محتوى مترجم
المصدر
ٍAeon
التاريخ
2019/04/01
الكاتب
جون تولان

كان نشر القرآن وإتاحة ترجمته مشروعًا خطرًا في القرن السادس عشر، جديرًا بتضليل المسيحي المؤمن أو إغوائه. كان هذا، على الأقل، رأيَ أعضاء مجلس مدينة بازل البروتستانت عام 1542، عندما سجنوا لفترة وجيزة طابعًا (صاحب مطبعة) محليًّا كان يعتزم نشر ترجمة لاتينية لكتاب المسلمين المقدس. لكن المصلح البروتستانتي مارتن لوثر تدخل لإنقاذ المشروع: لم تكن هناك طريقة أفضل لمقارعة الأتراك، كما كتب، من كشف «أكاذيب محمد» ليراها الجميع.أتاح المنشور الصادر في 1543 القرآن للمثقفين الأوروبيين، وقد درسه معظهم لكي يفهموا الإسلام ويحاربوه بشكل أفضل. كان هنالك آخرون، استخدموا قراءتهم للقرآن للتشكيك في العقيدة المسيحية. فقد وجد المثقف الموسوعي واللاهوتي الكاتالوني «ميغيل سرفيتوس – Michael Servetus» حججًا قرآنية عديدة ليوظفها في كرَّاسته المناهضة للثالوث Christianismi Restitutio» 1553»، التي دعا فيها محمدًا بالمصلح الحقيقي الذي بشر بالعودة إلى التوحيد النقي الذي أفسده اللاهوتيون المسيحيون باختراع عقيدة الثالوث غير العقلانية والمنحرفة. بعد نشر هذه الأفكار المهرطقة، أُدين سرفيتوس من قِبَل محاكم التفتيش المسيحية في فيينا، وأُحرِق في نهاية المطاف مع كتبه في جنيف كالفن.خلال عصر التنوير الأوروبي قدم بعض المؤلفين محمدًا على المنوال نفسه، كبطل مناهض للإكليروس؛ بعضهم رأى الإسلام كشكل نقي من التوحيد القريب من الربوبية الفلسفية (Deism) والقرآن كأنشودة تسبيح عقلانية للخالق. في 1734 نشر جورج سيل (George Sale) ترجمة إنكليزية جديدة. تتبع، في مقدمتها، التاريخ المبكر للإسلام، وأضفى طابعًا مثاليًّا على النبي، كمصلح ثائر، مناهض للإكليروس، بدد الاعتقادات والممارسات «الخرافية» للمسيحيين الأوائل – عبادة القديسين، الآثار المقدسة – وأبطل سلطة رجال الدين الفاسدين والجشعين.قُرِئت ترجمة سيل للقرآن وقُدِّرَت على نطاق واسع في إنكلترا: بالنسبة لكثير من قرائها، صار محمد رمزًا للجمهورياتية المعادية للإكليروس. كانت مؤثرة خارج إنكلترا أيضًا. اشترى «توماس جيفرسون – Thomas Jefferson» أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية نسخة من بائع كتب في ويليامسبرغ، فيرجينيا (Williamsburg, Virginia)، عام 1765، ساعدته في تصوُّر ربوبية فلسفية تتجاوز الحدود الطائفية. (استُخدِمَت نسخة جيفرسون، الموجودة حاليًّا في مكتبة الكونغرس، في مراسم أداء القسم للممثلين المسلمين في الكونغرس، بدءًا بكيث أليسون Keith Ellison عام 2007). وفي ألمانيا، قرأ الرومانسي جوهان غوته (Johann Goethe) ترجمة لنسخة سيل، ما ساعده في تعزيز فكرته المتطورة بالتدريج عن محمد كشاعر ملهم ونبي نموذجي.في فرنسا، استشهد فولتير أيضًا بترجمة سيل مقرونة بالإعجاب: في كتابه عن تاريخ العالم (1756)، «Essai sur les moeures et l’esprit des nations»، رسم صورة محمد كمصلح ملهم ألغى الممارسات الخرافية وقضى على سلطة رجال الدين الفاسدين. وعند نهاية القرن، قدَّمَ الهويغي[1] (Whig) الإنكليزي إدوارد جيبون (Edward Gibbon) (القارئ النهم لسيل وفولتير) النبي بكلمات متوهجة في كتابه: «تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» (1776-89):

إن عقيدة محمد خِلْوٌ من الشك والإبهام؛ والقرآن هو شهادة مجيدة على وحدانية الله. رَفَضَ نبي مكة عبادة الأصنام والبشر، والنجوم والكواكب، مستندًا إلى المبدأ العقلاني المتمثل في أن كل ما يبزغ سوف يأفل، وكل ما يولد سوف يموت، وكل ما هو قابل للفساد لا بد أن ينحل ويفنى. حماسه العقلاني، اعترف بصانع الكون، وعبد كائنًا مطلقًا وخالدًا، بلا شكل ولا مكان، ولا ولد ولا شبيه، حاضرًا في أعمق أسرار أفكارنا، موجودًا بضرورة طبيعته الخاصة، ومن ذاته ينبثق كل الكمال الأخلاقي والعقلي. إن فيلسوفًا مؤمنًا يمكنه أن يقر المحمديين على عقيدتهم: عقيدة قد تكون بالغة السمو بالنسبة لملكاتنا العقلية الراهنة.

لكن كان نابليون بونابرت هو من تأثر تأثرًا شديدًا بالنبي، ملقبًا نفسه بـ «محمد الجديد» بعد قراءة الترجمة الفرنسية للقرآن التي أخرجها كلود إيتيان سافاري (Claude-Étienne Savary) عام 1783. كتب سافاري ترجمته في مصر: هناك، محاطًا بموسيقى اللغة العربية، سعى إلى أن يصب في اللغة الفرنسية جمال النص العربي. على غرار سيل، كتب سافاري مقدمة طويلة قدم فيها محمدًا بوصفه رجلًا «عظيمًا» و«استثنائيًّا»، و«عبقريًّا» في أرض المعركة، رجلًا عرف كيف يلهم الإخلاص والولاء في أتباعه.قرأ نابليون هذه الترجمة على السفينة التي حملته إلى مصر في 1798. مستلهمًا صورة النبي وفقًا لسافاري كقائد ألمعي ومشرِّع حكيم، سعى نابليون ليصبح محمدًا جديدًا، وأمل أن علماء الدين في القاهرة سيقبلونه وجنوده الفرنسيين كأصدقاء للإسلام، أتوا ليحرروا المصريين من الطغيان العثماني. بل لقد ادعى أن وصوله إلى مصر كان معلنًا عنه في القرآن.كانت رؤية نابليون عن الإسلام بوصفه توحيدًا نقيًّا رؤية مثالية، مستمدة من الكتب، وتنويرية: بالفعل، إن إخفاق حملته المصرية يرجع جزئيًّا إلى فكرته عن الإسلام كدين مختلف تمامًا عن دين علماء القاهرة. لكن نابليون لم يكن وحيدًا في رؤية نفسه كمحمد جديد: فقد أعلن غوته بحماس أن الإمبراطور كان (محمد العالم – Muhammad of the world)، وقد صوره المؤلف الفرنسي فيكتور هوغو كمحمد الغرب (Muhammad of the West). نابليون نفسه، في نهاية حياته، منفيًّا في سانت هيلين مجترًّا هزيمته، كتب عن محمد ودافع عن إرثه كـ “رجل عظيم غيَّر مجرى التاريخ”. محمدُ نابليون (Napoleon’s Muhammad)، الفاتح والمشرِّع، المقنع والكاريزمي، يشبه نابليون نفسه، إلا أنه نابليون أكثر نجاحًا، ومن المؤكد أنه يكن منفيًّا قطُّ في جزيرة تعصف بها الرياح في جنوب الأطلسي. استمرت فكرة أن محمدًا واحد من أعظم مشرعي العالم إلى القرن العشرين. صور إدولف واينمن (Adolph A Weinman)، النحات الأمريكي الألماني المولد، صور محمدًا في إفريزه في الغرفة الرئيسية للمحكمة العليا الأمريكية، عام 1935، حيث يأخذ النبي مكانه بين ثمانية عشر مشرِّعًا. ودعا عدد من الأوروبيين المسيحيين كنائسهم للاعتراف لمحمد بدور خاص كنبي للمسلمين. مثَّل هذا الاعتراف، بالنسبة للعلماء الكاثوليك المختصين بالإسلام كلويس ماسينيون أو هانس كونغ أو للعالم البروتستانتي الأسكتلندي المختص بالإسلام ويليام مونتغمري وات، كان أفضل وسيلة لتشجيع الحوار السلمي والبنَّاء بين المسيحيين والمسلمين.هذا النوع من الحوار مستمر حاليًّا، لكنه غارق إلى حد كبير في صخب الصراع، حيث يشيطن سياسيو اليمين المتطرف في أوروبا وفي كل مكان آخر محمدًا ليسوغوا السياسات المناهضة للمسلمين. السياسي الهولندي خيرت فيلدرز يدعوه بالإرهابي والمتحرش بالأطفال والمعتل النفسي. للمفارقة، يعزز هذه الصورةَ السلبية للنبي الأصوليون المسلمون الذين يتملقونه ويرفضون وضع حياته وتعاليمه في أي سياق تاريخي؛ وفي غضون ذلك، يدعي المتطرفون العنيفون الدفاع عن الإسلام وعن نبيه تجاه «الإهانات» بالقتل والإرهاب. كلها أسباب، إذن، للعودة وتفحص الصور المتنوعة والمفاجِئة غالبًا عن الوجوه العديدة لمحمد.


[1]: الهويغهي (Whig): عضو في حزب بريطاني مؤيد للإصلاح عرف فيما بعد بحزب الأحرار. «قاموس المورد الحديث».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.