق غير مشروعة الأموال الطائلة، لما تحدثه نفسه من الوثوب لتولي الخلافة، بيد أن الرشيد لم يسئ إلى محمد، ربما لإدراكه أن الأمر لا يتجاوز حد الحسد.

وكان الخليفة أبو جعفر المنصور، من قبل، قد خشي من صالح بن علي، ظنًّا منه أنه يهيئ نفسه للخلافة، لكثرة مواليه وأتباعه، فكتب يستقدمه، فاعتذر لشدة علته، إلا أن إصرار المنصور أجبر عمه على القدوم، وعندما وقعت عليه عيناه أدرك حقيقة أن لا خطر منه.

والحالة الأخرى هي وشاية عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح بوالده، والذي كان من الأمراء العباسيين وواليًا على الشام والجزيرة، إذ ادعى الابن أن والده يطمع في الخلافة، وأنه يهيئ نفسه لها، ما حدا بالرشيد إلى سجنه طوال مدة حكمه على الرغم من أن عبد الملك دفع هذه التهمة عن نفسه.

عبد الله بن علي

على كلٍّ، تعددت المحاولات الفعلية للتمرد والخروج على الخلافة في العصر العباسي، وكان أولها محاولة عبد الله بن علي للخروج على الخليفة أبي جعفر المنصور. يذكر الدكتور السيد عبد العزيز سالم في كتابه «العصر العباسي الأول»، أنه في سبيل تثبيت دعائم الدولة العباسية الفتية لم يتردد أبو جعفر المنصور في قتل كثير من أنصاره وبعض أقربائه، فاستهل عهده بقتل عمه عبد الله بن علي الذي يرجع إليه الفضل في إيقاع الهزيمة بمروان بن محمد في موقعة الزاب، وهو الذي تتبع الأمويين بالقتل والتشريد، وقضى على الفتن الكبرى التي قامت في الشام ضد الحكم العباسي.

ويرجع سبب قتل المنصور لعمه إلى أن عبد الله بن علي ما كاد يسمع بوفاة الخليفة أبي  العباس السفاح عام 136هـ حتى خرج على المنصور، فجمع جنده – وكان وقتئذٍ يقود الجيوش العباسية متوجهًا نحو الأراضي البيزنطية – وأعلمهم الأمر ثم دعا لنفسه، مدعيًا أن أبا العباس وعده بولاية العهد عندما سيَّره لقتال مروان بن محمد، وأتى بشهود شهدوا له بذلك، وبايعه أكثر أهل الشام رغم كراهيتهم له نكاية لأبي جعفر.

فما  كان من أبي جعفر إلا أن يسيِّر أبا مسلم الخراساني في جيش كبير لقتال عبد الله، واشتبكت قوات الطرفين في قتال طويل الأمد دام خمسة شهور وانتهى بهزيمة عبد الله في 7 جمادى سنة 137هـ.

وبحسب سالم، فر عبد الله إلى أخيه سليمان والي البصرة، فأخفاه عنده، ثم سلمه إلى أبي جعفر في سنة 139هـ بعد أن حصل على الأمان له، فسجنه المنصور ثم قتله بعد تسع سنين في سنة 147هـ.

الأمين والمأمون

 في سنة 193هـ توفى الخليفة هارون الرشيد وهو غازٍ بخراسان، فدُفن بطوس، وكان قد بايع بولاية العهد لأولاده الثلاثة الأمين والمأمون والمؤتمن، وقسم دولته بينهم، فعهد بالقسم الشرقي إلى المأمون، وبالجزيرة والعواصم إلى المؤتمن، أما الأمين فتولى الشام والعراق إلى آخر المغرب. وتولى الأمين الخلافة في صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد، وكان المأمون وقتها في مرو بخراسان، لكن ذلك لم يحول دون وقوع فتنة وانشقاق.

ويروي سالم أن سبب الفتنة بين الأمين والمأمون يرجع إلى أن الفضل بن الربيع وزير الأمين فطن إلى أن المأمون إذا آلت إليه الخلافة وهو حي فلن يبقي عليه، فسعى الفضل إلى إغراء الأمين وحثه على خلع المأمون من ولاية العهد، والبيعة بها لابنه موسى بن الأمين.

بادر الأمين بالدعاء لابنه بالإمارة بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، ثم خلع المؤتمن، ووجه إلى المأمون يطلب منه أن يقدم ابنه موسى على نفسه ويحضر عنده، فاستشار المأمون وزيره الفضل بن سهل وخاصته، فأغروه بالامتناع، وكتب يعتذر.

وفي نفس الوقت عمد الفضل إلى استمالة العباس بن موسى رئيس وفد الأمين إليه، ملوحًا له بإمارة بعض مواضع من مصر، فأجاب إلى بيعة المأمون، وأصبح العباس عينًا للمأمون يكتب إلى الفضل بن سهل بأخبار الأمين من بغداد.

ثم عمل الفضل بن سهل على توسيع هوة الخلاف بين الأخوين، فحرض المأمون على الاستقلال بخراسان، ثم عمد المأمون إلى مكاتبة ملوك كابل وملوك الترك وخاقان التبت الذين خرجوا على طاعة الأمين وبعث إليهم ببعض الهدايا.

فلما علم الأمين بذلك بايع لولده موسى بولاية العهد، وسماه الناطق بالحق، وأمر بالدعاء له على المنابر، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن سنة 195هـ، وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة فأتوه بكتابي العهد اللذين وضعهما الرشيد في الكعبة ببيعة الأمين والمأمون، فأحضرهما عنده، فمزقهما وزيره الفضل بن الربيع.

وكان لنكث الأمين لعهد أبيه أثر عميق في إغضاب أهل خراسان وغيرهم، ثم تطورت الفتنة، وأصبحت نزاعًا بين الفرس أنصار المأمون بحكم أن أمه فارسية، والعرب أنصار الأمين، حسبما روى سالم.

وبدأ الأمين يجهز قواته لمواجهة الفتنة، ثم أمر قائده علي بن عيسى بن ماهان بقيادتها لحرب المأمون بعد أن جهزه بخمسين ألف فارس، وكتب إلى قواده الآخرين أبي دلف القاسم بن بن إدريس العجلي وهلال بن عبد الله الحضرمي بالانضمام إليه. وفي نفس الوقت كانت قوات المأمون بقيادة طاهر بن الحسين تعسكر بالري متأهبة للقتال، وحدثت الاشتباكات بالقرب من الري عام 195، واستطاع طاهر بن الحسين التغلب على قوات الأمين ولقي ابن عيسى مصرعه، وبويع للمأمون بالخلافة في جميع خراسان.

توالت بعد ذلك المعارك بين الجانبين وانتهت باستيلاء طاهر بن الحسين على الأقاليم الخاضعة للأمين إقليمًا بعد إقليم، حتى اقترب من بغداد، وتمكن هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون من حصار بغداد من الجانب الشرقي، أما طاهر بن الحسين فتولى حصار الجانب الغربي، ودام ذلك 15 شهرًا، أصيب خلالها عمران بغداد من جراء هذا الحصار الطويل بأضرار كبيرة بسبب قذائف المنجنيق، فتهدمت أسوار المدينة، ودُمرت المباني واشتعلت النيران في كل مكان حتى زالت محاسنها، كما نفدت الأقوات في المدينة، وانتشرت الأمراض والمجاعات، واضطر الأمين إلى بيع ما في خزائنه من أمتعة وتحف لينفق على الجند.

تحرج موقف الأمين أكثر عندما خذله كثير من أعوانه وقواده، ومن بينهم محمد بن عيسى صاحب شرطته، وترتب على ذلك سقوط أسواق الكرخ في بغداد في يد طاهر، فتحصن الأمين بمدينة المنصور، وتولى الدفاع عنه العيارون وأهل السجون، وكانوا يقاتلون عراة، في أوساطهم المآزر، ونصحه بعض أصحابه بالخروج إلى الشام وإعادة جمع قواته من هناك، فاقتنع بنصحهم، وعزم على ذلك.

غير أن طاهر بن الحسين علم بذلك الخبر، فكتب إلى عدد من أصحاب الأمين يأمرهم بإقناع الأمين بالعدول عن عزمه، وأثنوه عما أقدم عليه، ونصحه بعض الناصحين بأن يستسلم لأخيه وينزل له عن الخلافة، فقبل أن يسلم الخاتم والقضيب والبردة، وهي من مخلفات الرسول، لطاهر ويسلم نفسه إلى هرثمة بن أعين لكبر سنه، ولما عرفه من قسوة طاهر، حسبما ذكر سالم.

بيد أن طاهر خشي ألا يكون الأمين جادًّا في تنفيذ ما اعتزمه، لا سيما وقد بلغه من قبل انه كان ينوي الخروج من بغداد إلى الجزيرة وبلاد الشام، فوضع حول القصر كمينًا بالسلاح، فما إن أرسل هرثمة إلى الأمين حراقة على باب خراسان، ونزل الأمين بها، حتى أرسل طاهر بدوره جماعة من العوامين خرقوها بالسهام، وقيل قلبوها بمن فيها، وسبح الأمين إلى الشاطئ، فقبض عليه بعض عساكر المأمون، وذبحوه سنة 198هـ، وطافوا برأسه، ثم أرسلها طاهر إلى المأمون، فحزن المأمون لقتله، وكان يرغب في أن يُرسَل إليه حيًّا ليرى فيه رأيه، فغضب بذلك على طاهر بن الحسين، وأهمله إلى أن مات طريدًا بعيدًا.

 إبراهيم بن المهدي

ما إن استقرت أمور الخلافة شيئًا ما بعد أن آلت إلى المأمون، حتى تفجرت مرة أخرى على وقع حدث أثار وقتها جدلًا كبيرًا، ما ترتب عليه انشقاقات وتمردات جديدة. فلغرض سياسي، أو لنزعة شيعية، أو بسبب تقديرات خاصة به، استدعى الخليفة المأمون سنة 201هـ واحدًا من سلالة الإمام علي بن أبي طالب، وهو علي الرضا بن موسى، وهو ثامن أئمة الشيعة أو حزب العلويين، إلى مرو، واختاره وليًّا لعهد الخلافة مع أنه يكبره باثنين وعشرين عامًا.

ويذكر أحمد فريد رفاعي في كتابه «عصر المأمون»، أن المأمون ربما يكون في رأيه هذا صادرًا عن رأي وزيره الفضل الذي زين له أن هذه أنجح وسيلة لتسكين ثورة العلويين في الكوفة، وربما كانت تنجح هذه الوسيلة في التوفيق بين البيتين العلوي والعباسي قبل استفحال الخلاف بينهما.

أيًّا كانت الأسباب، فقد ترتب على إسناد ولاية العهد لعلي الرضا أن أمر الخليفة ولاته في جميع أنحاء الدولة بأخذ البيعة لولي عهده، ولكي يجعل المأمون الدولة تصطبغ بصبغة العلويين خلع الشعار الأسود، شعار العباسيين، وارتدى الشعار الأخضر، شعار العلويين، وأمر عماله بالاقتداء به.

الأكثر من ذلك، أن المأمون زوَّج إحدى بناته لعلي الرضا الذي كان في ذلك الوقت بلغ الرابعة والخمسين من عمره، كما زوَّج بنتًا له أخرى من ابن علي الرضا، وولى أحد إخوة الرضا إمرة الحج، وبهذه المصاهرة وثق العُرى بينه وبين الحزب العلوي.

وفي أواخر هذه السنة تلقى الحسن بن سهل نائب المأمون على بغداد من أخيه الفضل أمرًا بإعلان البيعة وخلع الشعار الأسود وارتداء الأخضر، فكان لذلك الأمر أسوأ أثر في أهل بغداد، إذ وقع عليهم كالصاعقة، لأن أهلها كانوا يخافون الشيعة ويمقتونهم، وكذلك شعر العباسيون بأن الضربة موجهة للقضاء على خلافتهم، فشقوا عصا الطاعة وهموا بخلع المأمون واختيار خليفة سواه، ولم تأتِ آخر جمعة من هذه السنة حتى دُعي لإبراهيم بن المهدي (عم المأمون) على المنابر خليفة بدلًا من المأمون، وسرعان ما بويع له بالخلافة.

وكان إبراهيم بارعًا في الموسيقى والغناء والشعر، ولكن كانت تنقصه المؤهلات التي يستطيع بها أن يضطلع بأعباء الملك التي ألقيت على عاتقه، والتي ناء بحملها مدة سنتين.

ويروي رفاعي أن القتال نشب بين قوات المأمون وإبراهيم، فاضطر الحسن بن سهل إلى الارتداد إلى واسط، وتزامن ذلك مع قيام ثورات في الكوفة ضد الحسن الذي نُظر له باعتباره واليًا فارسيًّا، ومن ثم تنبه المأمون لحرج موقفه وخطورة الحالة. ومن الغريب أن أول من نبه الخليفة إلى هذا الخطر المحدق به وبعرش آبائه وأجداده هو علي الرضا نفسه، إذ خلا بالخليفة وكاشفه أن الفضل وزيره يخفي عليه حقيقة الأمور في الدولة، وأن أهل العراق يقولون عنه (أي الخليفة)، إنه مجنون أو مسحور، وأن الخلافة توشك أن تفلت من يده بين عمه إبراهيم والعلويين.

وأيد هذه الحقائق للمأمون جماعة من قواد الدولة وزعمائها بعد أن أمنهم المأمون من غضب وزيره، ونصحوا إليه بأن خير علاج لسلامة الدولة أن يعجل بالعودة إلى بغداد.

أيقن المأمون أن استسلامه للفضل وانقياده له كان سببًا لكل ما حدث من الفتن والثورات، فأمر بانتقال بيت الخلافة إلى بغداد، وما كادوا يحلون بمنطقة “سرخس” وهم في طريقهم إلى بغداد حتى وجدوا الفضل قتيلًا في حمامه، فوعد الخليفة بمكافأة لمن يأتيه بالقتلة، ولما قُبض عليهم دافعوا عن أنفسهم بأنهم إنما قتلوه بأمر مولاهم المأمون، ولكن لم يغنهم دفاعهم شيئًا وضُربت أعناقهم.

وفي أثناء سفر الخليفة إلى بغداد نزل بطوس في فصل الخريف، وهناك مات علي الرضا فجأة، وقيل إن موته كان بسبب إفراطه في أكل العنب، فدفنه المأمون بجوار قبر أبيه الرشيد، فاهتزت الدولة لموته الفجائي الذي جاء عقب مقتل الفضل، وانتشرت الشائعات في سبب موته، فقيل إن المأمون دس له السم في العنب، بيد أن الرعاية التي أظهرها المأمون لعلي الرضا خصوصًا بعد توثيق عُرى العلاقات بعد المصاهرة قد تدفع هذه الشبهة عن الخليفة.

على كلٍّ، أرسل المأمون كتابًا إلى أهل بغداد يقول فيه إن عليًّا الذي أظهروا سخطهم وتبرؤهم من إسناد ولاية العهد له قد قضى، فلا شيء إذن يمنعهم الآن من العودة إلى طاعته، وهو ما كان له أثر في استمالة أهل بغداد، ففي هذا الوقت أخذ أنصار إبراهيم بن المهدي القلائل ينفضون من حوله لضعفه وسوء تدبيره في إدارة الحكم، وتخلى عنه جنوده ولم يتقدموا لمدافعة جنود المأمون، وساءت أحواله واضطرب نظام ملكه في فصل الشتاء، ولما دنا قواد المأمون وجنوده إلى العاصمة لمهاجمتها خرج إليهم قواد المدينة وزعماؤها يظهرون ولاءهم وطاعتهم للمأمون.

وما كادت تنتصف السنة حتى استولى قواد المأمون على المدينة، فيما اختفى إبراهيم مدة طويلة يقال إنها وصلت لثماني سنين، ثم قُبض عليه متنكرًا في زي امرأة، ثم عفا عنه المأمون.

إسماعيل بن جعفر بن سليمان العباسي

وشملت قائمة التمردات في هذه الفترة أيضًا إسماعيل بن جعفر بن سليمان العباسي أمير البصرة. يروي ابن تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» أنه بعد تولية المأمون ولاية العهد لعلي الرضا كتب إلى ابن جعفر يأمره بلبس الخضرة، فامتنع ولم يبايع بالعهد لعلي الرضا، فبعث إليه المأمون عسكرًا لحربه فسلَّم نفسه بلا قتال فحُمل هو وولداه  إلى خراسان، ومات هناك.

حركة ابن عائشة ضد المأمون

خرج على المأمون، أيضًا، إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، والمعروف بـ«ابن عائشة»، وكان خروجه في صفر من عام 210هـ. وأشار ابن طيفور في كتابه «بغداد في تاريخ الخلافة العباسية» إلى أن خروجه كان من أجل الدعوة لإبراهيم بن المهدي، الذي كان ما يزال مختفيًا حتى ذلك الوقت، غير أن نوري يرجح في دراسته أن ابن عائشة كان يدعو لنفسه.

ويروي شهاب الدين النويري في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب» أن ابن عائشة أقيم على باب دار المأمون ثلاثة أيام في الشمس، ثم ضربه بالسياط وحبسه، وضرب مالك بن شاهي وأصحابهما، ثم قتل ابن عائشة وابن شاهي ورجلين من أصحابهما صبرًا (أي حُبسوا حتى الموت)، وصُلب ابن عائشة وهو أول عباسي صُلب في الإسلام، ثم أُنزل وكُفن وصلي عليه ودُفن بمقابر قريش.

العباس بن المأمون

رغم أن العباس بن المأمون بايع بالخلافة عمه أبي العباس المعتصم عام 218هـ، إلا أنه حاول الخروج عليه فيما بعد، بدفع وتحريض من القائد عجيف بن عنبسة، وذلك أثناء توجه المعتصم إلى عمورية لفتحها سنة 223هـ.

ويروي نوري في دراسته أن عجيف لم يحظَ في هذه الحملة بمكانة لائقة كقائد عسكري مقارنة بالقائد حيدر بن كاوس الملقب بـ«الأفشين» ما أثار غيظه، فحاول دفع العباس للتمرد وشق عصا الطاعة، إلا أن شخصية العباس الضعيفة المترددة أدت إلى تأخر التنفيذ، ما تسبب في كشف أمره برمته، ثم القبض على المعنيين به، ثم قُتل العباس وأبرز أتباعه.

ويشير نوري إلى ثمة محاولات انشقاق أخرى لم تكن ذات شأن يذكر، قامت في أيام الخلفاء المهتدي والمعتضد والراضي، انتهت معظمها بقتل القائمين بها. ثم قامت بعدها محاولتان فاشلتان في عامي 296هـ و317هـ، لتنصيب كلٍّ من ابن المعتز والقاهر خليفة بدلًا من المقتدر، وكان المخطط لهاتين المحاولتين والمنفذ لها الجيش وعدد من كبار موظفي الدولة، في حين لم يكن لابن المعتز أو للقاهر دور فعال في هذا الأمر.