يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلمَ الكلامَ، وخمسين سنةً ليتعلمَ الصَّمت
الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي

لطالما كان الصمت محط أنظار الفلاسفة والمفكرين والشعراء، صار فلسفة بحد ذاته، تُفرد لها الصفحات، وتُكتب عنها النظريات.

يعتقد إرنست هيمنجواي أن الصمت هو ذلك التحديق الطويل والتدقيق، والقراءة المُتأنية لكل ما يُشاهد ويُسمع، ذلك التجاهل الظاهري الذي يُعتبَرُ إهمالاً، في حين أنه رزانة.

تراكم التجارب السابقة والملاحظات وتداخل العلوم النظرية والتطبيقية فضيلة إذا ما عرف صاحبها كيف يطوعها لمصلحته، تقف به بعيدًا عن طريق العاصفة والعاطفة والشعبوية والغوغائية.

بطلنا كان الصمت هو فضيلته كإنسان وكلاعب كرة قدم؛ لذا دعنا نسبر أغوار تلك الشخصية.

عاش ومات من غير مناهدة

بطل قصتنا هو محمد عبدالشافي نجم نادي الزمالك، أحد نجوم الجيل الذهبي لمنتخب مصر تحت قيادة حسن شحاتة، كلها مؤهلات تدعو أي شخص في الحياة ليخرج ويهلل في كل الصحف والفضائيات عن استحقاقية منطقية نظرًا لما قدمه كلاعب.

لكن شيفو -كما يحلو لمحبيه مناداته- لم يفعل ذلك بتاتًا، بل حتى أنه علق حذاءه، بعدما أبلغ نادي الزمالك بهذا القرار؛ معللًا ذاك بتكرار إصاباته في الركبة.

أغلق عبدالشافي الباب خلفه ورحل، بعدما رفض الحصول على مستحقاته المتأخرة، وطلب من مسؤولي الزمالك دفع المستحقات للاعبين الآخرين، وترك مستحقاته في النهاية، رحل من دون جلبة لحظات الوداع، أو دموع التماسيح الزائفة وهو ما اعتاد فعله طيلة حياته.

ألقى نفسي زي طير
عاش ومات من غير مناهدة
الشاعر مصطفى إبراهيم

من المرج إلى الزمالك دون دراما

بملامح مصرية أصيلة قد يبدو لك للوهلة الأولى أن عبدالشافي إما أن يكون من صعيد مصر، أو قرية مترامية الأطراف في الدلتا، لكن شيفو تنحدر أصوله من منطقة شعبية في القاهرة، وهي المرج.

وُلد عبدالشافي في حي المرج عام 1985، لأسرة تعشق كرة القدم، وتعشق كذلك نادي الزمالك؛ وهو ما جعل والده يصحبه لاختبارات الزمالك وهو في سن السابعة، ليقبل على الفور في اختبارات النادي، وهو ما لم يكن شائعًا حينها.

قضى عبدالشافي نحو 5 سنوات داخل أسوار النادي الأبيض، ليتم الاستغناء عنه دون إنذار، انتقل إلى إنبي عام 2003، ليقضي فيه موسمين في فريق الشباب، ثم غزل المحلة عام 2005، عاد «شيفو» مرة أخرى للفريق الأبيض في موسم 2009-2010، ليبدأ معه مسيرة حافلة بالبطولات والإنجازات حتى موسم 2014-2015.

خاض محمد عبدالشافي خلال فترته الأولى مع الزمالك 158 مباراة، منهم 104 مباريات في الدوري الممتاز، سجل خلالها 8 أهداف وصنع 8 غيرها، كذلك لعب 38 مباراة في بطولات أفريقيا، سجل هدفًا وحيدًا، وصنع هدفين، فيما شارك في 15 مباراة ببطولة كأس مصر، سجل خلالها هدفًا وصنع 4 أهداف.

قصة فيها من الدراما ما يمكن أن يُروى على شاشات التلفاز؛ لاستعطاف الجماهير، عن ذاك الفتى الفقير الذي جاء رأسًا من المرج إلى الزمالك، وصار أحد أفضل اللاعبين في تاريخ النادي، لكن عبدالشافي لم يفعل ذلك ولا مرة، حتى إننا نعتقد أنك تفاجأت الآن مثلنا تمامًا أنه من المرج.

في السعودية: دعني أجرب

كم مرة سمعت عن لاعب ما تمرد على فريقه، وامتنع عن حضور التدريبات للضغط على ناديه لقبول عرض احتراف مقدم له، نعتقد أن الإجابة هي عشرات المرات.

بل دعنا نسألك سؤالًا آخر، وهو كم مرة خرج أحد هؤلاء اللاعبين يبكي على شاشات التلفاز بسبب رحيله عن فريقه، ذاك بعد رضوخ النادي لطلبات اللاعب وحقه في خوض تجربة الاحتراف، نعتقد أن الإجابة لن تختلف عن سابقتها.

في عام 2015 وصل لنادي الزمالك عرضًا من نادي أهلي جدة السعودي لضم محمد عبدالشافي، أبلغ عبد الشافي بكل صراحة مسؤولي نادي الزمالك بأنه يريد أن يخوض التجربة، لكنه لم يخرج في الوقت ذاته للمتاجرة بحبه لنادي الزمالك وجمهوره، بل فضل الرحيل في صمت كما يفعل دائمًا.

وفقًا لموقع الزمالك اليوم، كان يعاني عبد الشافي من أزمة مالية في هذا التوقيت، وكان مُحملًا ببعض الالتزامات المادية وشراء أجهزة كهربائية «بالتقسيط»، عندما وصل عرض رسمي من أهلي جدة السعودي طلب من مسؤولي الزمالك الموافقة على العرض وقيمته مليون و200 ألف دولار.

انضم محمد عبدالشافي لنادي أهلي جدة السعودي، موسم 2014- 2015، خاض خلاله 113 مباراة، نجح فيها بالتتويج ببطولة كأس ولي العهد موسم 2014- 2015، ولقب الدوري السعودي موسم 2015- 2016، وكأس خادم الحرمين الشريفين عام 2016، وكأس السوبر السعودي في عام 2016، ليتوج بجميع البطولات السعودية في إنجاز لم يسبقه إليه أي لاعب مصري، لم يخرج شيفو ذات مرة للحديث عن هذا الإنجاز، في الدوري الأقوى عربيًا خلال العقد الماضي.

هي أشياء لا تشترى

كنت بتكسف أخرج الإنذار لمحمد عبد الشافي لأنه محترم ودخوله على أي لاعب غير مقصود، لذلك الجميع يحبه
الحكم الدولي ياسر عبدالرؤوف

ربما تستنكر التصريح أعلاه، بخاصة أنه على لسان حكم دولي يستحي من إشهار الإنذار في وجه لاعب ما، لكنه يحمل في مضمونه بعض المزايا التي اتفق الجميع على وجودها في عبدالشافي، بل ربما تم حصر نتاج مسيرته في كونه لاعبًا خلوقًا.

كثيرة هي المواقف التي تدلل على ذلك، فمثلًا في إحدى المباريات التي جمعت نادي الزمالك بنادي تليفونات بني سويف في بطولة كأس مصر، قام شيفو بمراوغة معتادة لأحد لاعبي التليفونات، فاختل توازنه وأصيب بقطع في الرباط الصليبي، ليدخل عبدالشافي بعدها في نوبة بكاء، ويتكلف بعملية اللاعب من ماله الخاص.

في عام 2019، عاد عبدالشافي لنادي الزمالك من جديد، في صفقة ظن الجمهور أنها ليست إلا تكريمًا لمسيرة أحد أبناء الفارس الأبيض.

لكن عبدالشافي صاحب الـ 34 عامًا وجد لنفسه موقعًا بين شباب الفريق، فلم يخش أن يجلس على الدكة لصالح عبدالله جمعة أو الناشئ الموهوب أحمد فتوح، ولم يتحدث ولا مرة عن كونه لا يلقى التقدير بعد مسيرته الحافلة مع النادي، فقط تسلح بالصمت والعمل كما يحلو له دومًا.

@koraplus

“فايق شيفو” | ملخص تألق محمد عبدالشافي “الزمالك” في مباراة #فيوتشر #الدوري_المصري

♬ original sound – KoraPlus – KoraPlus

والسؤال الآن، هل من الممكن أن تكون الميزة الكبرى التي يمتلكها لاعب ما هي تحليه بالصمت؟ وهل يفيده ذلك على أرضية الميدان؟

الصمت قد يصنع أسطورة

وفقًا لمحللي موقع FIF Play، فإن الصمت مهم للرياضيين بشكل عام وللاعبي الكرة على وجه الخصوص، بل حتى إنهم يعتقدون أن الصمت إذا ما صحَّ استخدامه قد يصنع أسطورة رياضية.

يجادل محللو موقع FIF Play أن رباطة الجأش هي سمة مهمة يمكن أن يكون لها تأثير كبير على كل من أداء اللاعب الفردي ونجاح الفريق بشكل عام، ورباطة الجأش تلك هي إحدى نتاجات تحلي اللاعب بشيئين، هما؛ الصمت والهدوء.

في خضم اللعبة، يمكن أن تتصاعد المشاعر، يواجه اللاعبون مجموعة كبيرة من المشاعر، مثل الإثارة والإحباط والغضب والعصبية، يمكن أن تؤثر هذه المشاعر بسهولة على اتخاذ القرار والأداء إذا لم تتم إدارتها بشكل فعال، هذا هو المكان الذي تلعب فيه رباطة الجأش دورًا حاسمًا.

يمتد الهدوء أيضًا إلى ما هو أبعد من اللاعبين الفرديين ويؤثر على أداء الفريق بشكل عام عندما يظهر فريق بشكل جماعي رباطة جأش، يمثل ذلك انعكاسًا لقوتهم العقلية ومرونتهم، فغالبًا ما يحدد رباطة جأش من يصلح لقيادة الفريق.

يعتقد محللو موقع FIF Play أن الأرجنتيني ليونيل ميسي هو أحد أهم اللاعبين الذين لعب الصمت داخل وخارج الملعب دورًا كبيرًا في نجاحهم، بل يجادلون لأكثر من ذلك، حيثُ يعتقدون بأن أسطورة ميسي كان الصمت فيها جنبًا إلى جنب مع مهارته الفذة.

بالعودة إلى عبد الشافي إن كنت قد نسيت أننا نتحدث عنه، فكان الصمت هو السمة الرئيسية لمسيرته، وكذا كان الصمت هو اختياره عندما يتجادل الجميع حول تصنيفه كأسطورة من عدمها، تاركًا الحق للجميع في وضع التنصيف الذي يراه مناسبًا له، لكن الأكيد أننا أمام لاعب قلما تجود الملاعب به.

صحيح قبل أن ننهي الحديث، أردنا أن نخبرك أن عبدالشافي قرر العودة لنور الملاعب مرة أخرى، لكنه كالعادة كانت عودة صامتة.