عادة ما يظهر بملابسه الأنيقة، مستخدمًا يديه في تحليل أمر معين. يُشعرك في حديثه بأنه يتحدث عن أمر فلسفي، أو نظرية علمية معقدة ولكنها سلسلة في الوقت نفسه، مع إضفاء اللهجة الفصحى، حيث تجد نفسك مستمتعًا أمام الشاشة.

ربما ما زالت تفكر فيمن يكون صاحب تلك المميزات، ولكنك ستعرفه تمامًا بمجرد أن أخبرك أن تلك الشاشة التي يظهر عليها عادة هي «بي إن سبورتس». أصبح الأمر أسهل الآن، هو المحلل الموريتاني الشاب محمدي العلوي.

التقينا العلوي في الدوحة خلال بطولة كأس العالم، الذي سرد إلينا تفاصيل قصته الدرامية من نواكشوط مرورًا بالمغرب ثم إيطاليا، ووصولًا إلى الدوحة والعمل في الشاشة الرياضية الأكبر في الشرق الأوسط.

محمدي العلوي
محمدي العلوي

طفولة في البادية

يقول العلوي في مقتبل حديثه: «لقد وُلدت في العاصمة نواكشوط في 31 أغسطس/ آب 1994، ولكن عشت الجزء الأكبر من طفولتي في قرية نائية، تعدادها لا يتعدى الألف مواطن، وكنت أدرس فيها المواد الدراسية إلى جانب العلوم الشرعية والقرآن الكريم».

وأضاف: «كانت كرة القدم هي الرشوة التي تمنحها لي أمي من أجل مواصلة التفوق الدراسي، حيث تسمح لي بالسفر إلى العاصمة خلال الإجازات من أجل مشاهدة مباريات كرة القدم لعدم توافر الشاشات في البادية في ذلك الوقت».

ولا يستطيع الشاب الموريتاني تحديد لحظة تعلقه بالكرة، إذا أقدم على جمع المجلات الرياضية باللغة الفرنسية، إلى جانب قمصان الأندية التي كانت خالاته تجلبها إليه عند العودة من الخارج.

عانى العلوي كثيرًا في محاولاته لمتابعة المباريات، إذ تابع بطولة أمم أفريقيا 2004 كاملة عبر الإذاعة وبالتعليق الفرنسي؛ لدرجة أنه استعان بوالدته لتترجم له تفاصيل ما يحدث خلال المباريات المختلفة.

لقد كنت ألعب كرة القدم لمدة 3 ساعات يوميًا تقريبًا. كنت موهوبًا بالفعل، ولكن في ذلك الوقت كانت أخبار الكرة في موريتانيا تقتصر على انسحاب منتخب هنا أو فريق هناك، لقد كان الأمر أشبه بالمزحة في المجتمع الموريتاني؛ إذا أخبرت أحدًا بأنك ستصبح لاعب كرة قدم.
محمدي العلوي

في العاصمة: معلق وحكم ومحلل

سرعان ما تبدل الأمر في حياة العلوي، الذي يقول: «انتقلنا إلى العاصمة بعد إنهاء شقيقتي لمرحلة البكالوريا (الثانوية العامة)، ومن ثم دخول المرحلة الجامعية، ذلك الانتقال سهل عليّ متابعة المباريات بشكل أكبر، ما زالت أتذكر أن شقيقتي كانت مشتركة في قنوات «TRT»، أما خالي فكان مشتركًا في قنوات الجزيرة الرياضية وقتها».

السرعة في التبدل تلك، جعلته قريبًا أكثر من مصادر مشاهدة كرة القدم، إلى جانب استخدام الأجهزة الحاسوبية في مقاهي الإنترنت في العاصمة من أجل البحث عن كل ما يتعلق باللعبة، حتى يصل إلى مباراة هنا في الدوري الهندي أو هناك في الدوري المقدوني.

كانت فكرتي دائمًا أن من يفهم بكرة القدم، هو من يملك معلومات أكثر عن اللعبة، كنت أقضي وقتًا طويلًا في حفظ تاريخ الأندية وأسماء اللاعبين، والبطولات، وكانت أفوز عادة بتلك التحديات التي نقوم بها في المدرسة.

ومع الوقت، أدرك العلوي أنه لن يكون لاعبًا جيدًا في موريتانيا، فقرر الاتجاه نحو التعليق حيث بدأ في التعليق على المباريات في الشوارع، متأثرًا بالمعلق التونسي «رؤوف خليف»، وتعليقه الشهير على مباريات كأس العالم في ألمانيا 2006.

ولم تستمر التجربة كثيرًا كالعادة الأشياء في حياة المراهق الموريتاني، فتحول إلى التحكيم في مباريات الأطفال، الذي تركه بعد فترة قصيرة أيضًا لأنه شعر بأن الحكم لا يحظى بالتقدير الكافي في اللعبة مقارنة باللاعبين أو حتى المحللين.

ذات يوم في تلك الفترة، شاهدت فيلمًا وثائقيًا على قناة الكويت الرياضية تتحدث عن الإيطالي أريجو ساكي، وكيف لهذا الرجل أن غيّر في شكل كرة القدم مع ميلان، مع وجود ألفاظ لا أفهمها مثل: الضغط العالي وغيرها، ولكن ذلك الكلام المنمق أعجبني كثيرًا، لدرجة أني ذهبت إلى مقهى الإنترنت من أجل قراءة مزيد عن المدرب الإيطالي، ومن هنا كانت بداية تعلقي بمجال التحليل.
محمدي العلوي في حواره لإضاءات.

صدام مع العائلة

وسط ذلك الانشغال بكرة القدم، بل والرغبة المتكررة في أن يصبح فردًا عاملًا بها مستقبلًا، تأثر علوي كثيرًا على الصعيد الدراسي في سنوات ما قبل البكالوريا، ولكنه علم في الوقت نفسه، أن التفوق الدراسي هو سبيله الوحيد للحفاظ على رشوة والدته في الاستمتاع باللعبة.

يحكي العلوي عن تلك الفترة، قائلًا: «لقد قررت وقتها أن أخذ شهادة البكالوريا، مرضاة لوالدتي ووالدي، واعتبارًا بأنها شهادة تجلب لي قيمة بحكم الدراسة، ولكني لم أنس حلمي أيضًا بالعمل في مجال التحليل».

وأضاف: «نجحت بالفعل، وكنت السابع على موريتانيا في تلك المرحلة، وكنت قاب قوسين أو أدنى من الحصول على منحة للدراسة في إحدى الجامعات الخارجية، وهو أمر صعب للغاية، ولكنها كانت أيضًا بمثابة إعلان الصدام الحقيقي مع العائلة».

المجتمع الموريتاني يتعامل مع كرة القدم بشيء من الدونية في ذلك الوقت، لا أحد يفهم ماذا تعني أن تصبح لاعبًا أو محللًا؛ لذا كان قراري بعدم الالتحاق بالجامعة بمثابة خيبة الأمل الكبرى لوالدتي وباقي الأقارب، بخاصة وأني جلست في المنزل لمدة 6 شهور تقريبًا لا أفعل فيها أي شيء.

تلك النار التي لحقت بقلب والدة العلوي، أُخمدت قليلًا بالتزامن مع فتح المجال الإعلامي في موريتانيا، حيث التحق صاحب الـ18 عامًا عن طريق ابن خالته، بإحدى القنوات التي افتتحت في ذلك الوقت؛ لعمل اختبار أمام الكاميرات.

وكانت المفاجأة هي قبول العلوي كأصغر من يعمل في ذلك المجال في موريتانيا، وتزامنًا مع وصول رئيس الاتحاد الموريتاني الحالي لكرة القدم أحمد ولد يحيى إلى منصبه؛ ليبدأ فصل جديد في حياة الإعلامي الصغير.

التحقت بالقناة بعد 3 أشهر من إجراء الاختبار، واضطررت إلى العمل في إعداد عدة برامج في وقت واحد، بعيدًا عن الظهور على الشاشة، حتى إنني أتذكر أني قمت ببرنامج كامل للأطفال أيضًا دون الظهور بسبب صغر سني.

الإعلامي الصغير

لم يدم العمل خلف الشاشات طويلًا أيضًا، إذا قرر المدير الثالث في القناة وقتها، استقدام الشاب الصغير لتقديم أول برنامج يهتم بكل تفاصيل الرياضة في موريتانيا، أُطلق عليه اسم «نبض الملاعب»، لتفتح الحياة ذراعيها لطموح طفل لطالما حاول كثيرًا.

لم تخل السنة الأولى من البرنامج من السخرية، حيث تفاجأ الجميع داخل وخارج القناة بهذا الشاب الذي لم يكن اكتمل عقده الثاني من العمر بعد، وهو يحاور ويجادل ويحلل مباريات الدوري المحلي بكل ثقة وهدوء.

وفي عامه الثاني، أصبح البرنامج أكثر شهرة في المجتمع المحلي، حيث حصد العلوي جائزة أفضل برنامج رياضي في بلاده عام 2014؛ حيث استضافه التلفزيون الموريتاني وقتها كنموذج للشباب الناجح، وقتها أعلن الشاب الصغير رغبته الصريحة في السفر إلى بلاد أريجو ساكي.

أتذكر في يوم من الأيام كانت تستقل والدتي التاكسي في موريتانيا، سمعت السائق يتحدث إلى أحد أصدقائه مشيدًا ببرنامج «نبض الملاعب»، منذ ذلك الوقت بدأت تلين إليها فكرة تمردي على الدراسة بشكل تدريجي، حتى قالت لي عقب حلقة التلفزيون الموريتاني، عليك أن تذهب إلى إيطاليا!

وكالعادة لم يكن الطريق إلى إيطاليا مفروشًا بالورود، حيث أخبرنا محلل «بي إن سبورتس»، بأنه فشل في السفر مرتين، الأولى حين قدم على منحة لدراسة الرياضية البدنية في إحدى الدول الأوروبية، حيث تلقى الرفض من قبل السفارة رغم ترشيحه من الاتحاد المحلي وقتها.

أما الثانية، فكانت عند محاولته السفر إلى إسبانيا عبر وفد موريتاني كبير لتمثيل بلاده في معرض ثقافي في ذلك الوقت، ولكنه فشل أيضًا وتلقى الصدمة الثانية من السفارة الإسبانية هذه المرة، ليبدأ محاولته الثالثة بعد ذلك.

حلقة من برنامج نبض الملاعب عبر قناة الساحل

من المغرب: هنا فلورنسا

يقول العلوي، إنه بدأ في رحلة البحث عن الطريق إلى إيطاليا، حتى نجح في العثور على المعهد الثقافي التابع للسفارة الإيطالية في الرباط، الذي يهدف إلى تعليم اللغة وإعداد الطلاب للدراسة في الجامعات الإيطالية.

وجد الإعلامي الصغير الفرصة سانحة هذه المرة، حيث ذهب لدراسة اللغة لمدة عام، ثم سرعان ما قرر التسجيل في جامعة فلورنسا، من أجل الحصول على ميزتي الطعام والسكن مجانًا فقط وليس بغرض التعليم، مما يعني إعانته على العيش في المدينة أثناء دراسة الرخصة التدريبية «C».

محمدي العلوي مع باولو سوزا
محمدي العلوي مع باولو سوزا

ولم يضع العلوي وقتًا كثيرًا، إذا ذهب إلى مدرسة تدريب المنتخبات الإيطالية «الكوفيرتشيانو»، بعد شهرين أو ثلاثة فقط من وصوله إلى فلورنسا، ليبدأ رحلته الحقيقية في التعلم والحصول على الرخصة التدريبية «C» في نهاية العام، ثم فترة المعايشة مع باولو سوزا مدرب فيورنتينا في ذلك الوقت.

مرت سنة دراسة اللغة في الرباط، وسنة الدراسة الأولى في فلورنسا بشكل سهل للغاية، إذا تكفلت والدتي وخالتي بمصاريفي في المغرب ثم إيطاليا، إلا أن الأمر لم يدم طويلًا، حيث بدأت الأزمات المالية لدي بداية من عامي الثاني.

وبدأت الدراما المعتادة كما وصفها العلوي في حواره معنا، من السنة الثانية، إذا سُحب منه السكن الجامعي واضطر إلى المبيت يومين في إحدى الحدائق العامة، ثم حصل على سكن رديء رفقة 8 أفراد، ولكنه لم يجد مفرًا من اللجوء إليه في ذلك الوقت.

وجد الشاب الصغير نفسه مطالبًا بإيجار شهري بلغ 220 يورو، إلى جانب 3 آلاف يورو من أجل التسجيل في دراسة الرخصة التدريبية يويفا «B»؛ إلا أنه فاجأنا عندما أخبرنا أن تلك المبالغ قد جمعت في وقت قصير للغاية وعند طريق مساهمة جماعية من الأصدقاء والأقارب في موريتانيا.

في عامي الثاني كنت أضطر لاستقلال قطار من أجل حضور المحاضرات العملية في المساء بعد انتهاء محاضراتي النظرية في الكوفيرتشيانو صباحًا، ولأني لم أكن أملك أي أموال كنت أضطر لأخذ القطار دون تذكرة، ليقوم مسؤولو التذاكر بطردي في أقرب محطة لأعود وأستقل القطار الذي بعده ويتكرر المشهد حتى أصل إلى محاضرتي عبر 4 أو 5 قطارات مستغرقًا 3 ساعات أو أكثر رغم أن الطريق كان 40 دقيقة فقط.
سكن محمدي العلوي في السنة الجامعية الثانية
سكن محمدي العلوي في السنة الجامعية الثانية

«بي إن سبورتس»: حصاد سنوات من المعاناة

لقد نسيت كل المعاناة التي عيشتها في ذلك العام، عندما فتحت الرسالة البريدية من الكوفيرتشيانو ووجدت اسمي في المرتبة الأولى من أصل 42 طالبًا في الرخصة «B»، واحدة من اللحظات التي لن أنساها في حياتي.

بهذه الكلمات تحدث الشاب القادم من بلد صغير مثل: موريتانيا لا تنعم بعلوم كرة القدم، عن لحظة اجتيازه لاختبار الرخصة التدريبية، التي صورها باللحظة العاطفية للغاية، والتي فتحت له الباب بعد ذلك في العمل بمجال التدريب لمدة قصيرة في الاتحاد المحلي في بلاده.

اجتياز محمدي العلوي لاختبار الرخصة التدريبية
اجتياز محمدي العلوي لاختبار الرخصة التدريبية

أما اليوم الآخر الذي لا ينساه العلوي طوال حياته، كان عندما جاءه الاتصال من إدارة شبكة قنوات «بي إن سبورتس»، وذلك للوجود في الاستوديو التحليلي لمباراة موريتانيا وبوتسوانا الأخيرة في تصفيات أمم أفريقيا في ذلك الوقت.

يقول المحلل الشاب عن ذلك اليوم: «تخيل يأتيك اتصال من بي إن سبورتس، أمر لا يصدق، لقد احتفلت موريتانيا كلها عبر الفضاء الرقمي بذلك الخبر، الجميع شعر بأن قصة هذا الإنسان الذي خرج من بينهم، واغتيلت أحلامه في فترة من فترات حياته لا بد لها أن تكتمل بشكل مغاير بعيدًا عن المعاناة».

عدت إلى الفندق عقب أول ظهور لي في بي إن سبورتس، لقد وصلتني آلاف الرسائل، الجميع يتحدث عن وصول محمدي العلوي إلى الشبكة الأكبر في الشرق الأوسط، وجدت صوري في كل مكان، لقد كان احتفاءً غير طبيعي؛ لدرجة أشعرتني بالرهبة الشديدة.

عاد العلوي للظهور على الشاشة البنفسجية خلال بطولة أمم أفريقيا 2019 في مصر، ثم في كأس العرب، لتبدأ رحلته في عالم التحليل، وليطير بأحلام الآلاف من الشباب العربي الذين لم يمارسوا اللعبة، ويرغبون في اقتحام نفس المجال خلال الآونة الأخيرة.