في يوليو/تموز 1798 طرقت حملة عسكرية فرنسية، قوامها 36 ألف جندي، أبواب الإسكندرية، تبتغي إنشاء إمبراطورية فرنسية على ضفاف النيل، تكون بديلًا عن خسائر باريس أمام غريمتها لندن في مستعمرات أمريكا الشمالية، واستحواذ أسطولها البحري على البحار والمحيطات، ليحكم على فرنسا أن تعيش شبة قارية، وتفقد إلى الأبد منازعة الأسد البريطاني على السيادة البحرية.

جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر تصاحبها الأوهام، أوهام تحقيق نصر سريع يماثل انتصار جيش بونابرت في إيطاليا، وأوهام أن أهل مصر سوف يثورون على المماليك والترك بمجرد أن ترسو سفن الحملة على شواطئ الإسكندرية، ويكونون عملاء للاحتلال الغربي. [1]

وكانت المفاجأة، أو المفاجآت. أن واجهت الحملة من أول يوم بالإسكندرية مقاومة مجيدة من الأهالي، حتى كان القتال «من بيت إلى بيت»، كما كتب بونابرت في تقرير له إلى حكومة باريس، وتواصل قتال الأهالي إلى آخر أيام الحملة، في قري ومدن الدلتا والصعيد، في دمنهور والقاهرة والمنيا وقنا وأسيوط وأسوان وغزة وخان يونس ويافا وعكا. رفض الأهالي أن يكونوا عملاء للاحتلال، وفرّقوا بوعي بين رفض ظلم المماليك والولاة العثمانيين، وبين الولاء للجامعة الإسلامية. لا ولاء يعلو على الولاء للإسلام. رفض الظلم لا يعني القبول بالعمالة للغازي الأجنبي.

لم يقاتل بونابرت أهالي مصر والشام وحدهم، بل كان عليه أن يواجه مجاهدين أبطالًا، توافدوا على مصر، من الحجاز والمغرب العربي. تارة أخرى تتبدى الوحدة الإسلامية، قبل أن يخترع الغرب «القومية».

تفاصيل هذه الأيام المجيدة، أنه مع انتشار نبأ فاجعة الغزو الفرنسي للقاهرة في أرجاء ديار الإسلام تدفق على مصر مجاهدون حجازيون ومغاربة، يحملون البنادق والسيوف والخناجر والرماح، على رؤوسهم عمائم خُضر، وفي وجوههم صلابة، يجاهدون مع إخوانهم المصريين والأتراك في صد جيش الاحتلال الفرنسي عن أرض الإسلام، يقاتلون قتالًا مجيدًا، حتى إن عدوهم بونابرت شهد لهم بقوله «إن ضراوتهم لا حد لها» [2]، واعترف بيان بونابرت بشأن رفع الحصار عن عكا خلال حملة الشام بأنه من بين أسباب رفع الحصار والرجوع إلى مصر «بلغنا توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد». [3]

يقول الجبرتي عن حوادث شهر رجب 1213 هجريًا:

إن رجلًا مغربيًا يُقال له الشيخ الكيلاني كان مجاورًا بمكة والمدينة والطائف، فلما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز، وأنهم ملكوا الديار المصرية، انزعج أهل الحجاز لذلك، وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة (تأمل ما فعلوه دلالة على هول ما أصابهم)، وأن هذا الشيخ صار يعظ الناس ويدعوهم إلى الجهاد ويحرضهم على نصرة الحق والدين، وقرأ بالحرم كتابًا مؤلفًا في معني ذلك، فاتعظ جملة من الناس وبذلوا أموالهم وأنفسهم، واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه. [4]

ومع جهود الشيخ الكيلاني– أو الجيلاني في روايات أخرى– تدفق آلاف من المجاهدين الحجازيين والمغاربة على مصر، يشاركون إخوانهم في مصر الجهاد ضد حملة الجنرال ديزيه على الصعيد، وقد صمّموا على الظفر بإحدى الحسنيين «النصر أو الشهادة»، وجعلوا شعارهم الآية القرآنية الكريمة:

انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
سورة التوبة: آية 41.

وهكذا، تكوّنت في الصعيد جبهة حربية إسلامية من الحجازيين والمغاربة وأهل الوجه القبلي (مسلمين ومسيحيين) والمماليك ومتطوعين من النوبة والحبشة في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي الذي تعاونه فرقة قبطية يقودها العميل يعقوب اللعين، الذي يقول عنه الجبرتي إنه سافر في صحبة الفرنسيين «ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخبآت». [5]

يقول الباحث الأمريكي «كرستوفر هيرولد» عن مجاهدي الحجاز:

كان أرهب إمداد مراد (بك) هم المقاتلون العرب القادمون من الحجاز، الذين عبروا البحر بالألوف، وقد زعموا كلهم أنهم من سلالة الرسول، وكانوا يلبسون العمائم الخضراء، ويحملون البنادق والسيوف والرماح والخناجر، وفي خلقهم صلابة تنطق بهم وجوههم. [6]

ويقول باحث عربي، إن هؤلاء المجاهدين، الذين يقدر عددهم بسبعة آلاف وعشرة آلاف [7]، تمكنوا من تحريك جموع غفيرة من الأهالي والفلاحين في ثورات متصلة، وينسقون عملياتهم القتالية مع الزعماء المماليك، وتصدوا للجهاد في الصفوف الأمامية، فكان لحضورهم إلى الصعيد أثره في إطالة أمد مقاومة الحملة الفرنسية في هذه الجبهة، وأن يرغموا العدو على الدخول في عدد من المعارك، ونجحوا في التسلسل إلى القاهرة والوجه البحري حيث يشاركون في ثورات هذا الإقليم، وظلوا يشكلون مصدر تهديد دائم للجيش الفرنسي إلى حدود مغادرته مصر. [8]

زعيم أولئك المجاهدين وفق رواية المؤرخ اليمني «لطف الله جحاف»، والذي كان معاصرًا لدخول الفرنسيين إلى مصر، هو «الشيخ محمد المغربي الجيلاني الهاشمي»، ويقول إنه أخذ يتنقل بين المدن الحجازية، من مكة إلى جدة، ومنها إلى المدينة، ثم يعود إلى ينبع، يثير في الناس عقيدة الجهاد، ويحرضهم على بذل المال والنفس لمقاتلة الغزاة الفرنسيين، ثم عبر بهم البحر الأحمر إلى إقليم الصعيد. [9]

ونلاحظ أن الجبرتي ذكر اسم الشيخ المجاهد باسم الكيلاني، أي بالكاف وليس بالجيم، وهو ما فعله المؤرخ العثماني «عزت حسن الداردنلي»، والذي كان يصاحب الوزير العثماني في جهاده لتحرير مصر [10]، فيما ذكره المؤرخ الشامي «نقولا الترك» باسم «الشيخ الجيلاني».

هذا الشيخ الجليل كان قد شد الرحال من المغرب الأقصى طلبًا للحج، ثم آثر مجاورة الحرمين الشريفين، فلمّا دخل الفرنسيون إلى مصر انتقل من حالة مجاهدة النفس إلى جهاد العدو بالسيف، من «العالم الزاهد» إلى «العالم المجاهد». [11]

المصادر التي تناولت الحملة الفرنسية تجمع على أن الحركة الجهادية الحجازية كانت من الأسباب الرئيسية في تعطيل الاستيلاء على الصعيد ما يقارب السنة، وصنفها بونابرت ضمن عوامل رفع الحصار عن عكا، والعودة إلى مصر، ثم الفرار بعدها إلى باريس، بعد أن أيقن بإخفاق مشروع إنشاء إمبراطورية فرنسية في الشرق الإسلامي.

رغم التفوق العسكري الفرنسي، استطاع مجاهدو الحجاز والمغرب تعطيل قوات الجنرال ديزيه لاحتلال قري ومدن الصعيد، وكبدوها خسائر مادية وبشرية، كان لها أثرها على سير الحملة في الصعيد والشام.

لمواجهة نداء الجهاد الذي أطلقه السلطان العثماني، والسيطرة على طريق التجارة بين مصر وشبه الجزيرة العربية، تطلع بونابرت إلى السيطرة على ميناءي السويس والقصير، المعبر الرئيس للتجار والحجاج، ثم المجاهدين الذين يتدفقون على مصر من الحجاز.

أوكل بونابرت مهمة احتلال القصير إلى العقيد كولو Collot، الذي كان يقود أسطولًا حربيًا مؤلفًا من خمس سفن، فتصدّى له رجال الجيلاني، فأغرقوا سفينة، وأحرقوا أخرى، وفرّت السفن الثلاث الناجية إلى السويس، وقُتل 24 جنديًا فرنسيًا، وبقي ميناء القصير مفتوحًا أمام المجاهدين لمدة طويلة.

وفي معركة أبنود الأولى، في 3 مارس/آذار 1799، أباد رجال الشيخ الجيلاني أسطولًا حربيًا فرنسيًا، وبه سفينة بونابرت المفضلة (إيطاليا)، وقتلوا خمسمائة فرنسي، وغنموا عتادًا حربيًا متطورًا.

بعدها بأيام معدودات، بدأت معركة أبنود الثانية، ظهر اليوم الثامن من مارس/آذار 1799، واستمرت ثلاثة أيام، لتنتهي في اليوم العاشر منه. في المعركة، دارت الدائرة على مجاهدي الحجاز، فتراجعوا وتحصنوا في مدينة أبنود وقد حصنوها بالمدافع المتحركة، دارت المعركة حامية، وكادت تنتهي بهزيمة الفرنسيين، فأضرموا النيران في المدينة، فاضطر الشيخ الجيلاني وستمائة مقاتل إلى التحصن بمنزل مملوكي حصين، وعلى مدار يومين واجهوا النيران الفرنسية والجوع والعطش، وفي الليلة الثالثة، اخترق الجيلاني وعدد من رجاله الحصار، وخرج من ثقب أحدثوه في أحد الجدران، وتخلف في المنزل نحو ثلاثين من الجرحى، قاتلوا إلى آخر رمق.

حُسمت المعركة لصالح الفرنسيين، وقد دفعوا في هذا النصر ثمنًا غاليًا، قدّره الجنرال بليار بـ 35 قتيلًا، و134 جريحًا، فيما قدّر «فيفان دينون»، الرسام الفرنسي الذي يصاحب الحملة على الصعيد، القتلى الفرنسيين بـ60 رجلًا وعدد مماثل من الجرحى، فيما اسُتشهد من مجاهدي الحجاز حسب تقديرات الجنرال بليار بين 500 و600 شهيد. [12]

بعد المعركة بأيام، توفي الشيخ الجيلاني في قرية حجازة بمحافظة قنا، وما زال ضريحه بها قائمًا، تاركًا وصية للمسلمين يحثهم فيها على «تقوى الله والجهاد في سبيل الله، والصبر على ملاقاة الأعداء».

لم تكن وفاة الشيخ الجيلاني السطر الأخير في سيرة مجاهدي الحجاز، حيث إن الشريف حسن، أحد كبار مجاهديهم، امتد به العمر وشارك في معارك قوية ضد الفرنسيين بجبهة الصعيد، فيما صعد ما بين 500 و600 مقاتل إلى الوجه البحري، حيث كانت تدور منذ نهاية أبريل/نيسان 1799 معارك بين قوات الاحتلال الفرنسي ومجاهدين من المغرب بقيادة «مولاي محمد المغربي».

المراجع
  1. محمد فؤاد شكري، الحملة الفرنسية وظهور محمد علّي، (القاهرة: دار المعارف ومطبعتها بمصر، بدون تاريخ)، ص 119.
  2. سعد بدر الحلواني، العلاقات بين مصر والحجاز ونجد في القرن التاسع عشر، الطبعة الثانية، (القاهرة: 1995)، ص 18.
  3. انظر نص بيان بونابرت كاملًا في: الجبرتي، حوادث شهر ذي الحجة 1213 هجريًا / مايو 1799، ص 115-116.
  4. الجبرتي، حوادث رجب 1213 هجريًا / 9 ديسمبر 1798.
  5. عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة مفتري عليها، ج 2، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2004) ص 207. الجبرتي، يوميات 15 ربيع الأول 1213 هجريًا / 27 أغسطس 1798. محمد حواش، خطاب التضامن الإسلامي في ضوء حملة نابليون على مصر والشام وموقف المغرب منها، الطبعة الأولي، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013) ص 320-321، 348.
  6. كريستوفر هيرولد، بونابرت في مصر، ص 258.
  7. تختلف التقديرات لأعداد المجاهدين، فالمصادر الفرنسية ترفع عددهم ما بين 6 آلاف و10 آلاف، نظرًا للانتصارات التي حققوها، فيما يقدر المؤرخ اليمني لطف الله جحاف عددهم بأربعة آلاف مجاهد، ويقدر عددهم الباحث حسام عبد المعطي بـ 2600 مجاهد. (حسام محمد عبد المعطي، العلاقات المصرية الحجازية في القرن الثامن عشر، سلسلة تاريخ المصريين، العدد 149، الهيئة العامة للكتاب، 1999، ص 65).
  8. محمد حواش، خطاب التضامن الإسلامي…، ص 323.
  9. سيد مصطفي سالم، نصوص يمنية عن الحملة الفرنسية على مصر، نصوص مختارة من المخطوطة اليمنية “درر نحور الحور العين بسيرة الإمام المنصور علىّ ورجال دولته الميامين”، للمؤرخ اليمني لطف الله بن أحمد جحاف، الطبعة الثانية، (صنعاء: مركز الدراسات اليمنية، 1989) ص 96.
  10. عزت حسن أفندي الداردنلي، الحملة الفرنسية على مصر في ضوء مخطوط عثماني: مخطوطة ضيانامة، دراسة وتحقيق جمال سعيد عبد الغني، سلسلة تاريخ المصريين، العدد 134، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1999) ص 177.
  11. محمد حواش، خطاب التضامن الإسلامي…، ص 336.
  12. نقلت تفاصيل المعارك الحربية التي شارك فيها الشيخ الجيلاني من: محمد حواش، خطاب التضامن الإسلامي…، ص 352: 362.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.