حينما تكبر مشكلاتنا، وتزيد توابعها وعواقبها، وتلح علينا الحاجة إلى معالجتها والتخلص منها فإننا نحاول أن نلمح لها حلولاً في كل ما هو حولنا، وتزداد تلك الرغبة إلحاحًا كلما لمست المشكلة عمادًا أساسيًا من أعمدة وركائز حياتنا. ولا أعتقد أن هناك مشاكل أكثر خطورة وعواقبها أكثر كارثية من مشاكل منظومتنا التعليمية المحتضرة على فراش الموت. فصارت روح هذا النظام المنهار تتبلور لنا في كل شيء حتى أثناء مشاهدة برامج الأطفال!

مستر كروكر هو إحدى الشخصيات الكرتونية في مسلسل الأطفال الشهير «الوالدان السحريان»، حيث كان يلعب دور معلم في المدرسة الابتدائية التي يرتادها «تيمي ترنر» بطل هذا المسلسل. كان مستر كروكر رغم عمله كمعلم للأطفال إلا أنه يعاني من عقدة نفسية تجاه هؤلاء الأطفال لدرجة أنه قد اتخذ «تيمي ترنر» عدوًا له يطارده ليل نهار للحصول على والديه السحريين اللذين يحققان له أحلامه، ويتعمد إهانته خلال تواجده في المدرسة، وامتدت تلك الكراهية حتى جعله يرسب في الاختبارات. أما في الحياة الشخصية لمستر كروكر تتجلى الأسباب الرئيسية لتلك التصرفات السيئة فنجد أنه يعاني من عقدة نفسية منذ أن تم حرمانه من والديه السحريين عندما كان طفلاً فكبر وهو يطارد تلك الأوهام ويحاول انتزاعها من أي طفل آخر.

وفي نفس هذا المسلسل الكرتوني كان لابد أن تظهر الشخصية الشريرة كأي عمل كرتوني آخر، وعلى غير المعتاد أن قام بهذا الدور المربية «فيكي» المسئولة عن الاهتمام بتيمي ترنر، حيث كانت امرأة سادية، تستمتع بتعذيب هذا الفتى البائس حين تسنح لها الفرصة بخلع قناع المربية الطيبة التي تعتني بالأطفال، و تنطلق ضحكاتها الشريرة إزاء معاناته وتعذيبه مما يدل على أنها مجنونة أو مختلة نفسيًا.

وتظل معظم حلقات هذا المسلسل تدور حول محاولة تيمي للهروب من جنون معلمه وبطش مربيته المرعبة بمساعدة والديه السحريين.

رغم أن هذا المسلسل عمل خيالي تملؤه الأحلام التي دائمًا ما تتحقق والطيران بأجنحة الفراشات وخصلات الشعر الوردية والعصي السحرية اللامعة والانتصار الدائم على الشر؛ هذا لكي يتناسب مع طبيعة الأطفال الحالمة إلا أنه يلمس الواقع ويمثله بشدة، فكل مؤسسة تعليمية لا تخلو من بعض المسئولين غير المتزنين نفسيًا، ويتضح هذا في الحوادث المتكررة التي نسمع بها من الضرب المفرط، والسب بأبشع الألفاظ، وتعدى هذا الأمر إلى ضرب التلاميذ بالأحذية، وحوادث الاغتصاب، ولا أظن أن هناك سببًا لتلك البشاعات أكثر إقناعًا من أن هؤلاء المعلمين مختلون نفسيًا وكأن هناك آلاف النسخ الواقعية من تلك المربية المجنونة في كل مكان.

وليست حوادث العنف وحدها هي الدالة على هذا الخلل المرعب في نفوس المعلمين والمربين وإنما مواقف أخرى مغايرة والتي تتمثل في النوع «الهلامي» من المعلمين، والذي ينتج عنه نوع مغاير من حوادث العنف التي تصدر من التلاميذ ضد المعلمين، وهذا لا يعني أن هذا هو السبب الوحيد لمثل تلك الأفعال، لكنه عامل لا يمكن تجاهله. وبالطبع كلنا شاهدون على الكثير من المواقف التي توضح هذا خلال حياتنا الدراسية.

وهناك النوع الثالث الذي يمثل النسخة الواقعية لمستر كروكر، فإذا كان مستر كروكر صائدًا للجنيات، ويسعى ليل نهار لنصب الفخاخ واختراع الآلات من أجل الإمساك بها معتقدًا أنها ستحقق له أحلام طفولته، فإن هذا المعلم صائد للدرجات ويسعى ليل نهار لابتكار وسائل بعيدة كل البعد عن طرق التدريس والتربية الصحيحة لتحويل المادة الدراسية إلى شيء يسهل تخزينه في عقول التلاميذ حتى يوم الامتحان من أجل تحقيق هذا الحلم الذي يطارد جيل الكبار حتى الآن في أن يصير الفتى طبيبًا، والغريب في الأمر أنهم يرغبون في هذا (عشان الناس تقوله يا دكتور). وغالبًا ما يكون هذا النوع من المعلمين هو القدوة والمثل الأعلى للتلاميذ.

لا يمكنني القول بأن هذا النوع من المعلمين يعاني من خلل نفسي، ولكنه على الأقل يعاني من خلل ما. خلل يجعله يتخلى عن رسالته السامية كمرب ليتحول إلى صائد يبحث عن الدرجات في كل كتاب وبين طيات كل ملزمة، خلل يجعله يتخلى عن أرقى طرق التدريس والتربية ويستخدم وسائل كارثية مثل تحويل درس الفلسفة إلى أغنية يرددها التلاميذ ويرقصون على أنغامها.

ونتخطى الحديث عن هذا التشابه بين معلمي الواقع وبين تلك الشخصيات الخيالية المجنونة إلى تشابه بعض المواقف الفردية التي يتم التعامل معها كأمراض مزمنة قد أصابت البيئة التعليمية ولا يمكن معالجتها بل محاولة التكيف معها، فإذا كان مستر كروكر هو أحد أسباب تعاسة تيمي ترنر فإن أحد الأسباب الرئيسة في الواقع لفرار التلميذ من دراسة مواد وتخصصات معينة هو معاملة المعلمين السيئة التي لا تمت للتربية والتعليم بصلة. وإذا كان مستر كروكر يتعمد أن يرسب تيمي في الاختبارات كانتقام منه، فإننا نجد ملايين المعلمين الذين يتعمدون مثل هذا الأسلوب في إجبار التلميذ علي الدروس الخصوصية، وإذا كانت المربية فيكي تكره الأطفال وتعذبهم ورغم هذا تعمل كمربية أطفال من أجل المال، فإن الواقع لا يخلو من أمثال تلك المربية المخيفة.

لقد تعلمت في الجامعة أن المعلم يجب أن يكون متزنًا نفسيًا وعقليًا، ويجب أن يخلو من العقد النفسية والأخطاء الشكلية الواضحة مثل التلعثم في الكلام أو قصر القامة بشكل ملفت، وأتذكر جيدًا المقابلة الشخصية التي أجريتها عند طلب التحاقي بكلية التربية حيث كان الهدف منها كما أخبرونا التأكد من صلاحية المتقدم لمهنة التدريس وفي الحقيقة لم يكن فيها ما يقيس تلك الصلاحية، وإنما كانت كأي إجراء روتيني خر حيث دخلنا أفواجًا من المتقدمين إلى مكتب الدكتور المكلف بإجراء هذه المقابلة، وخرجنا أفواجًا بعد خمس دقائق على الأكثر كأشخاص مناسبين لإعدادهم كمعلمين ومربين. والآن بعد قرابة الثلاثة أعوام من الدراسة بكلية التربية لا يزال نسبة الغاضبين على مهنة التدريس من زملائنا كبيرة تتجاوز 90% منهم. يسعون وراء أي فرصة أو وسيلة تخرجهم من إطار التدريس إلى أي تخصص حياتي آخر، يجتهدون ويكدحون لا من أجل الإيمان بالرسالة العظيمة التي كلفوا بها وإنما من أجل تعزيز فرص الفرار من حمل تلك الرسالة إلى أي عمل آخر. وبهذا نجد أن كليات إعداد المعلمين لا تعد المعلمين الأسوياء من الجانب النفسي والمهني بقدر ما تخرج لنا كل عام أفواجًا من أمثال فيكي الشريرة ومستر كروكر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.