كالكثير من سابقاتها تحظى الانتخابات البلدية التركية المقبلة بأهمية تفوق حدودها الدستورية والعملية كانتخابات محلية يناط بها اختيار رؤساء بلديات ومخاتير، مرتقية لمستوى سياسي أرفع ولتكون بمثابة استفتاء شعبي بخصوص المشهد السياسي التركي الحالي ومختلف فواعله.وليس أدل على ذلك من واقع الأوساط السياسية والإعلامية التركية التي تناقش – تأييدًا أو تفنيدًا – علاقة الانتخابات بمسألة «بقاء تركيا» وديمومتها وقوتها، إثر تصريحات في هذا الاتجاه من زعيمَيْ تحالف الجمهور/الشعب رئيسَيْ حزبَيْ العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان والحركة القومية دولت بهجلي.


الأمننة

في أبسط تعريفاتها فإن النظرية الواقعية للعلاقات الدولية تتحدث عن صراع الدول في عالم من الفوضى وفق حسابات المصلحة وأدوات القوة التي هي بشكل شبه حصري القوة العسكرية، وكانت تتوقع أن يستمر العالم ثنائي القطبية بلا نصر حاسم لأي من الطرفين.مع نهاية الحرب الباردة وبدرجة أقل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أثبتت النظرية الواقعية قصورًا فادحًا في التوصيف والتحليل والاستشراف، فالحرب الباردة انتهت، والقوة العسكرية لم تكن العامل الذي أنهى الصراع بين القوتين العظميين، وهجمات 11 / 9 لم تأتِ من دولة وإنما من فاعل ما دون الدولة … إلخ.هذا القصور منح حضورًا وأضاف زخمًا لمساقات أخرى في حقل نظريات العلاقات الدولية في العموم والدراسات الأمنية على وجه الخصوص، وفي مقدمتها «مدرسة كوبنهاغن» للدراسات الأمنية. وقد كان الملمح الأهم الذي ميز هذه المدرسة عدم اكتفائها بدراسة التهديدات الأمنية ذات الطابع العسكري، وتصنيف التهديدات إلى عدة مجالات/قطاعات، منها العسكري والسياسي والاقتصادي والديمغرافي وحتى البيئي.أحد أهم مصطلحات مدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية هو مصطلح «الأمننة» أو «Securitization»، والذي يعني مقاربة الأحداث والتطورات غير الأمنية بمنطق أمني. يحدث ذلك عندما تتحدث الشخصيات السياسية أو المسئولون عن حدث ما – غير أمني وربما غير سياسي – بتركيز شديد ومن زاوية محددة، ما ينقل للعامة/المواطنين انطباعًا بأن هذا الحدث «مهم جدًّا» وربما خطير. هذا التكرار والتأكيد اللفظي أو «Speech Act» يحدد للمتلقي، الذي هو المواطن أو الناخب في العادة، ما هي المواضيع أو الأحداث التي ينبغي أن يصب اهتمامه عليها، وهو ما سيعني لاحقًا بالضرورة بالنسبة لهم أن هذا الحدث وأحيانًا الشخص خطير ويمثل تهديدًا أمنيًّا. باختصار، يقدم الساسة بعض الأحداث الاعتيادية للمواطنين باعتبارها مهددات أمنية تتطلب تعاملًا خاصًّا وحساسًا من قبل الطرفين، المسئولين والشعب.


النزوع نحو اليمين

على طول المدة التي مرت منذ تأسيسه، تطورت المنظومة الفكرية التي تحكم العدالة والتنمية وتبدلت بشكل مستمر تحت وطأة المتغيرات الداخلية والخارجية. من حزب «ديمقراطي محافظ» لدى التأسيس والتأكيد على فكرة الديمقراطية والحريات واعتباره نفسه نموذجًا للمنطقة، إلى خطاب «الأمة» الذي يجمع تركيا مع محيطها بالتوازي مع ثورات العالم العربي في 2011، إلى خطاب أهمية وأولوية «الوطني والمحلي» الذي يصبغ سياساته في السنوات القليلة الأخيرة.هذه الفترة الأخيرة، التي بدأت إرهاصاتها في 2013، لكن يمكن التأريخ لها بعام 2015، شهدت جنوحًا نحو اليمين في خطاب الحزب وسياساته، تأثرًا بأزمات داخلية عدة ومتلاحقة واجهته، وتحالفه مع حزب الحركة القومية اليميني المتشدد، ورغبته في كسب أصوات أنصار الأخير، وجمود عملية التسوية السياسية مع حزب العمال الكردستاني في 2015، والتحديات العسكرية والأمنية التي واجهته في الداخل والخارج، فضلًا عن متغيرات المنطقة التي كان لتركيا منها نصيب كبير.وهكذا، تصدرت مفرداتُ «الأمن القومي» الخطابَ الرسمي وتسيدت الساحتين السياسية والإعلامية، وتقدمت أولوياتِ السياسة الخارجية لأنقرة، وخصوصًا مكافحة المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب، بل تعدد ثم تعدَّى استخدام كلمة «إرهاب» ليشمل قطاعات بعيدة عن المصطلح الأصلي ومجالاته، مثل التجار المتهمين باحتكار بعض البضائع أو أولئك الذين رفعوا أسعار بعض البضائع بشكل غير متناسب مع نسبة التضخم في البلاد … إلخ.


الانتخابات البلدية

الانتخابات البلدية والمحلية المقبلة، في 31 من مارس/آذار الحالي، ليست استثناءً في هذا السياق. فقد وُضِعَتْ في سياق حساس لم يكن مفترضًا أن تكون فيه، ويمكن ملاحظة فكرة «الأمننة» بشكل لافت في الحملة الانتخابية.فهناك مسار عام وسابق على الانتخابات متعلق بحزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) واعتباره ذيلًا لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية، وقرنه بمنظمات أخرى مصنفة كإرهابية بالنسبة لأنقرة مثل داعش ومنظمة «فيتو» التي تحيل إلى جماعة فتح الله كولن، وبالتالي مهاجمة أي تعاون بينه – أي الشعوب الديمقراطي – وبين الأحزاب السياسية الأخرى، لا سيما حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة ووضع ذلك في سياق الإضرار بالدولة والتآمر عليها.وإذا كانت العلاقة بين الشعوب الديمقراطي والعمال الكردستاني أوضح من أن يُناقش فيها، فإن الأول يبقى حزبًا سياسيًّا رسميًّا يعمل وفق الدستور التركي وممثلًا في مجلس الأمة التركي (الكبير)، ما يحيل إلى خطورة وخطأ التعميم وضرورة تخصيص الخطاب ببعض قياداته التي تواجه اتهامات بدعم الإرهاب بسبب بعض مقولاتها أو سياساتها وتجنيب الحزب في عمومه ذلك الخطابَ الحاد.ومن باب أولى بالتأكيد تجنيب القاعدة الجماهيرية للحزب تأثيرات ذلك الخطاب ووصمه بالإرهاب، وهو ما فعله أردوغان قبل أيام على أي حال حين أكد أن كلامه غير مقصود به ناخبو الحزب المذكور. ولكن يبقى الأهم في هذا السياق هو تأطير الانتخابات كمحكٍّ متعلق ببقاء الدولة وسلامتها، واعتبار أن أي تراجع لحزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب/الجمهور فيها سيكون أولًا بفعل تآمر عناصر داخلية وخارجية عليهما، وسيضر ثانيًا بشكل كبير بأمن الدولة واستقرارها بل قوتها واستمرارها.لا شك أن هذا الخطاب يفيد الحزبين، العدالة والتنمية والحركة القومية، في تحشيد أنصارهما وضمان ولائهم يوم الاقتراع بالتركيز على الخصوم الخارجيين والداخليين الذين «ينتظرون تعثرنا في الانتخابات» وفق تعبير أردوغان، باعتباره خطابًا يؤتي أكله في كثير من الأحيان مع العامة. ولا شك أن هذه الأمننة للانتخابات البلدية قد تفيد اردوغان والعدالة والتنمية مع فئة الشباب تحديدًا، والتي لا تصوغ قراراتها عادة من منطلق الخوف من الغياب أو البديل أو العودة لـ «تركيا السابقة» كما يفعل الجيل السابق عليهم.لكن واقع البلاد لا يقول بذلك، فلا سياق الانتخابات ولا أي نتيجة متوقعة لها سيكون لها آثار سلبية مباشرة على «بقاء» تركيا ومستقبلها. فالانتخابات البلدية تأتي في ظل استقرار النظام السياسي إثر تطبيق النظام الرئاسي، واستقرار المشهد الداخلي في البلاد حتى عام 2023، بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يونيو/حزيران الفائت، وتعافي الاقتصاد التركي تدريجيًّا وجزئيًّا من الأزمة المالية التي عانى منها في صيف 2018.من جهة أخرى، فتآكل شعبية الأحزاب التي تحكم طويلًا في النظم الديمقراطية أمر معروف ومنطقي وفق النظرية السياسية باعتبار أن الناس مع الوقت تمل وتطلب الجديد والتجديد من جهة وتتحفظ على السياسات والتوجهات والأخطاء التي تطرأ مع الوقت ولا تكون موجودة عادة في البدايات. أكثر من ذلك، وباعتبار أن الانتخابات بلدية وليست رئاسية أو برلمانية، وبالتالي لا يترتب على نتائجها ضرر كبير، فإنه يصبح من المتوقع والمتفهم أن تتراجع نسبة التصويت للعدالة والتنمية فيها عن نسبته في البرلمانيات أو نسبة أردوغان في الرئاسيات، خصوصًا مع وجود فئة من المتحفظين والغاضبين بين قيادات وكوادر وأنصار الحزب في السنوات القليلة الأخيرة.وعليه، فلا سياق الانتخابات ولا أي نتيجة متوقعة لها، مهما كانت سلبيتها بالنسبة للعدالة والتنمية، سيكون لها أثر يتعلق مباشرة بـ «بقاء» تركيا، لكن الأمر يبدو مفهومًا في سياق التحشيد ومحاولات الإقناع والخطاب الساخن الذين تتصف به الحملات الانتخابية في تركيا.حتى فكرة استغلال المعارضة لأي تراجع للعدالة والتنمية والمبالغة في تفسير دلالاته وموضعته في سياق اقتراب «نهاية مرحلة» العدالة والتنمية، أو حتى تـَشجُّع قيادات سابقة في العدالة والتنمية على تأسيس حزب جديد، حتى هذان الاحتمالان وهما واردان إلى حد ما لا يتعلقان -بالتأكيد- بفكرة بقاء تركيا وقوتها وديمومتها، وإن كانا سيعتبران تحديَّيْن مهمين لأردوغان وحزبه. لكن القفز من خلال هذه الاحتمالات إلى تخيل فوضى عارمة في الشارع التركي ومحاولات لإسقاط الحكومة على غرار أحداث «غزي بارك» في 2013 لا يبدو منطقيًّا ولا يقوم على أسس سياسية أو واقعية متينة، إذ تتبدى فيه المبالغة.ولعل من أطرف التصريحات اللافتة وأهمها في هذا السياق تصريح مرشح العدالة والتنمية لأهم بلدية كبرى في البلاد – إسطنبول – رئيسِ البرلمان والحكومة السابق وأقربِ المقربين لأردوغان بن علي يلدرم الذي قال في تصريح له يوم 12 آذار/ مارس الجاري إنه «لا ينبغي الخوض في جدال البقاء في الانتخابات المحلية، بل علينا أن نناقش مشاكل إسطنبول والإسطنبوليين. لستُ راضيًا عن ذلك».أخيرًا، يبقى خطاب «الأمننة» سلاحًا ذا حدين خصوصًا في تركيا، اعتمادًا على التأطير الذي يعتمده كل من الطرفين، الحزب الحاكم والمعارضة، وأيهما الأقدر على إقناع الناخبين الأتراك بمقاربته. فالعدالة والتنمية وتحالف الشعب/الجمهور يتحدثان عن بقاء تركيا والمخاطر التي ستحدق بها في حال تراجعا في الانتخابات باعتبار أن ذلك نتيجة تعاون تآمري بين الداخل والخارج. بينما تحمل المعارضةُ المسئوليةَ للعدالة والتنمية نفسه الذي يحكم البلاد منفردًا منذ 2002 إن كان هناك فعلًا تحدي بقاء لتركيا، معتبرة أن سياساته هي ما أوصلت البلاد لمرحلة نقاش بقائها من عدمه، بينما هي على الحقيقة ترفض فكرة البقاء وجدلها واسع الانتشار في سياق الانتخابات البلدية. وتقول المعارضة إنه إن كان ثمة مسألة بقاء في الانتخابات البلدية المقبلة فهي مسألة بقاء أردوغان والعدالة والتنمية وليس تركيا، باعتبار أن ذلك هو ما يخيف أردوغان وحزبه، وأنها كمعارضة ترى فيها فرصة لتغيير المعادلة في البلاد، مقدمة شعار «بعد آذار يأتي الربيع» كإسقاط سياسي يحيل إلى التخلص من حكم العدالة والتنمية.وحدها نتائج يوم 31 الجاري هي ما ستوضح أي الفريقين كان أقدر على إقناع الناخب التركي بوجهة نظره ومقاربته، وبالتالي على منحه صوته يوم الاقتراع، ورسم المشهد السياسي التركي صبيحة الأول من الشهر المقبل.