قبل ثلاثة عشر عامًا تقريبًا، انتشر في فضاء الإنترنت العربي ما عُرف بالمنتديات الثقافية. ومن خلال هذه المنتديات انطلقت على استحياء محاولات روائية بسيطة لكُتَّاب مغمورين. كان الكاتب من هؤلاء أمام مصيرين: إما أن يقابَل بالتجاهل أو النقد السلبي، وإما أن يلقى استحسانًا وتشجيعًا من رواد المنتدى، فيتشجع لتقديم روايته لإحدى دور النشر.

برز من هؤلاء الكُتَّاب في تلك الفترة اسم الجرَّاح السعودي الدكتور منذر القباني، وسرعان ما صدرت روايته الأولى «حكومة الظل» عام 2007 عن الدار العربية للعلوم ناشرون. استُقبلت الرواية بحفاوة لا بأس بها من القراء، وأُدرجت ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على موقع النيل والفرات لذلك العام. وكون أن الرواية تتناول موضوع الماسونية ورموزها، وتنتقل أحداثها بين زمنين، فقد تحمس بعض القراء لهذا الروائي القادم، وأطلقوا عليه لقب «دان براون العرب».

تابع الدكتور منذر القباني نهجه على الطريقة نفسها، فأصدر في العام الذي تلاه رواية «عودة الغائب»، وهي الجزء الثاني والمتمم لرواية «حكومة الظل»، ولاقت الرواية النجاح نفسه، وصدرت منها أربع طبعات في فترة زمنية قصيرة. بعد ذلك اختفى الدكتور القباني أربع سنوات كاملة، لكنه عاد لجمهوره في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2012 برواية جديدة هي الجزء الأول من ثلاثية حملت عنوان «فرسان وكهنة»، وبمزج مميز ومختلف بين الفيزياء الكمية والأحداث التاريخية.

يمكن بسهولة التعرف على الفترة التاريخية التي اختار القباني تناولها، من خلال عنوان الرواية التي صدرت في العام الذي تلاه، والتي حملت اسم «قطز»، حيث تناول فيها قصة قائد المغول جنكيز خان، والمد التتاري أيام الدولة الخوارزمية، مع مسحة صوفية جميلة. وأخيرًا أنهى القباني ثلاثيته برواية «قرين»، التي صدرت عام 2015.

وكحال أي روائي، كان للدكتور القباني بعض المنتقدين، فهناك من القراء من منح الروايات تقييمًا منخفضًا على موقع «جودريدز»، وكتب عنها مراجعات سلبية. لكن رغم ذلك، نجح القباني في تأسيس جمهور لا بأس به، ينتظر رواياته ويناقشها، ويتناولها بكثير من التقدير لكم المعلومات الموجود فيها. ونستطيع أن نقول إنه أوجد لنفسه خطًّا متفردًا لا يشبهه فيه أحد من الكُتَّاب الحاليين، وخصوصًا في المملكة العربية السعودية. لكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجأة.


ما الذي حدث؟

في بدايات العام 2014، وبعد إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، بدأ الدكتور القباني يكتب مراجعات سلبية تحمل ألفاظًا غير نقدية عن بعض الروايات التي وردت في تلك القائمة، وهو ما لا يقوم به الروائيون عادة، خصوصًا ممن لهم رصيد جيد من الروايات والجمهور. فوجدناه يصف رواية «الفيل الأزرق» لأحمد مراد بأنها «سلعة غثة».

منذر القباني
منذر القباني

كذلك أبدى اشمئزازه من رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» للروائي السوري خالد خليفة، معتبرًا أن فوزها بجائزة نجيب محفوظ «مصيبة»، وذلك لما اعتبره إقحامًا مبالغًا فيه وفظًّا للجنس، واتهم زميلَه الروائي السوري بأنه تعمد إظهار مجتمع مدينة حلب «كأنه مصاب بسعار جنسي».

منذر القباني
منذر القباني

ولو أن الأمر توقف عند ذلك الحد لهان، ولاعتبرناه مجرد غيرة بسيطة من روائي يشعر بالغضب من ألا تلقى رواياته تقديرًا من لجان تحكيم الجوائز، ولكن روايته التي صدرت في يناير من عام 2018 احتوت على جمل غريبة لا يجد القارئ لها تفسيرًا. الرواية التي صدرت أيضًا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، كما رواياته الخمس السابقة، حملت عنوان «زوجة واحدة لا تكفي.. زوج واحد كثير!»، وعلامة التعجب هنا من ضمن العنوان.

اختار الدكتور القباني هذه المرة أن يبتعد عن نهجه السابق، ويخوض غمار الرواية الاجتماعية. لكنه في روايته هذه يتبع نهجًا مبتذلًا ومستفزًا، فنجده يقفز بصفته راويًا كل بضع صفحات، ليخاطب القراء مباشرة بعبارات من قبيل «لعلكم يا أعزائي تتساءلون …»، «أود أن أعتذر منكم مقدمًا …»، «كل شيء سيتضح لكم إن تمكنتم من الصبر …». أما الكارثة فكانت الكلام الذي وجهه الراوي للقراء في نهاية الرواية، معتبرًا إياهم جيلًا نشأ على مسلسلات كمسلسل «الحاج متولي»، ومخاطبًا القراء بعبارات مثل «لجعلتكم تعيشون الوهم الذي تستحقونه» و«تمنياتي لكم بغفلة دائمة» و«يا لكم من سذج».

لم يكتفِ القباني بذلك، فصدرت مطلع العام الجاري روايته السابعة، عن دار نشر سعودية مغمورة هي مركز الأدب العربي، وحملت عنوان «صائد الساحرات». الثيمة الأساسية للرواية هي أن صاحب دار نشر كبيرة يقرر تبني روائي مغمور ليصبح نجمًا ويحقق أعلى المبيعات، ويضمن له الفوز بجائزة كبيرة عربيًّا، ما يعني أن القباني يحاول مجددًا أن يمرر لقرَّائه قناعته بأن كل الكُتَّاب الناجحين ما هم إلا صنيعة دور نشر، وأن الجوائز تباع بيعًا دون أي مصداقية للجان التحكيم.

السؤال هنا هو ما الدافع وراء كل ذلك؟ لماذا انقلب الدكتور منذر القباني من كاتب رصين مثقف يبذل جهدًا لا يمكن إنكاره في سبيل كتابة رواية غنية بالمعلومات التاريخية والتشويق، ويقدم الشكر لقرائه في صفحة الإهداء من كل رواياته الخمس السابقة، إلى كاتب يستخف بجمهوره إلى هذا الحد، وينتقد زملاءه الروائيين علانية؟ لماذا أغضبه إلى هذه الدرجة تجاهل الجوائز له، وبعض الانتقادات التي لم يسلم منها روائي، فصب جام غضبه على القراء؟

يبدو أن الدكتور نسي أو تناسى أن الرد على المنتقدين حق مكفول له، لكنه لا يكون بهذه الطريقة، فمن حقه أن يكتب مقالًا أو سلسلة مقالات، أو حتى يُصدر كتابًا يرد به على منتقديه، ويوضح وجهات نظره، لكن فن الرواية له قدسيته، وله جمهوره الوفي، المشغول أيضًا، والمحاط بكمية كثيفة ولا نهائية من الروايات التي تستحق القراءة، لكُتَّاب يحترمون جمهورهم، ويعتبرونهم جائزتهم الأهم.