في كل سنة يُنشر ما يقارب 2500 كتاب متعلق بالتنمية البشرية أو المساعدة الذاتية، ويجني المؤلف على الأقل 1000 دولار أمريكي سنويًّا، غير المجني من الترجمات ونشر الكتب بعدة لغات. كما وصلت محاضرات تيد (TED) إلى 100,000 فيديو، وحسبما ما نشاهده فغالبيتها عبارة عن تنمية بشرية، وتحفيز لحظي أو قصير الأجل. نلاحظ اليوم وجود ملايين المؤثرين الذين يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي، من الممكن أن نعدَّ نصفهم مؤثرين فاعلين يعملون على تغيير مجتمعاتهم، أو يهتمون بإيصال رسائل التغير الإيجابي للمجتمع، وغيرها من الخطابات والمدونات والفيديوهات المتعلقة بالتحفيز.مرَّ بعضنا بمرحلة تكاسل وخمول أو اكتئاب أو وُضع تحت سؤال: ماذا عليَّ أن أفعل؟ ومع وصول الإنترنت إلى جميع أنحاء العالم، أصبح من السهل تغير مزاجنا أو الحالة النفسية التي نحن بها، عبر دخولنا إلى قراءة الكتب التحفيزية أو الاقتباسات التي بداخلها، أو مشاهدة المقاطع التحفيزية، تلك التي تهدر فيها أصوات الجماهير، وتتزاحم في الخلفية الموسيقية نغمات الحماسة، والشعور بالغضب الداخلي ووجوب التحرك والامتعاض المستمر إلى نهاية المقطع. لا شك أن الشعور يعمل على تغير الحالة أو الشعور بالسعادة وإفراز هرمون سيروتونين المسئول عن ضبط المزاج، ولكن…

التحفيز يؤثر (ويتأثر) على العاطفة والمجتمع والمعرفة التي بدورها ينشط السلوك المربوط بالاحتياج، ويعتبر العملية التي تبادر وتوجه وتحافظ على السلوكيات الموجهة نحو الهدف أو الفكرة المهمة. سواء كان الحصول على كوب من الماء كونه عطشانًا، أو قراءة كتاب لاكتساب المعرفة.


كيف بدأ استخدام التحفيز كسلعة؟

عندما نتعامل مع الناس، دعونا نتذكر أننا نتعامل مع مخلوقات العاطفة وليست مخلوقات المنطق، مع المخلوقات نحن نتعامل مع مخلوقات العاطفة، المخلوقات المليئة بالأفكار المسبقة وتحفزها الكبرياء أو الغرور.

قالها ديل كارنيجي قبل أكثر من 85 عامًا. كارنيجي محاضر شهير في مجال التنمية الشرية خلال حقبة أزمة الكساد في أمريكا مستغلًّا عواطف الناس وقتها، وهو بالغالب الأب الروحي للحركة Self-help والتنمية البشرية والذاتية، التي أصبحت اليوم صناعة تقدر بملايين الدولارات. وألف كتابًا بعنوان «كيف تكسب الأصدقاء والنفوذ» في عام 1936، وبِيع منه أكثر من 16 مليون نسخة حول العالم، و شجع الآخرين على القيام بالكثير كما فعل قائلًا:

اكتبوا نصًّا حول كيفية تمكين الآخرين وتحسين أنفسهم.

عام 1987 نشر ورقة علمية بعنوان: «كتب المساعدة الذاتية: العلاج وتسويق العلاج النفسي»، حيث ناقشت التسويق التجاري للكتب وغيرها، وذكرت أن مشكلة كثرتها بالأسواق وأسعارها المبالغ فيها هي أكثر دلالة على أن هدف الكتب تجاري بحت، بالإضافة أن الورقة فحصت وبحثت بعض نصوص الكتب التي حملت معاني التحفيز مثل: (لا تخف، قف، انطلق، لا للمستحيل، تغلب على الحزن، القوة)، وهذا يعبر عن أسلوب تسويقي للكتب ليس إلا، ولا تقدم أي تقنيات سلوكية إدراكية ذات حلول للمشاكل. وضع الباحثان القائمان على الورقة سؤالًا منطقيًّا هادفًا: هل استمع علماء النفس والتحفيزيون إلى نتائج كتبهم؟ والإجابة كانت:بشكل عام، عندما ننظر إلى هذه الورقة وما توصلت إليه وننظر مرة أخرى إلى العام الذي نُشر فيه، فيجب علينا الانتباه وإنقاذ أنفسنا من هذه الأوهام، هناك اندفاع متهوِّر بنشر مثل هذه الكتب والخطابات وما شابهها، خصوصًا اليوم في عصر المعلومات وسهولة الوصول إليها عبر الإنترنت والأجهزة الذكية.


التحفيز من شعور إلى ثقافة وترفيه

يقاس التحفيز كنتيجة بين ثلاثة عوامل وهي: (التفعيل، الإصرار، والشدة)، لكن الإنترنت فتح بابًا واسعًا ومجالًا خصبًا للتنمويين (بعض مدِّعي التنمية البشرية) لجعل التحفيز منتشرًا ويواكب احتياج البشر، حيث تراجعت معدلات القراءة وأصبح ترويج التحفيز مستهلكًا ويحاكي المؤسسة التربوية الأولى، أي أنها صورة ثقافية عالمية جديدة، فتحول التفعيل لمجرد نقرة لمشاهدة فيديو تحفيزي أو قراءة غلاف لكتاب تحفيزي دون البحث الحقيقي عن المصدر أو قراءة تحمِل تكافؤ الفرصة وتساويها، والإصرار ما هو إلا مجرد انحياز تأكيدي لجعل القلق أو الفشل مُخدِّرًا فقط وهو يدخل منظومة استسهال المشكلة بدلًا من حلها، مما جعل التحفيز مجرد منتج يباع ويشترى.الآن معظم التنمويين والتحفيزيين ينشرون القصص ويطبعون الكتب، وأصبح الإنسان مستهلكًا من احتياجه للتحفيز إلى معرفة الأحداث اليومية لهؤلاء التنمويين عبر Vlogs، والانتقال من الاستقلالية إلى التبعية عبر تقليدهم.


كيف يمكننا فهم التحفيز بالصورة الحقيقية؟

1. الانتباه

هو مؤشر الاهتمام وتركيز الوعي وضبط الفوضى والمعلومات. الانتباه محدد ومحدود، فالمنافسة شديدة أمام التدفق المعلوماتي الذي نتعايش معه، فيجب علينا استخدامه بطريقة ذكية عند قراءة الكتب أو مشاهدة المقاطع عبر البحث وحل المشاكل بطريقة منطقية لا أن نختار آراء الآخرين.

2. الانضباط الذاتي

«إبراهيم مثله مثل شاب في أوائل العشرينيات تُوفِّي وإبراهيم في سن الثالثة، يقطن في أوروبا وتحديدًا في الدنمارك، ودائمًا أمه تحثّه على الانتباه على نفسه وأن يعود إلى المنزل مبكرًا وأن يستمر في دراسته ويساعد أخته الصغيرة. وفي حالة طارئة وجد أن أمه لديها مرض السرطان الخبيث ومع مرور الوقت توفيت والدة إبراهيم. وفي يوم من الأيام وجدنا إبراهيم يعمل كعامل نظافة في إحدى الفنادق 8 ساعات يوميًّا، ويدرس في جامعة العاصمة بالتخصص الذي يحب، ويطهو الطعام لأخته ويصطحبها إلى المدرسة»..قصة سخيفة أليس كذلك؟لكن دعونا نفكر بماذا فعل إبراهيم، هو لم يطبِّق وصية والدته كما فهمنا، في الحقيقة هو تقبَّل الألم لفقدانها، وهنا بدأت مرحلة الألم بتحفيزه بضبط نفسه والخروج مما كان عليه. هذه حقيقة لذة التحفيز الحقيقية غير المدركة من قبلنا.

3. التواصل والبحث

فكرة التواصل مع أنفسنا مهمة جدًّا، فمن خلالها يمكننا التحليل ووضع فرضيات تساعدنا على إيجاد حلول لمشكلة العجز أو القلق أو الخوف في حالة ما، التواصل ما هو إلا أداة تعجلنا نبحث على ما هو أفضل لنا، وتعزز لنا الشعور التفاضلي عند مواجهة الأشياء وعدم استسهال الأمور وانتظار رأي الأغلبية عند الموقف، على سبيل المثال أن تكون المشكلة بأن مديري بالعمل غير مساوٍ وظالم بيني وبين باقي الموظفين، فمن الممكن البحث عن نماذج مشابهة جدًّا لهذا الموقف من الآخرين، وبذلك استفدنا من أخطائهم. (موقع quora.com يقدم كثير من مثل هذه النماذج).

صناعة العادات

أولًا لا يمكن افتراض أن فعالية برنامج (أو النموذج أو القصة) العلاج في مجموعة واحدة من الشروط التي يمكن تعميمها على جميع الظروف، فكل شخص له معطيات مختلفة وبيئة مختلفة، ثانيًا من الممكن أن تؤدي البرامج التحفيزية غير الفعالة في الواقع إلى تفاقم مشكلة ما، وإهدار الوقت والجهد من غير نتيجة، ثالثًا أغلب المؤلفين مرتبطون بالترويج.

«هذا اليوم سيكون جميلًا»، تخيل هذه الجملة تقولها صباحًا عندما تستيقظ من نومك، بالضرورة ستخلق لك مزاجًا يجعلك مرنًا مع مواجهتك للمشكلات، وهذه مجرد عادة دقيقة وصغيرة جدًّا، أو وضع مبلغ معين شهريًّا للطوارئ، أو الكتابة حتى، وغيرها من الأشياء البسيطة، قياسًا لذلك قم بإدراج التوقعات السيئة واصنع لها عادات تخلق نتائج جيدة.نهايةً، كي نستطيع فهم واقع التحفيز المستخدم كسلعة يجب علينا أن نفهم المضمون العميق بالسوق الاقتصادي في العالم، الذي يستخدم عواطفنا كاستدراج وجذب لشراء منتج هو معنوي بالأساس، التدفق الهائل لكتب المساعدة الذاتية والتنمية البشرية أنشأ مصنعًا احتكاريًّا تنظيريًّا للجماهير وبه جذب غير منطقي للمشاعر والعواطف، ولكنها منسجمة ومتصلة بالألم أو الشعور السيئ، وتتناسب مع غريزة الإنسان الأولى وهي البقاء، مما جعل الإنسان فريسة سهلة لهذه الوسائل، لكن في المقابل الإنسان يمتلك عقلًا مبدعًا، وثقافةً واسعة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.