لو سارت ملكة بريطانيا ورئيس الولايات المتحدة وبابا الفاتيكان مع محمد علي كلاي، لتساءل الناس: من هؤلاء الثلاثة الذين يرافقون محمد علي كلاي؟
ريتشارد شاب، إعلامي أمريكي

في أمسية الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1980، وفي صالة «سيزر بالاس» للملاكمة بمدينة «لاس ڤيجاس»، تجمع الآلاف حول الحلبة، وجلس الملايين غيرهم أمام شاشات التلفاز في أنحاء العالم، كان نزالًا بين اثنين من أفضل ملاكمي العالم في السنوات الأخيرة، لذا انتظر الجميع نزالًا ملحميًا متوازنًا ومباراة ممتعة، لكنهم لم يحصلوا على ذلك على الإطلاق.

بدأت المباراة، ولم يكن هناك سوى ملاكم يسدد اللكمات من كل جانب بلا حساب، وآخر يتقيها لكنه لا يفلح في كل مرة، ويقف في ركن الحلبة أغلب الوقت ينتظر نهاية كل جولة، وحين أطلق الحكم صافرة نهاية الجولة العاشرة اتجه سريعًا إلى مقعده، وبدا في حالة سيئة وأخذ يلتقط أنفاسه بصعوبة، وحينها أدرك مدربه أنه لا يمكنه إكمال النزال مهما يكن، فأعلن الانسحاب، كان هذا الملاكم هو «محمد علي كلاي»، وكانت هذه هي المرة الأولى في مسيرته التي ينسحب ويخسر بهذه الطريقة.

لكن، قبل هذه اللحظة بـ18 عامًا تقريبًا، وقف «محمد علي» البالغ 22 عامًا فقط، على جانب الحلبة في مقاطعة «ميامي» والآلاف يهتفون باسمه بينما يحتفل بلقبه الأول في ملاكمة المحترفين للوزن الثقيل، الذي حققه بعد فوزه على «سوني ليستون» الملاكم الأبرز في العالم آنذاك، وحقق رقمًا قياسيًا كأصغر لاعب يحقق لقب البطولة.

وبين المباراتين كانت مسيرة «محمد علي»، الأعظم على مر العصور كما يقول عن نفسه، وفي داخل الحلبة وخارجها نُسجت مسيرة أسطورية لن تتكرر.

كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور

هذا هو الاسم الذي سُمي به، وهو ابن لأسرة متوسطة من السود، ولد في أمريكا في أربعينيات القرن الماضي، مع ما يعنيه ذلك من ويلات العنصرية والتفرقة التي لاقى منها الكثير، وقد شكل ذلك شخصيته منذ الصغر.

عرف طريقه للملاكمة في سن الـ12، على يد شرطي كان قد ذهب إليه ليبلغ عن سرقة دراجته، وكان يتوعد أنه سيوسع السارق ضربًا حين يظفر به، فضحك الشرطي، ونصحه أن يتدرب على الملاكمة ليفعل ذلك بشكل صحيح، وهو ما كان، ذهب الفتى وتولى هذا الشرطي تدريبه.

بدأت مسيرته في منافسات الهواة، فاز فيها بأغلب البطولات المحلية، وحقق نحو 100 انتصار، وكان ظهوره لأول مرة حين شارك في أولمبياد 1960 وحقق الذهبية، وهناك في روما عرف الجميع أن هذا الفتى سيغير خريطة الملاكمة للأبد.

أحلق كالفراشة وألدغ كالنحلة

يمتلك «محمد علي» أسلوبًا مميزًا في القتال. في منافسات الوزن الثقيل، عادةً ما يكون الملاكمون أكثر ثباتًا واعتمادًا على مهاراتهم في الدفاع وحماية وجوههم بأيديهم، لكن «محمد علي» لم يكن كذلك، رغم وزنه وطوله، فإنه يتحرك دائمًا، ولا يقف للحظة، ويمتلك قدرة فائقة في المراوغة وتفادي الضربات بحركة جسده، مع قدرة فائقة على تحمل الضربات وإطالة وقت النزال، وأضاف لذلك ذكاءً حادًا وبراعة تكتيكية.

برع كذلك في تصدير الإحباط لمنافسيه، منذ المؤتمر الذي يسبق النزال، يبدأ في ألاعيبه النفسية، ويستفز خصومه، حين ذهب في بداية مسيرته ليواجه الإنجليزي «هنري كوبر» في لندن، وكان ملاكمًا مخضرمًا، خرج «محمد علي» في المؤتمر ليعلن أنه سيسقطه بالضربة القاضية وفي الجولة الخامسة، ولن يكون الأمر نزالًا وإنما مجرد تسلية، وقد صدق في ذلك، وأسقط «كوبر» في الجولة الخامسة بالفعل.

مشاحنات «علي» قبل المباريات مثلت جزءًا مهمًا من شخصيته، وقد أحب الناس دعابته وثقته الخارقة، لقد كان متحدثًا مفوهًا بالفعل.

Say my name

منذ فوزه ببطولة العالم، صعد نجم «محمد علي» في الملاكمة العالمية، وخاض الكثير من النزالات فاز بها جميعًا، وشهدت تلك الفترة العديد من المباريات الملحمية ضد أكبر ملاكمي العالم. 

إحدى أشهر المباريات كانت في 1966، وكان «علي» سيلتقي «إيرني تيريل»، ملاكم أسود لم يهزم منذ سنوات، وانتظر الجميع مواجهتهما بترقب، وفي المؤتمر الذي سبق المباراة، أصّر «تيريل» على مناداته باسمه الأول «كاسيوس كلاي»، ولم يناده محمد، فطلب منه أن يناديه باسمه فرفض، حتى وصل الأمر للشجار، وأقسم «محمد علي» أنه سيجبره على نطق اسمه على الحلبة.

منذ اللحظة الأولى للثنائي على الحلبة، أدرك «تيريل» الجرم الذي فعله، حيث بدأ «محمد علي» المباراة بهجوم ضارٍ لم يتعود عليه، ولا يكاد «تيريل» يتفادى ضربة حتى تفاجئه أخرى، وهو يستقبل اللكمات دون أن يستطيع تحريك ساكن، ومحمد علي يصرخ فيه: «what is my name»

استمرت المواجهة 15 جولة كاملة، كانت مشهد تعذيب وليست مباراة ملاكمة، ويؤمن الخبراء أن «محمد علي» تعمد إطالة المدة ليتمادى في تعذيب «تيريل»، مع قدرته على إنهائها منذ الجولات الأولى، وكانت هذه طريقة «علي» في حياته، وردوده المعتادة حين يتعلق الأمر بمبادئه ومعتقداته.

مسلم .. مناضل .. ثائر

منذ اليوم الأول لـ«محمد علي» وهو لا يهاب التصريح برأيه والدفاع عنه مهما كلفه ذلك، وخاض صراعه الأول مع العنصرية والتفرقة ولم يتوانَ يومًا عن التصريح بفظائع الرجل الأبيض، ودعم السود في كل مكان.

بعد ذلك، وفي بداية مسيرته صدم «علي» الجميع حين أعلن إسلامه وانضمامه لجماعة أمة الإسلام، وظهر رفقة «مالكوم إكس» المناضل المسلم المشهور في عدة أماكن، ليتحول حينها «كاسيوس كلاي»، إلى «محمد علي».

نشط «محمد علي» كثيرًا في الدعوة للإسلام والتصريح بذلك علانيةً، ولم يتوانَ لحظة في الدعوة لعقيدته، والدفاع عنها حين اقتضى الأمر.

جاءت المعركة التالية لمحمد، في عام 1967، حين قرر الجيش الأمريكي استدعاءه لأداء الخدمة العسكرية، والسفر إلى فيتنام ليحارب هناك، وهو ما رفضه بشكل قاطع، وأعلن أمام الجميع أنه لن يخضع للتجنيد.

ضميري وديني الإسلامي لن يسمح لي بإطلاق النار على إخوة لي، أو أناس أكثر سمرة مني من أجل أمريكا، ثم لماذا أطلق النار عليهم؟ لم ينعتوني أبدًا بالزنجي، ولم يطلقوا كلابهم عليّ، فلماذا أطلق النار على هؤلاء المساكين؟

اتُهم «محمد علي» حينئذ بالهروب من الخدمة الوطنية، ومثل أمام المحكمة التي أوصت بسجنه وتغريمه 10 آلاف دولار، وهو ما قبله «محمد علي» بهدوء ولم يتنازل عن موقفه، قبل أن يخفف الحكم بعد ذلك، ويكتفي بتجريده من بطولة العالم، وسحب رخصة الملاكمة وجواز سفره.

مُنع «محمد علي» من صعود الحلبة 4 سنوات كاملة، وهو في سن الـ 25، ويعيش أفضل لحظات مسيرته، وقاده ذلك للحظات صعبة لم يجد فيها المال حتى كاد يفلس تمامًا، لكنه ثبت على موقفه، وظل يندد بالحرب في كل مكان، ويدعو إلى إيقافها، وبعد 4 سنوات أُعلن إلغاء العقوبة وأعيدت له رخصته مرة أخرى.

اقتله يا علي

لم تكن عودته للملاكمة أمرًا سهلًا بعد هذا الغياب، لكنه عاد للحلبة وخاض المباريات من جديد في رحلة استعادة لقبه الذي سُلب منه ظلمًا، وهو ما قاده للكثير من النزالات الملحمية، هي التي شكلت أسطوريته في تاريخ الملاكمة.

خاض محمد علي في سبيل استعادة لقبه نزالًا سيظل الأبرز في تاريخ الملاكمة، «موقعة الغابة»، حيث أُجريت داخل غابة في أفريقيا، موطن الأجداد كما سماها «محمد علي»، وفي كينشاسا عاصمة زائير تحديدًا، وكان النزال بين محمد علي والضخم جورج فورمان، الذي لم يكن خصمًا سهلًا، حيث سحق «جو فايزر» -الذي سبق وهزم محمد علي- كما يصغره بثمان سنوات.

استمر التحضير لهذه المباراة كثيرًا، ويُقال إن ربع سكان الكرة الأرضية كانوا أمام التلفاز ينتظرون تلك المواجهة، وكان الخبراء في ذلك الوقت يتوقعون أن «فورمان» سيقتل «محمد علي» لا أنه سيهزمه فقط.

بدأ النزال وظهر «محمد علي» بشكل مختلف، يستند على الحبل ويتلقى ضربات فورمان دون محاولة منه للابتعاد، لا يفعل سوى حماية نفسه وتحمل الضربات، ولم يقصر فريمان، وسدد له الكثير من اللكمات، كانت الواحدة منها كافية لطرحه أرضًا كما يقول فورمان، ورغم ذلك في نهاية كل جولة كان يصرخ «محمد علي»: «أهذا كل ما لديك؟ ظننتك أقوى من ذلك»

كان محمد علي يكتفي بجمع النقاط في آخر كل جولة، واستمر في طريقته لاستنفاد طاقة خصمه، وهي الطريقة التي أسماها الخبراء بعد ذلك «rope-a-dope»، واستمر كذلك حتى الجولة الثامنة، وحين تملك فورمان الإرهاق، فاجأه محمد علي بهجوم خاطف سريع ولكمات متتالية، لم يستطع تحملها، وسقط أرضًا وفاز «محمد علي» بالضربة القاضية وسط ذهول الجميع.

المعركة الأخيرة

استعاد «محمد علي» لقبه، وأصبح الملاكم الوحيد الذي يفوز باللقب 3 مرات، وهزم الجميع وأعلن نفسه الأعظم في تاريخ الملاكمة بالفعل.

في نهاية الثلاثينيات بدأ المرض يعرف طريقه إلى جسده، حيث أصيب بمرض بـ «باركنسون» أو الشلل الرعاش، وقد ظهرت عليه أمارات المرض أثناء لعبه، وقد نصحه الأطباء بالتوقف والاعتزال النهائي، لكن لم يتخيل نفسه بعيدًا عن الحلبة واستمر في اللعب حتى تمكن منه المرض تمامًا، ومُني بأكثر من هزيمة مهينة كالتي بدأنا معها المقال.

ما عانيت منه جسديًا كان يستحق ما أنجزته في الحياة، الرجل الذي ليس لديه الشجاعة الكافية لتحمل المخاطر لن ينجز أي شيء.
محمد علي

 لم تكن نهاية «محمد علي» مثالية، كما لم تكن حياته كذلك، فقد أهان خصومه، وخذل مالكوم إكس صديقه المقرب، وارتكب العديد من الحماقات، لكنها أبدًا لا تساوي شيئًا بجانب الكثير من اللحظات الرائعة التي زينت مسيرته، والتي صنعت الأسطورة الأعظم على الإطلاق «محمد علي».