إنَّ المُشاهد لعملِ «Mr. Robot» بعينٍ سطحيّة، بعيدًا عن نقدٍ عميق ووافٍ له، سينتهي إلى خيبةِ أمل، ولنْ يُعوّل على هذا المسلسل بالمرّة، ويمكن أنْ يصلَ به الأمر ليصفَهُ بالسذاجةِ حتّى! ومما لا شكَّ فيه أنّ هذا من الإجحاف، وأنّ هذا العمل يُناقش قضايا في غاية الأهميّة وعلى صُعدٍ عدّة.

بدايةً، ظاهرُ هذا العمل يدور حول رجلٍ يُدعى Elliot، Hacker متمرّس ومحترف، مُطارد من شبح والده المتوفّى الذي كان يعمل في شركة Evil Corp، وقد أمضى Elliot حياته مُتّهِمًا Evil Corp بوفاة والدِه، وعزمَ أيضًا على البدءِ بثورةٍ تنسف هذه الشركة المستبدّة، ثورة إلكترونيّة باستخدام القرصنة، التي يحترفها Elliot بشكل عبقري منقطع النظير، ومن هنا لن أخوض في أحداث المسلسل، وإنّما سأحلّل أبعاده وفلسفته، وبعبارةٍ أخرى سأفكك «الماورائيّة» فيه.

تنقسم آحاد هذا العمل إلى قسمين رئيسيين، ويجمعُ Elliot شخصيتين في ذاتِه، إذْ إنّه مصاب بفصام عنيف جدًّا، الشخصيّة الأولى تتجلّى بلا انتمائِه الوجودي، وبتعبير آخر يملك شخصيّة نيتشويّة ومثاليّة إلى حدٍّ كبير، ففي هذه الشخصيّة هو «لا منتمٍ» كولن ولسن، وفي الشخصيّة الثانية التي نراها في المسلسل على أنّها والده مرتديًّا مِعطفه والمكتوب عليه Mr. Robot، هي شخصيّة متمرّدة أنشأت Fsociety وهي من تحرّكه في سبيل ثورته، ويغلب عليها طابع الرفض، التمرّد، والنقم على المجتمع كما في فلسفة ألبير كامو، ولكن تكمن أشياء مشتركة بين الشخصيتين، وحتّى بين الفلسفتين النيتشوية والكاموية، فالحياةُ عبثٌ ومآلها العدم على حدِّ زعمهما، وإنّ كانَ كامو أشدّ تمرّدًا ورفضًا لما حوله، إلّا أنّ التصوّر سيّان.

المجتمعات بشكلٍ عام تخاف من الأطروحات غير المفهومة، وقد تسبب رهبة شديدة وواضحة لها، وMr. Robot هو أحد هذه الأشياء غير المفهومة، وإنْ كانت ظاهريًا تُعبّر عن ثورة وما إلى ذلك، ولكنّها في حقيقة الأمر هي أبعد من ذلك بكثير، ولو تناولنا نيتشوية العمل كمقدّمة، سنجد العدميّة تسيطر على Elliot مستعينًا بالمخدّرات لتناسي ألم الواقع وغياب المعنى لديه، ويحاول جاهدًا أن يهرب منه، وأنْ يهرب أيضًا من شبح والده!

فلسفة نيتشه أصبحت ملحوظة في كثير من الأعمال، فمنْ قبل Mr. Robot رأيناها في مسلسل True Detective ولكنْ بفهم مختلف لنيتشه، يتضمن وحشيّة الإنسان

فعلى الرغم من الدمار الذاتي الذي يعيشه في شخصيّة Elliot فإنه يفضّلها على شخصيّة Mr. Robot، لأنّ النيتشوية في نظره هي نظرة سلام للعالَم، بعيدًا عن العنف والثورة الكاموية! ولكي لا يُساء فهمي هنا، فما أودُّ عرضهُ هنا هو قراءة مختلفة لنيتشه في شخصيّة Elliot فهي نيتشوية تقتصر على العدميّة والانعزالية، ولا يحمل فيها Elliot مطرقته، ولا يُصنِّف هذا وذاك، فهي نيتشوية تتمثّل في نهاية نيتشه، والناظر في نهايته، سيرى ذلك أيضاً، فنيتشه إنسانيٌّ على رُغمِه، فقد وقعَ مغشيًّا عليه جرّاء رؤيته لسائقِ عربة انهال ضربًا على حصانه في أحد ساحات تورينو في إيطاليا!

غياب المعنى لدى Elliot، ومحاولة إيجاده لهذا المعنى متخذًا ثورته كسبيل، ولّدَ تناقضًا في شخصيّته، على شكل صراع ملحمي بين هاتين الشخصيتين، الأمر الذي أدى لظهوره كالمجنون أمام النّاس، والجنون هنا أمر نسبي، يحدده السائد عادةً، وإنْ تجاهلنا تشريعات الدين؛ فستصبح النسبية هي التشريع، ولن يُوجد صح وخطأ، وإنّما «رأي السائد»، فالمجنون في مجتمع معيّن، من الممكن أنْ يكون عاقلًا في مجتمعٍ آخر، إذن ستضيع الهويّة في دهاليز النسبيّة هذه! وسيصبح من الاستحالة تحديد هويّة أخلاقيّة، وستسقط سقوطًا مدويًّا في غيابات الجُبّ.

المُلفت في شخصيّة Elliot هو فقدانه للتحكّم في ذاته، ولو استعرنا ميشيل فوكو، الذي قال: «أنا عاهل الأشياء التي قلتها وأحتفظ بسلطة رهيبة عليها»[1] وأسقطنا ما قاله على Elliot فسنجد الشفقة تُطلُّ علينا، فهو ذلك الرجل الذي فقد أدنى درجات التحكّم في ذاته، وليس له سُلطة على أيّ شيء، فهو المتأرجح بين شخصيتين، وفي ضياع مُطلق، وكلّما شعرَ أنّه صاحب الكلمة والقول الفصل دخل في دوّامة جديدة تُفقدهُ هذا الشعور، فالتحكّم هو وهم على حدّ وصفه! والثورية الكاموية المتمرّدة لا تلبث أن تختفي بظهور شخصيّة Elliot وطغيانها على Mr. Robot.

السُؤال هنا، هل هذه طريقة ناجعة للوقوف في وجه هذا الاستبداد، أو بمعنى آخر، هل هذا سيحقق التحرر من سطوة الرأسمالية؟ وهل تصوّر Sam Esmail مُخرج ومؤلف هذا العمل تصوّر ذو قيمة واعتبار؟ أظنّ أنّ الإجابة ستكون فضفاضة، وستأخذ منحى مختلفًا بعض الشيء، ولن أرفض بالمطلق هذه الأيديولوجيا في التعبير عن مقت هذا الواقع المزري بلا شك!

فهي تحتمل شيئًا من الصواب في مواضع كثيرة، ولكنّ الإشكاليّة ستكون في النتيجة، فما ستلاحظهُ في الموسم الثالث للمسلسل أنّ الثورة تابعت طريقها على جُثث لأُناس أبرياء، بحجّة تدمير أهم المباني لشركة Evil Corp، وأصبحت ثورة لا تأبه لأرواحِ البشر، كما على طريقة ميكافيللي الذي قال: «الغاية تبرر الوسيلة»[2] وهذا ما نرفضه بالمطلق، فالتمرّد في وجه الطغيان وقول «لا» على الدوام في وجه كلّ طاغية مستبدّ، لا يعني أنْ أضراره الجانبية هي أرواح لبشرٍ أبرياء، لا دخلَ لهم فيما يجري، وإنْ صوّر لنا المخرج أنّ Elliot رفض هذا الفعل، ولكن ما وصلتُ إليه خلال مشاهدتي للمسلسل أنّ المخرج يحاول إيصال خلاف ذلك، وأنّ الطريقة الوحيدة لنسف هذا الظلم والتحكّم من قِبل هؤلاء، يُحتِّم عليك الخروج بضحايا، أو كما يقولون For the greater good، والطريف في المسألة أنّ هذه الثورة كانت هباءً منثورًا، وأنّ العدوّ سيّرها لصالحه أيضًا!

لقد تمّ التلاعب بـ Elliot، واستغلّوا نقطةَ ضعفه، وحرَصُوا على أنّ Mr. Robot هو سيّد الموقف، وأنّ المتمرّد الثوري هو الرجلُ المنشود، المليء بأفكار الرفض والعبث أيضًا، والمُشبع بالعدميّة الكاموية، أمّا Elliot النيتشوي – على حدِّ تفسيري له – فلا مكانَ له هنا، وسيدقُّ مسمارَ نعش هذه الثورة!

وأظنُّ أنّ هذه النتيجة طبيعيّة، فإنْ عزمتَ على الوصول لغايتك بأي وسيلة متاحة وممكنة، فستلقى في طريقك من يُعرقل ويَمنع، أو منْ سيستغلُّك، والراجح عادةً هو الاستغلال وركوب الموجة!

لطالما كانت مُشكلة الرأسمالية ونظام الحياة الذي فرضته على المجتمعات موضع نقد وتحليل لمعظم المفكرين، ولكن لم يُطرح حلٌّ ناجز لهذه المُشكلة

فلسفة نيتشه أصبحت ملحوظة في كثير من الأعمال، فمنْ قبل Mr. Robot رأيناها في مسلسل True Detective، ولكنْ بفهم مختلف لنيتشه، يتضمن وحشيّة الإنسان، ومسألة الزمن وطرحه كدائرة مسطحة، أو كما يُوصف بـ «العود الأبدي النيتشوي»، وقد تميّز Mr. Robot حيث جمع فلسفتين في إطار واحد، وشخصيّة واحدة، مع التركيز على كامو أكثر من نيتشه، ولا تعجب حين ترى أفهامًا مختلفة لنيتشه، فهو يحتمل الكثير، وستضيع العقول في تأويله، فليس بالأمر السهل البتّ في فلسفته، ولعلّ تأويلي هنا سيفسّره آخرون على عكس ما قلته تمامًا!

لطالما كانت مُشكلة الرأسمالية ونظام الحياة الذي فرضته على المجتمعات موضع نقد وتحليل لمعظم المفكرين، ولكن لم يُطرح حلٌّ ناجز لهذه المُشكلة، واقتصرت التحليلات على وصف للمشكلة وتداعياتها، وأظنّ أنّ مسلسل Mr. Robot قد حلّل أيضًا تداعيات هذه المُشكلة.

وعلى طريقة Sam Esmail مُبدع هذا العمل، وعند نقطة معيّنة أوهمَ المُشاهد أنّ الحلّ سيكون عن طريق ثورات القرصنة التي أصبحَ لها «قدم وساق» مع تطوّر التكنولوجيا، وأُعلنُ هنا أنني من متبني تمرّد كامو وثوريّته، ولكنْ سقوط العمل كان في تصوير الأضرار التي كان لا بدّ منها!

وخسارة الثوّرة كانت بإدراك Elliot أنّه كان دميّة بيد غيره، وقد كان يفعل ما يُملى عليه دون أنْ يدري، ويعيش داخل الوهم القائل إنّه القائد الأوحد لهذه الثورة، ومن هنا أُنهي كلامي قائلًا: إنّ الثوّرة يجب أن تُصاحبها الأخلاق، وألا تكون عدميّة وساديّة لا تأبه بشيء! وأرفض تمامًا القول بأنّ الثورة تأكل الأخضر واليابس! وأنّ هذا أحد ضرائبها! فالثورة الحقّ هي ثورة مؤطرة داخل معنى وأخلاق، في وجه كلِّ ظالم طاغٍ مستبدّ، آثر مصالحه على الشعوب، واستغلّ ضعفهم على طول الخطّ.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ميشيل فوكو.
  2. الأمير، نيقولا ميكافيللي.