لكل منا قاموسه الخاص المُحمّل بمفردات قد لا تتشابه في معناها مع أي قاموس آخر، لكن «مدننا الأم» عادة ما تتشابه في انفرادها بحصة الأسد من دهشة الاكتشافات الأولى، لتشكل شوارعها نسيجاً حياً يضم هوية المدينة وأبناءها معاً، حتى ينقطع الحبل السري بالتحول الحتمي لكل ما في المدينة وفينا.

من «جريسان» لـ «كوكو سيتي»

بالنسبة لي كانت «كفر الزيات» -مدينتي الأم- هي أول احتكاك بمعضلة الانتماء. ربما صادفك اسمها في سيرة محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر، الذي ينحدر من إحدى قراها، أو في حكاية ريا وسكينة، أشهر سفّاحات مصر، اللتين كانت كفر الزيات محل إقامتهما لسنوات، أو في الروايات التي نسجت حول لغز غرق الأمير أحمد رفعت، ولّي عهد الأسرة العلوية أثناء عبور كوبري كفر الزيات النيلي، ليتولّى أخوه غير الشقيق الخديوي إسماعيل حكم مصر.

تقع مدينة وسط الدلتا التاريخية تلك غرب محافظة الغربية بمصر، في منتصف المسافة بين القاهرة والإسكندرية على الطريق الزراعي، ويمر بها خط سكك حديد مصر الرئيسي، وتحظى بإحدى أجمل الإطلالات النيلية على فرع رشيد.

يذكر «ابن جيعان» في تحفته[1] اسم المدينة الأصلي «جريسان» الذي حملته حتى عهد المماليك -وقيل إنه «الميناء النهري» في اللغة المصرية القديمة- الذي تحرّف لاحقاً إلى «جريشان»، قبل أن يلتهمها النيل وتندثر في القرن السابع عشر، فينزح أهلها للضفة الشرقية الزراعية ويُنشئوا كفراً خصب التربة يُنسب للحاج «على الزيات» الصوفي صاحب مصانع الزيت والسكر التي كانت قائمة بالكفر، الذي من المؤكد أنه سيُصاب بأزمة وجودية إذا استيقظ من تربته ليجد بعض أبناء مدينته الوقورة يدللونها بـ«كوكو سيتي» وK.Z، في دوائرهم المقربة كنوع من التدليل أو الاختصار.

نيل كفر الزيات 2019

هويات عديدة لمدينة صغيرة

تصنف المدن الصغيرة وفقاً لأبرز معالمها ومقوماتها الاقتصادية التي تُحدِّد هويتها الحضرية ودورها الإقليمي، لكن الوضع هنا يختلف ويصعب حصره في هوية أحادية نظراً لتعدد تلك القواعد الاقتصادية.

فبينما تحظى تربتها بالخصوبة المميزة لأراضي الدلتا، يُذكِّرنا ساحل كفر الزيات ومراسيها بما قدمه النيل من «البلطي» و«البياض» وغيرهما من الخيرات لشباك الصيادين في كل صباح، وعلى الصعيد الإداري والخدمي، تحولت المدينة حضرياً من كفر صغير إلى عاصمة مركز يتبعه عدد من الوحدات المحلية في القرن الثامن عشر من الميلاد، حيث بدأت لاحقاً تحولاً باكراً إلى واحدة من أقدم القلاع الصناعية بمصر والشرق الأوسط مع دخول السكك الحديدية إلى مصر وتوسع زراعة القطن في العصر العلوي، ذلك الذي غنّى له سيد درويش: نوّرت يا قطن النيل.

لعقود من الزمن كان امتلاك تجارة القطن وما يتبعها من أعمال الكبس والحلج ومختلف الصناعات حكراً على الجالية اليونانية في الإسكندرية وكفر الزيات، ففي عام 1894 تأسست «شركة أقطان كفر الزيات» لاستثمار زراعة القطن المصري والقيام بجميع الأعمال التابعة من تخزين البضائع والكبس بآلات القطن وصناعة زيت بذرة القطن وغيرها.

في عهد إدارة «ياني زربيني» وبعده ابنه للشركة، توسّعت أنشطتها وتضاعفت رؤوس الأموال واستمرت بإدارة وأسهم اليونانيين والإنجليز والسويسريين حتى قوانين التمصير بالخمسينيات من القرن الماضي، فدخل مجلس إدارتها عدد من الباشوات المصريين أبرزهم «حسين صبري» خال الملك فاروق، وكانت منشآتها وأنشطتها اتسعت في كفر الزيات والاسكندرية لتشمل معاصر الزيت ومصانع المسلى الصناعي والمصابن والأسمدة والكيماويات والأعلفة والصفيح والمسامير [2]، وغيرها من المنتجات التي كانت تصدر بأولوية الاستعمار لبريطانيا العظمى في ظل ظروف عمالة ظالمة للمصريين.

كوبري كفر الزيات القديم
شارع الشوام أوائل القرن العشرين

لاحقاً اكتمل إنشاء مصانع المبيدات والسكر والورق والفخار والأدوية والبلاستيك والصناعات الغذائية والطوب وورش الفخار، لتتم المدينة تحولها الاقتصادي بقاعدة متعددة تحتضن أهم الصناعات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة بنهايات القرن الماضي.

اجتذبت تلك التعددية الاقتصادية كثافة كبيرة للسكان من القرى والنجوع المحيطة، وعمل هؤلاء السكان الذين يقتربون اليوم من المائة ألف نسمة بالقطاع العام والخاص ذكوراً وإناثاً، وتنوّعت استعمالات الأراضي بالتبعية، فامتلأت الشوارع بالعمارات السكنية كما تناثرت فيها المصالح الحكومية والمدارس والحوانيت والعيادات والمكتبات والأسواق.

تضمن النشاط التجاري بالمدينة أسواقاً يومية متجددة، حيث تمتلئ أزقّة السوق الكبير بشارع «سعد زغلول» و«الجلاء» بالوكالات والعطارات والمطاعم ومحلات بيع الجملة والتجزئة والسرجات والمخابز والصاغة والأدوات المنزلية والأحذية والملابس، بينما تفترش أرض السوق سلال وصناديق الخضروات والفاكهة والطيور والأسماك ومنتجات الألبان الريفية الطازجة التي يجلبها الفلاحون من كافة القرى المحيطة لتبدأ الحركة التجارية النشطة من الفجر إلى الليل.

لكن الحدث التجاري الأبرز تمثل في سوق أسبوعي يُقام منذ قرون بيوم الأربعاء، حيث يتوافد الباعة فجراً من كافة أنحاء المركز ليشرعوا في تفريغ البضائع ونصب الخيام، وما إن يحل الصباح حتى يتحوّل عدد من شوارع المدينة إلى بازار مُغطّى كبير يموج بنصبات الثياب والأقمشة ومستلزمات البيت وتجهيز العرائس وغيرها من البضائع بأسعار تنافسية تجتذب أهل المدينة والقرى المحيطة من كل حدب وصوب في زحام هائل لا يمكنك شق طريقك داخله إلا بقوة الدفع.

في العقد الأخير، كان تحولاً اقتصادياً آخر يفرض وجوده على مصر باتجاه القطاع الترفيهي-الخدمي، وكانت كفر الزيات مؤهلة لذلك أكثر من غيرها بالمحافظة، نظراً لامتدادها على واجهة نيلية مميزة لعدة كيلومترات، وهكذا انتشرت بالشوارع والكورنيش الكافيهات والمقاهي الشبابية على الطرز الحديثة، كما نشطت المطاعم ومحلات الحلوى الشهيرة وبات «الديلفري» مفردة رائجة ومعتادة في المجتمع الصغير لبلدة إقليمية.

النسق العمراني

لأن المنتصر يسرد التاريخ من منظوره الخاص، حملت شوارع مصر وخدماتها أسماء جديدة منذ تولى «عبد اللطيف البغدادي» وزارة الشؤون البلدية والقروية في عام 1956، ولم تكن مدينتي باستثناء.

هكذا كان للشوارع أيضاً نصيباً من رحلة تحول حتمية عبر سنوات الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، فأصبح طريق «طنطا- كفر الزيات» الذي يبدأ من مدخل المدينة على الطريق الزراعي ويسير بمحاذاة السكة الحديد لينتهي بميدان محطة القطار يحمل اسم «الجيش»، وأصبح الشارع الرئيسي المنبثق منه ليخترق المدينة طولياً ثم يعود ليغير مساره عرضياً ثم طولياً مُجدداً حتى بداية طريق بلشاي يحمل اسم «الجيش» أيضاً بدلاً من «الترعة»، بينما تحول شارع «البحر» الذي يلتحم بالمحطة ليسير بمحاذاة كورنيش النيل حتى أطراف الحي الصناعي وما يليه من القرى التابعة إلى «جمال عبد الناصر».

تتفرع من شارع «الترعة» الرئيسي -كما ندعوه نحن الأهالي دائماً- شبكة طرق عرضية منتظمة تقطعها شوارع ثانوية في نظام تخطيطي شبكي شبه منتظم لكنه وظيفي بما يكفي لمدينة صغيرة بالأقاليم.

بكل مدينة أم، هناك شارعك الأب حيث ولدت، وهذا هو «عرابي» العريق في حالتي، الشريان الواصل طولياً بين طريق كفر الزيات-طنطا وشارع الجيش حيث نوادي التطبيقيين والمعلمين وغيرها.

يزدحم «عرابي» بوكالات الفاكهة والخضروات ومحلات البقالة والعصائر والأقمشة والصيدليات والمطاعم والمقاهي، حيث اعتاد رواد المقهى أسفل البيت وحوله لعب الطاولة وتناول الشيشة وتقييم «الأوتفيت» اليومي بشكل ضمني لكل أنثى مارة.

ربما لهذا ظلت تجربة السير المنفرد مزيجاً من السباق والتعثر فور خروجي من المنزل خلال سنوات المراهقة، حتى اكتشفت سحر الأزقة الجانبية المتمثل في خلوها من البشر عموماً، كان هذا بالطبع قبل التعرف إلى وجهها الخطر ليلاً، وقبل أن يتأكد انطباعي خلال الدراسة الإعدادية والثانوية حيث السفر اليومي إلى المعهد الأزهري بقرية مجاورة، ولاحقاً بعد الانتقال إلى القاهرة منذ بدء الكلية، فكثير من الشوارع هنا لا تتمتع بالأمان العمراني الجندري الذي ينشده التخطيط الحديث، والسير المنفرد لأنثى بمصر ينطوي على قدر من الخطورة دائماً، وكأي جانب معيشي آخر ينبغي التحايل عليه للاستمرار والنجاة بشكل أو بآخر.

حتى نهاية التسعينيات كانت الشوارع بالمدينة تنتهي بمتناثرات ومتخللات زراعية تفصل كتلة الحضر عن العزب والنجوع المجاورة كعزبة حسيبة وعفيفي، لكن بالنظر إلى الصور الجوية الحديثة للمدينة ومن مشاهداتي بزياراتي الأخيرة لها شهدت تحولاً آخر لطبيعة أطرافها، حيث تقترب الكتلة الحضرية من الالتحام بما يجاورها في ظاهرة تخطيطية تعرف بتريف الهوامش الحضرية، وتكاد المساحات الزراعية تختفي تحت وطأة المباني الخرسانية لاستيعاب كثافة سكانية متزايدة بالمدينة التي لا تملك رفاهية الامتداد في ظهير صحراوي مثلها كباقي مدن «الغربية» المحاصرة. [3]

في ما سبق، سيطر على النسيج العمراني لوسط المدينة ومناطقها القديمة التجانس البصري، حيث تشابهت المباني في طلاء الواجهات والطرز المعمارية التي تنوعت -بفضل تأثير الجاليات الأجنبية والأسرة العلوية- بين الهيليني والرومانسكي (كالكنيسة الكاثوليكية اليونانية والقصور المهجورة) والنيوكلاسيك والتلقيطي والإسلامي والحديث، وتميز الأقدم منها بالارتفاعات المنخفضة المبنية على حوائط حاملة.

لاحقاً وبتفاقم التكدس السكاني وثبات رقعة الأرض، تم تعلية كثير من المباني القديمة ودخلت البلاطات الخرسانية في المباني الأحدث وازداد ارتفاعها، وهدمت الكثير من المباني الأثرية القيمة لتنتصب بدلاً منها أبراج عالية بطرز معمارية تشذ عن النمط السائد وأسعار تمليك ترتفع كلما اتجهنا نحو الكورنيش والهوامش الحضرية المتريفة.

مدينة الـ«20 دقيقة» سابقاً

في القرن الماضي، سار «صالح مرسي» بخفة تحت أشجار الكافور، وقضى الساعات أمام نيل مدينته الهادئة بينما تختمر في عقله حبكة «رأفت الهجان» و«حرب الجواسيس» و«الصعود إلى الهاوية»، بعدما ألهمته شوارع المدينة الأنيقة بالكثير من الحكايات.

ففيما عدا أسواق الأربعاء الأسبوعية، امتازت الطرق بالهدوء، واعتاد السكان التنقل عبر المدينة بالسهولة واليسر، حيث كان السير على الأقدام هو الوسيلة الأساسية للذهاب من مكان لآخر نظرا لعدة عوامل، منها: صغر حجم الحيز العمراني وتوافر الخدمات وتنوع الأنشطة بكل شارع وإنارة الطرق وانتظام المسارات الممهدة ووجود أماكن العمل داخل الكتلة الحضرية.

ترتب على هذا النمط الحياتي انخفاض الحاجة لوسائل نقل عامة داخلية وقلة معدلات امتلاك السيارات الخاصة واستخدامها داخلياً، بعبارة أخرى، كانت «كفر الزيات» من تلك الناحية أشبه بنموذج مدينة الـ20 دقيقة الحديثة التي تجمع خواص المدن القابلة للسير Walkable والمدن المتراصة Compact cities.

لكن تلك الصورة الصحية انتهت بغزو الخنافس السوداء «التكاتك» في عام 2005، التي كان قدومها من الهند حدثاً مثيراً للاهتمام نظراً لصغر حجمها الملائم لاختراق الشوارع الضيقة وسرعتها ورخص ثمنها الذي بدأ بـ50 قرشاً للرحلة.

فتحت تلك الخنافس -التي يدعوها الأهالي «دودو»- الباب لنوع جديد من المشاريع الشبابية الصغيرة، فازداد عددها تدريجياً وازداد الإقبال عليها وتنوعت شرائح المقتنين لها. لاحقاً، اتسعت الكتلة الحضرية والديموغرافية، وتحولت العشرات من الخنافس اللطيفة إلى عشرات الآلاف من آلات الجحيم الصاخبة المثيرة للشغب والعشوائية بتسعيرة تتجاوز الخمس جنيهات وتملأ الطرق لتجعل من السير أو الهدوء ذكريات بعيدة دافئة.

وهكذا يزدحم الآن ميدان المحطة بموقف إقليمي كبير مليء بالميكروباصات وعربات البيجو، بينما في الركن الجانبي تصطف مجموعة من التكاتك بدلاً من عربات الحنطور الفخمة ذات الأحصنة المزركشة والأجراس.

معالم مميزة

عام 1851، استأنف الخديوي عباس الأول إنشاء خط السكة الحديد الأول بإفريقيا والثاني بالعالم، لتسير أول قاطرة على أول خط حديدي في مصر بين القاهرة ومدينة كفر الزيات في عام 1854 [4]، بعدها بقرن تقريباً، وقفت «فاتن حمامة» على أرصفة محطة كفر الزيات العريقة لتمثل دور البطولة أمام «محمد فوزي» في أحد الأفلام.

المحطة التي تقع بقلب المدينة القديم هي علامة مميزة منذ القدم، شيّد مبناها على أحد الطرز الكلاسيكية الغربية قبل أن يتم تجديدها، ونصب أمامها الموقف الإقليمي وميدان كبير تتوسطه نافورة معطلة ومهملة مثّلت محاولة تخطيطية لتشكيل الميدان بصرياً، وكانت واحدة من إسهامات رئيس مجلس مدينة نشط، قضى سنوات عمله بأواخر التسعينيات وأوائل الألفينات في إنشاء الميادين والجداريات وتجديد أرصفة الشوارع وعمل المداخل وصيانة الحدائق والمرافق، بينما يجلس وسط العمال على كرسي تحت مظلة صغيرة ليراقب سير العمل ويسمع شكاوى المارة؛ ربما لكل هذا ما زال الاحترام وطلب الرحمة يقترن باسم اللواء «حامد الحسيني» إلى يومنا هذا في ثقة وامتنان يندر منحهما من الناس لأحد أبناء المؤسسة العسكرية بمصر الحديثة.

يلتحم الميدان يميناً بطريق طنطا-كفر الزيات، وعدد من المباني متعددة الاستعمالات ومدخل السوق الكبير ومحكمة كفر الزيات ومكتب البريد اللذين تم تجديدهما كليا دون اهتمام كاف بمراعاة اصول الترميم للمباني الأثرية.

وإلى يسار الميدان، يمتد كورنيش النيل (الحد الطبيعي للمدينة) حيث أقيم مدخل الكوبري القديم ومجلس المدينة ذو الطراز المميز الممتد للأسرة العلوية (قصر الملك فاروق قبل ثورة يوليو) والسنترال العام وبنك مصر (حيث عملت أمي وقضيت طفولتي).

للواجهة النيلية في المدينة أهمية خاصة، ففي أمسيات الصيف الرطبة يكتظ الكورنيش بالعائلات والشباب من الأهالي والمراكز المحيطة، ليحظى الجميع بإطلالة نيلية منعشة من كراسي النادي أو مقاعد البلدية الحجرية أو طاولات الكازينوهات الحديثة بينما تصطف عربات حمص الشام (حلبسة) والفشار وغزل البنات والذرة المشوية، وتمتد درجات سلالم لأسفل لتصل إلى المراسي التي تتهادى فيها المراكب.

نادي كفر الزيات
شارع الكورنيش بكفر الزيات

وفي مواسم الأعياد والمولد النبوي، كانت تلك البقعة هي جنة كل طفل بمركز كفر الزيات تحت الـ14 عاماً؛ حيث تعلو نغمات الأغاني والتواشيح المترددة عبر الكاسيتات والاستيريوهات ومكبرات الصوت، وتتلألأ أفرع المصابيح المضيئة بإيقاع ألوان راقص حيث ينصب الغجر والجوّالة خيام أرجوحة الأحصنة الدائرية الكبيرة وعربات «القوارب المزدوجة»، والدواليب الدوارة «الزقازيق»، ويجرّون كابينات التصويب بالبنادق «النشان» وفاترينات الإكسسوارات، كما يتم تأجير الأحصنة والحمير الحية المزينة لجولة على امتداد الشارع، وتتكدس الأرض بباعة الذرة المشوي وغزل البنات والحلوى وغيرها، ويتنافس الباعة الجائلين في عرض الطرابيش والطراطير والبُمب والصواريخ ومسدسات الخرز والماء، وتزدحم المراكب بالأطفال والكبار في رحلات نيلية قصيرة.

بعد قضاء ظهيرة مزدحمة في خيام الجوّالة، كنت أعبر النيل بصحبة أبناء عمي والكبار إلى الضفة المقابلة «البر الثاني» حيث محافظة «البحيرة» لتناول العصائر في كافيه «كوكب تاني» المفتوح، حيث حديقة صغيرة تتناثر بها بضع طاولات وأرجوحة أمام النيل في أجواء سحرية من كوكب آخر.

بنهاية المنطقة المعمورة للكورنيش، يقف قصر الثقافة العتيق، وعدد من المباني المتعددة الاستعمالات، قبل أن ينتهي التكتل الحضري برائحة الكبريت الخانقة المميزة لمنطقة المصانع.

صناعة التلوث

أنا لم ألوث ماء النهر، لم أمنع الفيضان في موسمه، لم أقم سداً للماء الجاري، أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى. [5]

هكذا يقف المصري القديم في قاعة العدالة يوم الحساب أمام «أوزوريس» وباقي الآلهة، على مقربة من موازين ريشة «ماعت»، ليتلو اعترافاته وينكر ارتكاب الجرائم المقدسة التي كان أفدحها تلويث النيل.

بنهاية الكتلة الحضرية على الكورنيش، وتحديداً على بعد أميال بسيطة من حديقة «سوزان مبارك» التي تغيّر اسمها إلى «الحرية» بعد ثورة يناير 2011، يمتلأ الهواء بأدخنة شركات المنطقة الصناعية، ومنها «الملح والصودا» و«كفر الزيات للكيماويات والمبيدات» و«المالية والصناعية»، والتي يطل بعضها على النيل حيث انتشرت تلال الكبريت الفسفورية والرافعات والجرارات، الأمر الذي يخالف قواعد التخطيط واستغلال الواجهات المائية بالمدن، ويؤدي لتفاقم التلوث البيئي حيث ترتفع بالمدينة وقراها المجاورة معدلات تلوث الهواء ويتنفس السكان غازات كـ«فلوريد الهيدروجين» و«ثاني أكسيد الكبريت» الذي تزيد معدلاته عن المعدل المسموح به عالميا (350 ميكروجرام/م3) وفقاً للعديد من الدراسات الدولية والمحلية، كما تصل معدلات تلوث مياه النيل الذي يتم فيه التخلص من النفايات الصناعية المشعة إلى الحد الذي تكررت معه ظاهرة نفوق الأسماك سنوياً منذ عقدين حتى الآن ويهدد الثروة السمكية بفرع رشيد الذي لا يقتصر تلوث مياهه على اختلاطها بالصرف الصناعي فحسب، بل يمتد الأمر للصرف الزراعي والصحي كذلك في ظل قصور كبير لشبكات الصرف الصحي والرقابة البيئية بالمحافظة مما يؤثر بالتبعية على نسبة تلوث التربة والمحاصيل.

وعلى الرغم من تصاعد شكاوى الناس وطلبات الإحاطة من نواب البرلمان وإجراء التحقيقات والتفتيشات البيئية وتحويل مصارف أهم الشركات بعيداً عن النيل، ظلت معدلات الإصابة بأمراض الرئة وفشل الكلي والكبد والسرطانات في ارتفاع، ربما يفسر هذا أحد مشاهد مراهقتي حيث تمتد طوابير المرضى من وحدة التأمين الصحي إلى الشارع بينما يحملون بأيديهم بطاقة التأمين البرتقالية البائسة.

الآن بينما أستنشق موسعات الشعب الهوائية في مواسم الحساسية بمصر، يثير سخريتي بشكل خاص أنني لمدة طويلة بعد مغادرة المدينة لم أكن على وفاق مع مياه الشرب الخالية من الطعم المعدني والرائحة الغريبة لمياه كفر الزيات؛ من الغريب كيف يصعب تخلص الانسان من انتمائه لبيئته الأم، مهما تلوث رحمها.

دوائر الوطن الأصغر

في واحدة من عمارات «عرابي» المكوّنة من 4 طوابق -يحتوي كل منها على 4 شقق- كان بيتنا، كانت واجهته الجانبية هي المفضلة لدي حيث أطلت على سنديانة معمرة شاهقة الارتفاع والضخامة وأقرب لبيت خشبي كبير تجاورنا فيه عشرات العائلات من الطيور والعصافير، انتصبت جذور السنديانة في ساحة فارغة لموقف أوتوبيسات عامة متهالكة، يقابله على الناحية الأخرى سور محطة القطار المنخفض الذي كلما مر خلفه قطار محافظات سريع ارتج البيت حتى تخفت صفارة القطار بابتعاده.

أطلّت الجهة الخلفية للبيت على مكتب البريد وقسم الشرطة حيث كانت تصلنا ليلاً صرخات معذبة غامضة.

في تلك العمارة وغيرها تلاحمت علاقات الجوار والصداقة، كان بوسعي معرفة أسماء الجيران الكبار وتبادل التحيات معهم ولعب الكرة والورق والمصارعة مع أطفالهم في طرقات المبنى وعلى سطحه، بينما تبادل إخوتي الأكبر القصص وشرائط الكاسيت مع نظرائهم من الجيران، وتبادلت الأمهات أطباق المحاشي والحلوى، وتبادل الجميع الزيارات لتقديم التهاني والتعازي، وفي بعض وقفات الأعياد كانت السيدات تفترشن طرقات المبنى الواسعة بأوعية العجين لتجهيز كعك العيد بينما تشدو الست بـ«يا ليلة العيد» ونتقافز نحن الصغار حولهم كالقرود.

خارج البيت، كان الذهاب لمكتبة مركز الشباب أو التسكع في أكشاك الصحافة بشارعي البحر والمطافئ لشراء أعداد «روايات مصرية للجيب» و«صرخة الرعب» ومجلة «ماجد»، هو أهم ما يقدمه لي التجول بالمدينة، بينما شكّلت مقاعد الكورنيش وحديقة ساحة المحكمة -المزمع هدمها حالياً- أبواباً لعوالم الخيال.

في مدينة ككفر الزيات لم تكن الحياة مملة لطفلة في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية، حيث ألعاب «الأتاري» وبرامج التلفاز وتجميع البوكيمون وتسجيل الأغاني على شرائط الكاسيت وطريق المدرسة حيث يهرول الجميع ركضاً بعد انتهاء الدراسة، أو ينتشرون في الشوارع احتجاجاً على استشهاد «الدرة»، أو انتظاراً لمواكب الطرق الصوفية يوم المولد النبوي.

في عصر أيام المولد، كانت المدينة اللاأصولية تكتسي بألوان الرايات الصوفية بينما تهتز جدران المنازل لدى سماع التواشيح التي تلقيها مواكب الطريقة الرفاعية والبرهانية والشاذلية وغيرها بمصاحبة الدفوف العملاقة ومكبرات الصوت المتنقلة التي تطوف أرجاء المدينة، وبينما يطوف الأتباع في الجلابيب والطواقي البيضاء، كان ينضم إليهم عديد من الأهالي، وتزدحم الشرفات بالرؤوس التي تتابع الموكب في شغف، وكنّا «نساء العائلة وأطفالها» نجتمع في بيت خالتي الكبرى المكلفة بإعداد الطعام وتحضيره لأبناء «الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية» والمساكين والدراويش من كافة المحافظات.

وفي الشرفة الطويلة كنّا نقف في دوريات مراقبة إلى أن يصرخ أحدنا «الموكب وصل» لتنحشر العائلة بأجيالها في الشرفة وتشهد موكب الطريقة العملاق يدلف للشارع ويملؤه من الناصية إلى الناصية، حيث تتعالى الأصوات بالإنشاد والذكر لثلثي الساعة ثم يصعد الجمع بالتعاقب إلى سطح المنزل لتناول الطعام قبل سفرهم، حتى يخلو البيت في المساء المتأخر للمّ شمل عائلي بهيج.

عبر كل هذا صاحبتني شوارع المدينة لتكون شاهداً على تسعينيات وادعة هي حلقة الوصل بين الأصالة والجنون، وآخر الجزر التي ما من خيار بعدها سوى القفز في ألفية قاسية والتكيف مع عبثيتها.

لكن سمات ما بعد الحداثة التي تحولت إليها المدينة في بعض الأوجه بالعقد الأخير لا تعني تطوراً حضرياً في ظل غياب الوعي الحاكم والشعبي، إذ يستحيل الهدوء المريح لصخب شاذ، وتتخلص الكازينوهات والمنتزهات النيلية والمصانع من مخلفاتها في النيل، وينتشر الباعة الجائلين وتمتد يد السلطة الاستثمارية لانتزاع المساحات الخضراء العامة وبسط أبراج الغابات الخرسانية، وبغياب الصيانة تتهدم الأرصفة ومقاعد الكورنيش ومرافق المدينة وتنتشر القمامة في الشوارع المختنقة بتكاتك غير مُرخّصة وتتهالك الميادين والعلامات المميزة، لتصبح مفردات الحداثة مزيج من مركبات الفوضى التي تطمس هوية مدينتي الأم الجميلة تدريجياً، وتسرق معها ذاكرتي.

المراجع
  1. شرف الدين يحيى ابن الجيعان، “التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية”.
  2. إيمان عبد الله التهامي، “تاريخ وتطور شركات الحلج وكبس القطن في مصر: دراسة وثائقية”، مجلة بحوث الشرق الأوسط، 2020.
  3. أ. ع. الخولي، “تحليل وتقييم إمكانية التكثيف العمراني لاستيعاب النمو المستقبلي في مدن الدلتا: دراسة تحليلية للهيكل العمراني واسعار الأراضي، Analysis and assessment of Journal of Urban Research، ص ص 100-117، 2016.
  4. “الهيئة القومية لسكك حديد مصر”، الموقع الرسمي.
  5. “كتاب الموتى: الخروج إلى النهار”، فصل 125.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.