الأسطورة تتحدث بإعجاب عن القائد الألباني الذي كوّن أول جيش مصري حديث على النظم العصرية، وحوّل المصري من فلاح مسالم إلى مقاتل شرس، خاض مع إبراهيم باشا (1789-1848) الحروب، وانتقم من العثمانيين الذين هزموا جيش السلطان المملوكي قنصوه الغوري (1441-1516) في «مرج دابق» عام 1516، وحرر مصر من الاحتلال العثماني. وأسس إمبراطورية مصرية (وفي رواية أخري: عربية) تضم شبة الجزيرة العربية والسودان وجزيرة كريت والشام. [1]

هذه الأسطورة الجميلة ليست إلا محض خيال، أمّا الواقع فقد كان كابوسًا مرعبًا.

«إتلاف الأعضاء» و«انتفاضة المنوفية»

أسّس محمد عليّ جيشه اعتمادًا على أولاد الفلاحين الفقراء، يقودهم ضباط أتراك وشراكسة، فلم يرتقِ مصري واحد إلى رتبة عالية.

يكفي معرفة أن الفلاحين فضّلوا تشويه أنفسهم حتى لا يصلحوا للخدمة العسكرية، من قطع إصبع السبابة وخلع الأسنان الأمامية ووضع سم الفئران في العين لكي تُصاب بالعمى، الذي يؤمل أن يكون مؤقتًا، أو فقء العين اليمنى، حتى الأمهات فضلن تشويه أطفالهن وإصابتهم بالعمى أو بالعجز على إلحاقهم بالخدمة العسكرية في جيش الباشا. [2]

وبديلًا عن علاج الداء، اتخذت الحكومة إجراءات لمنع الأعراض، فقد أمرت العطارين بعدم بيع سم الفئران، وسجنت وأعدمت بعض من أتلف أعضاءه أو أعضاء غيره، وأغرقت بعض النسوة اللاتي يسملن عيون أبنائهن، وكُونت فرقة عسكرية من الجنود ممن فقد عينه أو إصبعه أو أسنانه. ورغم تلك الإجراءات القاسية استمر إتلاف الأعضاء إلى نهاية أيام محمد علي. [3]

وبالإضافة إلى إتلاف الأعضاء، قاوم الفلاحون التجنيد الإجباري بانتفاضتين، الأولى في مايو/أيار 1823 بمديرية المنوفية، انتفاضة استدعت تدخل محمد عليّ بنفسه لقمعها، مُسلحًا بحرس قصره وستة من مدافعي الميدان. والثانية في الصعيد عام 1824، وامتدت من إسنا حتى أسوان، مع تمرد 30 ألف شخص، واستمرت 6 أسابيع، انتهت بقتل 4 آلاف قروي. [4]

وتباهى الباشا بالآلة الحربية التي صنعها، وحوّلت الفلاح إلى سلاح في يده قادر على إطلاق النار وقتل حتى أقربائه وأصدقائه. فقد حدث أن جنديًا وجد أباه منْ بين المتمردين، وحينما فشل في إقناعه بالاستسلام قتله. انشرح صدر الباشا حينما بلغه نبأ الجندي قاتل أبيه، فأمر بصرف مكافأة للوحش الذي خلقه وترقيته إلى رتبة ملازم. [5]

مع فشل أسلوب الانتفاضة الصريحة، استخدم الفلاحون «تكتيك الانسحاب» أو «الفرار» من قراهم كلية، هربًا إلى المدن، أو هجرة إلى الشام، فحالما تنتشر الأنباء باقتراب جنود الباشا من القرية لاختطاف الرجال، تنطلق موجات من الفارين مع عائلاتهم تهجر قراهم وأرضهم. [6]

وما يُقال عن مكاسب محمد عليّ في بناء جيش عصري فقدته البلاد باستنزاف أفضل عمالها الزراعيين. في 1837 كانت ربع أراضي الصعيد لا يمكن زراعتها. [7]

فضّل الفلاح الفرار هربًا من المصير الذي ينتظره، فالتجنيد عملية سطو، لا تفترق في شيء عن عمليات اختطاف الزنوج من إفريقيا. عصابات ساكن القلعة تنزل بالقرية المسالمة، فتضرب حولها حصارًا لا ينجو منه إنسان، ثم تقرر العدد المطلوب من الرجال الأقوياء، وشيخ البلد هو الموكل بتحرير قوائم المجندين، فأول ما يفعله هو إبعاد أسماء أولاده وأولاد أقربائه، حتى لا يتبقى في القائمة سوى أسماء الغلابة. [8]

الفرار من رايات الباشا

لم يكن نفور المصريين من التجنيد ضعفًا في الروح الحربية كما يزعم مؤرخ القومية المصرية «عبد الرحمن الرافعي» [9]، أو لارتباطهم الوثيق بنيلهم المحبوب وأرضهم الطيبة [10]، فأهل مصر على مدار تاريخها هبّوا للجهاد، شاركوا صلاح الدين الأيوبي حروبه لاستراد بيت المقدس، تصدوا للصليبيين في دمياط والمنصورة، دوخوا جنود بونابرت، هزموا الحملة البريطانية في رشيد والحماد.

كان الجهاد في سبيل الله هو الحافز الذي يجعل المصري يترك حانوته وتجارته وأرضه الطيبة لكي يحمل السلاح، ويقاتل دفاعًا عن دينه وأرضه.

لكن، لماذا يقبل الفلاحون على جيش محمد عليّ ورايات الجيش تحمل اسم الباشا، لا راية «لا إله إلا الله»، والميداليات التي سُكت لتخليد الانتصارات زُينت باسم محمد عليّ فحسب. [11]

ولماذا يقبل الفلاحون على جيش محمد عليّ وهم يسمعون أن جنده حينما دخلوا مدن الحجاز نهبوا الأموال والودائع والأقمشة، وسبوا النساء والبنات والأولاد، وباعوهن على بعضهم البعض، زاعمين أن هؤلاء هم «الكفار الخوارج». فإذا طلب بعض أهل بدر الصلحاء من أحد العسكر زوجته قال: لا، «حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد». [12]

نزل هذا المصاب بأهل الحجاز، وهم الذين عبروا البحر الأحمر قبل سنوات قليلة يشاركون أهل مصر الجهاد ضد الحملة الفرنسية.

هناك رؤية تاريخية تتهم محمد عليّ بأنه هو الذي مكّن القوى الغربية من السيطرة على شبه الجزيرة العربية بدعوى محاربته للوهابية، وأن أوامر إسطنبول كانت «استخلاص الحرمين (من الوهابيين) والوصية بالرعية والتجار» [13]، لكن أطماع محمد عليّ دفعته إلى الاستيلاء على باقي شبه الجزيرة العربية، وهو ما سمحت به لندن، بعد أن شكلت الدعوة الوهابية خطرًا على الوجود البريطاني في الهند وفي منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر. [14]

ضرب محمد عليّ القوى الإسلامية في الجزيرة العربية، فسيطر الإنجليز بعدها على مداخل البحر الأحمر، باحتلال عدن عام 1839، ثم استولوا على كثير من مناطق الخليج العربي، بالحلول محل قوات محمد عليّ بعد إجباره على الرضوخ لاتفاقية لندن 1840، فالتهم الأسد البريطاني مناطق استعصت عليه زمنًا طويلًا.

التجنيد الإجباري في السودان والشام

وتكررت مظالم جيش محمد عليّ في السودان والشام. في السودان، فرض محمد عليّ التجنيد الإجباري، كنواة لتأسيس الجيش النظامي، فرأى أهل السودان فيه أمرًا شبيهًا بما يفعله تجار الرقيق من اختطاف الأهالي. وفي الشام استنزف الجيش جنده في قمع ثورات الشاميين التي توالت، ومن أسبابها فرض التجنيد الإجباري [15]، فلجأ الأهالي إلى الهجرة، واختبأ البعض في الكهوف، واعتنق بعض الدروز المسيحية. [16]

ألم يكن من الأجدى للباشا الابتعاد عن التجنيد الإجباري، وقد جرّبه مع أهل السودان فأخفق، وتمرد عليه فلاحو مصر، وتفننوا في الهروب منه؟!

ومن أسباب ثورات الشاميين نزع السلاح من يد الأهالي، ليبقى فقط في يد جند الباشا، وعقاب من لديه سلاح بالجلد 500 جلدة (أكبر من حد الزاني وشارب الخمر!)، كذلك فرض الاحتكار على أمة عرفها التاريخ بأنها أمة التجارة! [17]

لم ينتهِ الحكم العسكري لمحمد عليّ (وليس المصري) للشام بمؤامرة الدول الكبرى فقط، وإنما بثورة قام بها الشاميون، تخطفوا فيها جيش الباشا بالقتل والسلب في انسحابه إلى القاهرة [18]. يذكر مؤرخ أن الجيش وما رافقه من مدنيين وموظفين بلغ تعدادهم قبل الانسحاب 200 ألف نسمة، لم يرجع منهم سوى 60 ألفًا، مما يعد «أفظع ما روي عن فجائع تقهقر الجيوش في الانسحاب» [19]. هكذا ودع الشاميون حكم محمد عليّ العسكري باللعنات بعدما استقبلوه بالترحاب. [20]

تداعيات حروب محمد علي

فقد عاش الرجل حياته لا يتحدث العربية، مُحتقرًا المصريين، فالأوروبيون عنده متنورون متحضرون، أمّا المصريون فهم «جنس من الوحوش لا تصلح معهم المدنية، فهم ليسوا إلا حيوانات… عليهم المساعدة بالمال والعلائف للعسكر… فإذا اعترضوا فليس لهم عنده إلا السيف والانتقام». [21]

وليس صحيحًا ما يبكيه بعض المؤرخين من انهدام الإمبراطورية القومية بفعل اتفاقية لندن 1840. العكس هو الصحيح، فقد كانت لحروب محمد عليّ نتائج سلبية بعيدة المدى. ولم تؤسس حروب محمد عليّ إمبراطورية مصرية.

وفي الوقت الذي كان فيه مسلمو القوقاز وآسيا يتطلعون إلى الدولة العثمانية لإنقاذهم من عدوان روسيا القيصرية، شن الباشا حروبه ضد السلطان العثماني، بهدف الاستيلاء على الشام، بزعم أن السلطان وعده بإمارة الشام إذا ساعده في حروب اليونان، ولم يوفِ بوعده.

حتى مبرر الحرب الذي ساقه لإشعال حرب الشام الأولى نرى فيه جزءًا من مظالمه، إذ طالب الباشا والي «عكا» عبد الله الجزار بإرجاع 6 آلاف فلاح مصري هجروا حقولهم فرارًا من السخرة والضرائب الفادحة والالتحاق بالعسكرية [22]. الفلاح المصري الذي اشتهر عنه بأنه «قراري»، يستقر في الأرض، ولا يهاجر بلاده، تركها هربًا من سوط الباشا.

الفرحون بحروب الباشا و«الفتح المصري» للحجاز وشبه الجزيرة العربية والسودان والشام يجب عليهم إقناعنا بالفوائد التي جناها الفلاح من تكوين إمبراطورية «مصرية»؛ أكانت هذه البلدان تغلق أبوابها في وجهه، فكسر الباشا مغاليقها؟

الأراضي التي استولى عليها عسكر الباشا لم تكن إلا أرض المصري، أرض الشامي والحجازي، أرض أبناء الأمة الإسلامية. وماذا يستفيد الفلاح من ضم الباشا لأراضٍ شاسعة وهو المحروم من ملكية قطعة صغيرة من أرضه، محروم من فدادين وقراريط زراعية؟ من ذا الذي يسعد بمجد الباشا وبطنه من الجوع ضامرة؟!

كان الجبرتي عبقريًا حينما لخّص رأيه في إصلاحات محمد علي، في كلمات قصيرة ولكنها عميقة:

وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفّقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه. [23]

هذا الرأي من أفضل وأبلغ ما قيل في تقييم تجربة محمد عليّ. وكأن الجبرتي ينظر من وراء الغيب ليستشف مصير تجربة محمد علي، وقد انتهت عام 1840، فالباشا شاد القصور، وأدار الآلات، لكنه افتقد لأهم ركن في بناء الأمم: العدل. ولو سار بالعدل لكان له ولمصر شأن آخر.

المراجع
  1. انظر هذه الرؤية في كتابات: الرافعي، عصر محمد عليّ، ص 286.
  2. أحمد الحته، دراسات في تاريخ مصر الاقتصادي والسياسي في القرن التاسع عشر، دار الكتب والوثائق القومية، 2012، ص 67. تيموثي ميتشل، استعمار مصر، مدارات للأبحاث والنشر، ط 4، يناير 2016، ص 103. ديفيد لاندز، بنوك وباشوات، ترجمة عبد العظيم أنيس، كتاب الأهالي، ص 72، 73. خالد فهمي، كل رجال الباشا، دار الشروق، الطبعة الخامسة، 2015، ص 164. هيلين ريفلين، الاقتصاد والإدارة في مصر في مستهل القرن التاسع عشر، ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفي، مصطفي الحسيني، دار المعارف، يوليو 1967، ص 296، 297.
  3. أحمد الحته، تاريخ الزراعة المصرية في عهد محمد علي الكبير، تاريخ المصريين، عدد 291، ص122. الحتة، دراسات في تاريخ مصر…، ص 67 نقلا عن فتر مجموع أوامر جنائية، ص 196 و202. أمر في 13 رجب سنة 1264 وإفادة في رجب 1264.
  4. هيلين ريفلين، الاقتصاد والإدارة…، ص 291، 292. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ص 162.
  5. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ص 157.
  6. هيلين ريفلين، ص 95. ديفيد لاندز، بنوك وباشوات، ص 72. تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ص 102، 103. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ص 162.
  7. هيلين ريفلين، ص 296.
  8. حسين فوزي، جولات في رحاب التاريخ، مكتبة الأسرة، نقلا عن كتاب “ليالي القاهرة” للأديب السويسري شارل ديدييه. هيلين ريفلين، م س ذ، ص 294.
  9. الرافعي، عصر محمد عليّ، ص 331.
  10. هيلين ريفلين، ص 292.
  11. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ص 334، 338.
  12. الجبرتي، ج 7، ص 219، حوادث 12 رمضان 1226 هجريًا/30 سبتمبر 1811 ميلاديًا. وأثبت الدكتور سعد بدر الحلواني في كتابه “العلاقات بين مصر والحجاز ونجد، ص 50، 51 أن أهل مصر لم يشتركوا في حملة محمد عليّ ضد الوهابية، حتى من اشترك فيها فقد أخذه الباشا قسرا، ولم يحمل سلاحًا.
  13. الجبرتي، ج 7، ص 123، حوادث 23 شوال 1222 هجريًا/ 24 ديسمبر 1807.
  14. زكريا سليمان بيومي، العرب بين القومية والإسلام، ص 140.
  15. يقول الرافعي إن مصر خسرت 10 آلاف جندي في قمع الثورات، وهو رقم يفوق ما جمعه الباشا من السوريين للتجنيد الإجباري، وأكبر مما خسرته مصر في المعارك الحربية في الشام والأناضول.
  16. لطيفة محمد سالم، الحكم المصري في الشام، مكتبة مدبولي، ط 2، 1990، ص 291 وما بعدها.
  17. انظر ثورات الشاميين في الرافعي، م س ذ، ص 260: 270. محمد فهمي لهيطه، تاريخ مصر الاقتصادي، ص 85.
  18. الرافعي، ص 297، 298، 303، 304.
  19. الرافعي، ص 304.
  20. هذا السيناريو الحزين تكرر في تجربة عبد الناصر في الستينات وحلم الوحدة مع سوريا.
  21. خالد فهمي، كل رجال الباشا، ص 21، 22، إذ ينقل عن خطاب للباشا يقول فيه: “أما شعبنا فهم مثل الوحوش، فلن يكون هذا القانون (الأوروبي) بالبداهة مناسبا لهم”.
  22. لطيفة محمد سالم، الحكم المصري في الشام، ص 30.
  23. الجبرتي، ج 8، ص 401، يوميات 1 رجب-آخر ذي الحجة 1231 هجريا/ 28 مايو-21 نوفمبر 1816 ميلاديًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.