يعد مقتدى الصدر الرقم الصعب الذي يصعب تجاوزه في الساحة السياسية العراقية، معتمدًا على الولاء الشديد لشخصه من جانب أعداد كبيرة من شيعة الجنوب، مما جعله أبرز الشخصيات تأثيرًا في الشارع العراقي، و«صانع الملوك» كما يحلو للبعض أن يصفه بذلك.

 يروج مقتدى لنفسه كبطل وطني للعراق ومناضل ضد الاحتلال ورافض لهيمنة إيران ومحارب للفساد والفاسدين والمفسدين ومَعقد آمال المضطهدين والمسحوقين، رغم أن مواقفه وتقلباته تجعل من كل الأوصاف السابقة موضع خلاف بين مؤيديه الذين يرونه شخصية مقدسة ومعارضيه الذين يعتبرونه جزءًا من منظومة الفساد والإجرام في العراق، ورغم أن الفرق بينه وبين أمراء الحرب الآخرين هو في الخطاب والشعارات الرنانة التي تناقض أفعاله وتصرفاته.

وريث آل الصدر

ولد مقتدى عام 1974، وكان والده محمد صادق الصدر مرجعًا دينيًّا له شعبية كبيرة في جنوب العراق، وتزوج من أسماء ابنة محمد باقر الصدر، ابن عم والده، الذي أُعدم على يد نظام صدام حسين عام 1980 وأطلق مريدوه عليه لقب «السيد الشهيد الأول».

بعد اغتيال محمد صادق الصدر وولديه مؤمل ومصطفى، في 19 من فبراير/شباط 1999، عمت الاضطرابات مدن الجنوب فيما عُرف بـ «انتفاضة الصدر» أو «انتفاضة ساعة الصفر»، ووُجهت أصابع الاتهام إلى النظام بالمسئولية عن قتلهم، وحدثت مصادمات مسلحة بين الجمهور الصدري وقوات الأمن العراقية، راح ضحيتها المئات من القتلى، وأطلق أتباع محمد صادق الصدر عليه لقب «السيد الشهيد الثاني»، تشبيهًا له بابن عمه؛ إذ إن كليهما حمل لقب «آية الله العظمى» التي تعني الوصول لدرجة الاجتهاد في المذهب الشيعي.

ورث مقتدى مكانة أبيه في قيادة الجماهير وهو في العشرينيات، وأشرف على جامعة الصدر التي أسسها والده، وأهلته مكانة عائلته المنتسبة لآل البيت ليرث شعبية جارفة بين شيعة الجنوب العراقي، رغم تواضع مكانته العلمية وعدم وصوله إلى درجة المرجع الديني في المذهب الشيعي.

بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وسقوط نظام صدام، غُيِّر اسم حي «مدينة صدام» في العاصمة بغداد إلى «مدينة الصدر»، وفي نفس العام أسس مقتدى ميليشيا جيش المهدي بحجة حماية المراقد الدينية، لكنها كانت بمثابة جيش شخصي تابع له.

وفي 2004 اندلعت اشتباكات دامية، بين جيش المهدي والقوات الأمريكية، بسبب قرار الحاكم الأمريكي للعراق، بول بريمر، بغلق صحيفة «الحوزة» التابعة للصدر، ومحاولة القوات الأمريكية اعتقاله لاتهامه بقتل الزعيم الشيعي عبد المجيد الخوئي، ودارت معارك طاحنة بين جيش المهدي والقوات الأمريكية وحلفائها من القوات الإسبانية والسلفادورية والإيطالية، وامتدت المواجهات إلى أغلب محافظات وسط وجنوب العراق، وتحصن الصدر بمرقد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النجف، وانتهى الأمر بانسحاب الأمريكيين من النجف والكوفة وتسليم أمر المدينتين إلى الشرطة العراقية.

ويعد تفجير مرقد الإمامين (العاشر، علي الهادي، والحادي عشر، الحسن العسكري) المقدس لدى الشيعة في فبراير/شباط 2006، في مدينة سامراء، من المحطات المهمة في تاريخ مقتدى الصدر؛ إذ أطلق قواته لتنفيذ مجازر ضد أهل السنة شملت الخطف والقتل والتعذيب، فيما عُرف إعلاميًّا بـ «فرق الموت»، بدعم من حكومة رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي.

وفي مشهد إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في نهاية عام 2006، كان من حوله يهتفون «مقتدى مقتدى مقتدى» بينما كان حبل المشنقة يحيط برقبة صدام، وانتشر هذا المقطع على مواقع الإنترنت في ذروة اشتعال المجازر الطائفية ضد السنة.

وشهد عامي 2006 و2007 معارك عنيفة بين جيش المهدي والشرطة العراقية، بهدف السيطرة على مدن الجنوب مثل العمارة وكربلاء، وفي فبراير/شباط 2007، فرض جيش المهدي حصارًا على قواعد التحالف الدولي في البصرة، وجرت معارك كثيرة انتهت بانسحاب قوات التحالف من البصرة وهيمنة الميليشيات عليها، إلى أن شن رئيس الوزراء نوري المالكي حملة عسكرية تحت اسم «صولة الفرسان» في مارس/ آذار 2008، سحقت جيش المهدي، واعتقلت العديد من عناصره وصادرت الأسلحة منه، وسيطرت على البصرة.

وكان الصدر أعلن تجميد عمل جيش المهدي مؤقتًا في 29 أغسطس/آب 2007، وفي أغسطس/آب 2008 قرر تجميده إلى أجل غير مسمى، وفي سبتمبر/أيلول 2008 أسس ميليشيا «لواء اليوم الموعود»، وسافر إلى مدينة قُم الإيرانية لدراسة العلوم الدينية ليستطيع الحصول على درجة مرجع ديني ويعزز سلطته الروحية.

عاد الصدر من إيران مطلع عام 2011، وأعلن حل تشكيل لواء اليوم الموعود ووقف عملياته ضد القوات الأمريكية لإتاحة المجال لها للانسحاب من البلاد، وبعد ظهور تنظيم داعش في عام 2014 أسس الصدر ميليشيا «سرايا السلام»، بحجة قتال التنظيم الإرهابي، وانضمت لها قيادات سابقة بجيش المهدي ولواء اليوم الموعود، رغم إعلان الأخير عدم اشتراكه في السرايا لاختلاف أهداف ومهام الفصيلين، وفي فبراير/شباط 2015، أعلن تجميد كل الميليشيات التابعة له، لكن السرايا عادت للقتال مرة أخرى ضد تنظيم داعش في سامراء واستمر وجودها العسكري حتى الآن، واتهمتها الحكومة بارتكاب انتهاكات.

هواية قلب الطاولة

ظل الاحتكام إلى السلاح والحشد الجماهيري سلاح الصدر في صراعه مع القوى الشيعية الأخرى على النفوذ والهيمنة، ففي عام 2016، نتيجة لخلافات سياسية مع بعض الأحزاب هاجم الصدريون المنطقة الخضراء شديدة التحصين أكثر من مرة واقتحموا البرلمان تحت شعار الاحتجاج على الفساد والفشل الحكومي، وفي خطوة أثارت الكثير من الجدل سافر إلى الرياض في يوليو/ تموز 2017 بهدف التقارب مع السعودية وتقوية موقفه ضد خصومه السياسيين، وفي الشهر التالي زار الإمارات، ليعود بعدها إلى العراق مطالبًا بإنهاء عمل الميليشيات الطائفية التابعة لإيران.

 وفي ديسمبر/كانون الأول 2017، بعد عجزه عن فرض رؤيته على الساحة السياسية قرر ممارسة هوايته المعهودة فأمر بتجميد عمل كتلته البرلمانية لمدة أربع سنوات، وأعلن النواب السمع والطاعة، لكنه ما لبث أن عاد ليشارك في الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/أيار 2018، متحالفًا مع الحزب الشيوعي، ضمن تجمع يضم ستة أحزاب تحت شعار «سائرون نحو الإصلاح»، وفازت سائرون بالمركز الأول في الانتخابات، وعقد الصدر تحالفات واسعة عابرة للطوائف، محاولًا محو ماضيه الطائفي، مما منحه نفوذًا واسعًا وسمح له بتوزيع الوظائف والمزايا والمناصب العليا على مؤيديه.

ولما انتفض الشارع الشيعي العراقي ضد هيمنة الأحزاب والميليشيات التابعة لإيران في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، دعم الصدر الاحتجاجات بقوة لتجنب النقمة الشعبية ضده، وحاول إخماد الاحتجاجات بالوسائل السلمية، ولما فشل لجأ إلى قمعها بقسوة واعتبر ساحات الاحتجاجات أماكن للفاحشة والانحراف ونشر الإلحاد.

ويقود الصدر أتباعه بشكل يظهر خضوعهم التام له، فعندما قرر مقاطعة الانتخابات انتشرت صور منسوبة لعناصر التيار الصدري وهم يحرقون بطاقاتهم الانتخابية، ولما غير الصدر رأيه وافقوه دون نقاش ونفوا صحة ما تردد عن حرق البطاقات وحشدوا بقوة للانتخابات وفازوا بأكبر كتلة نيابية في البرلمان، ولما عجز الصدر عن تشكيل حكومة أغلبية بسبب عقبات دستورية وضعتها القوى الشيعية المقربة من إيران، قلب الطاولة من جديد وأمر نواب كتلته في البرلمان بالاستقالة في  12 يونيو/حزيران الماضي، فظن خصومه أنه خرج من اللعبة كنوع من الاحتجاج فقدموا مرشحًا لتولي منصب رئاسة الوزراء، وهنا اشتعل غضب الصدر، فأرسل أتباعه لاقتحام البرلمان واصفًا ما فعلوه بـ «الثورة العفوية» رغم أن الجميع يعلم أنهم لا يتحركون إلا وفق رغبة زعيمهم مهما بدت قراراته ارتجالية ومفاجئة.

واتضح جليًّا أن الصدر لن يسمح بتشكيل الحكومة الجديدة دون الرجوع إليه، وهو يحاول جمع أكبر عدد من المؤيدين والتقارب مع الاتجاهات الأخرى لتقوية موقفه، ويعتمد خطابًا سياسيًّا يركز على مهاجمة الفساد والفاسدين رغم تورطه في عمليات فساد كثيرة من أشهرها تقديم شركات أدوية أجنبية، مثل فايزر واسترازينيكا وجونسون، رشاوى عينية لرجاله، لفتح أسواق العراق أمام منتجاتها، في الوقت الذي كان يسيطر فيه تياره على وزارة الصحة.

ويطالب الصدر بضبط ميليشيات الحشد الشعبي المقربة من إيران ومنعها من الأنشطة السياسية والاقتصادية، لكنه يستثني ميليشياته المتهمة بقتل الآلاف من أهل السنة تحت التعذيب، وبيع الجثث لعوائل الضحايا، وتفجير أكثر من 200 مسجد في بغداد لأهل السنة، وارتكاب مجازر ضد اللاجئين الفلسطينيين، رغم أنه يرفع شعارات نصرة القضية الفلسطينية، فتارة يدعو مريديه للصوم تضامنًا مع أسرى فلسطين، وتارة يفتح باب التطوع لتحرير القدس، وبأنه سيكون أول جندي في هذه المعركة التي بالطبع لم تحدث أبدًا، رغم الإعلان عن تشكيل لواء باسم «قدسيو الصدر» خصيصى لأجل تحرير القدس.

لكن قواته تسيطر على قضاء سامراء بحجة حماية المراقد الدينية، وتنفذ باستمرار عمليات خطف ضد المدنيين بحجة التحقيق معهم، وتمارس العنف في المحافظات السنية المحررة من داعش، وتجني أموالًا طائلة من نهب ثرواتها وكأنها امتلكتها بحق الفتح، مجبرة سكانها على النزوح أو الهجرة فرارًا بحيواتهم من بطشها.

وفيما يُصعد الصدر من خطابه ضد أذناب إيران في العراق ويرفض تدخلها في بلاده، نراه يتواصل مع الإيرانيين ويذهب إلى بلادهم مرارًا، ويؤيد مواقفهم وسياساتهم، مما يوحي بأن هذه المشاكسات تأتي في إطار الصراع على المناصب والنفوذ مع أمراء الحرب الآخرين الذين سيطروا على المناصب المهمة داخل هيئة الحشد الشعبي، وحظوا بدعم كبير من طهران، ونافسوه على زعامة العراق.