على مدار عدة أيام، اجتاحت المدن الفرنسية مظاهرات غاضبة سرعان ما تحولت إلى أعمال شغب واقتحام للمحال والمتاجر ومصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن والدرك، وذلك على إثر مقتل فتى من أصول جزائرية-مغربية يبلغ من العمر 17 عامًا، على يد شرطي خلال عملية توقيف مروري.

وعقب تشييع جثمان الفتى، نائل المرزوقي، ظهر يوم السبت، الأول من يوليو/تموز، من مسجد ابن ياس بضاحية نانتير الباريسية إلى مثواه الأخير بمقبرة مون فاليريان، تجددت الاشتباكات لليوم الخامس على التوالي بين المتظاهرين وقوات الأمن التي تم حشدها بأعداد ضخمة لم تشهدها المدن الفرنسية منذ عام 2005، في حادثة مشابهة عندما تسببت قوات الأمن أيضًا في مصرع مراهقين من أصول أفريقية، أدت إلى استمرار أعمال شغب استمرت لمدة ثلاثة أسابيع.

وقد أعلن المدعي العام توجيه تهمة القتل العمد إلى الشرطي المتهم والبالغ من العمر 38 عامًا، مشيرًا إلى أن النيابة لم ترَ تحققًا للشروط القانونية لاستخدام السلاح في الحادثة، وهو ما دفعها إلى طلب احتجاز الشرطي، وهو إجراء نادر الحدوث في مثل هذا النوع من القضايا.

قادت والدة الضحية، وتدعى «منية» أو «مونيا»، المظاهرات المطالبة بحق ابنها وصرحت لوسائل الإعلام بأن الشرطي لم يكن مضطرًا إلى قتل ابني، وأنه تعمد إنهاء حياته بدوافع عنصرية قائلة: «إن الشرطي رأى وجهًا عربيًّا فقتله». مضيفة: «إلى متى سيستمر هذا؟ كم عدد الأطفال الآخرين الذين سيُقتلون على هذا النحو؟ كم من الأمهات سيجدن أنفسهن في مكاني؟».

قانون في خدمة العنصرية

فتحت هذه الحادثة باب الحديث عن تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية تجاه الأجانب أو الفرنسيين من أصول عربية وأفريقية، إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد ضحايا رصاص الشرطة العام الماضي بلغ 39 شخصًا، بينهم 13 في حوادث توقيف مروري تشبه حادثة الفتى نائل، الذي كان هو الضحية الثالثة للعام الجاري، قالت وكالة رويترز، إن أغلبهم من أصول عربية أو أفريقية.

وقالت عدة منظمات حقوقية، إن عدد القتلى برصاص الشرطة قد تضاعف خمس مرات منذ تعديل قانون استخدام الأسلحة الشرطية عام 2017، والمعروف باسم المادة 435-1، عقب الاعتداء على ضابط تم رشق سيارته بعبوات حارقة، لتصبح الحالات التي يُسمح لقوات الأمن خلالها بإطلاق النار خمسًا، من بينها حالات التوقيف المروري إذا تجاهل السائق أمرًا بالتوقف، واعتبار ذلك يشكل خطرًا على حياة الضابط أو سلامته أو سلامة الآخرين، وهي الحالة ذائعة الصيت في حوادث القتل كان من بينها فتاة تسمى «ريانة» قتلت منذ عدة أشهر برصاص الشرطة بينما كانت راكبة في سيارة، لم يتوقف سائقها امتثالًا لأمر الشرطة.

يقول الباحث أحمد نظيف المختص في الشأن الفرنسي في حديث لـ«إضاءات» إن ما يحدث هو نتيجة تراكم لعقود من سياسات الدولة الأمنية تجاه الأحياء الشعبية، لا سيما التي تضم فئات من أصول مهاجرة، ونتيجة أيضًا لصعود واضح لليمين واليمين المتطرف سياسيًا وبخاصة إعلاميًا: «كان منتظرًا أن تنفجر هذه التراكمات».

بينما أشار مصدر من داخل أحد مراكز مساعدة المهاجرين إلى زيادة حدة العنصرية داخل الأروقة الحكومية تجاه اللاجئين والمهاجرين والأجانب بشكل عام، وهو ما وصفه بالنهج الدائم للدوائر الرسمية تجاه الأجانب.

وتعاني نسبة كبيرة جدًا من المهاجرين والأجانب في فرنسا من وضعية اقتصادية واجتماعية هشة وسيئة للغاية، الذين هم غالبية سكان الضواحي والأحياء الفقيرة في المدن الكبرى مثل العاصمة باريس ومارسيليا وليون، حيث تتشدد الحكومة الفرنسية في إعطائهم أوراقًا ثبوتية يمكنهم العيش والعمل بها، مما يضطرهم للعمل في وظائف خارج رقابة الدولة وقوانين العمل، وقد قدرهم وزير الداخلية الفرنسي السابق، جيرالد دارمانين، بين 600 ألف و700 ألف مهاجر في نوفمبر 2021.

ليس المهاجرون وحدهم

أما الباحث والكاتب تميم هيكل فيشير إلى أنه عكس ما يعتقد كثيرون، فإن المظاهرات والصدامات الحالية بها نسبة كبيرة جدًا من الشباب الفرنسي الذي يشعر بإحباط من هذه الحكومة.

ويضيف هيكل في حديث لـ«إضاءات»: «هناك أرض خصبة لما يجري من أحداث في المدن الفرنسية، فخلال سنوات حكم الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، تراكمت حالة الغضب وإحساس المواطن الفرنسي بعدم أهمية رأيه أو رغباته، حيث يتم تغيير القوانين بالقوة وبتجاهل تام للمظاهرات والاحتجاجات أدى إلى هذه الحالة من الإحباط العام».

ويوضح قائلًا: «لقد مثل مشهد قتل الفتى نائل شرارة أتت على برميل من البارود، فجر حالة الغضب الحالية، وللأسف فإن الأحكام العرفية وحظر التجول الذي لجأ إليه ماكرون سيأتي برد فعل عكسي، وسيسهم في تدهور الأوضاع أكثر، ونحن نرى أن الانصيع لمثل هذه الإجراءات ضعيف جدًا، مما يدل على أزمة الحكومة وضعفها مما دفع كثيراً من المفكرين الفرنسيين إلى القول بأن الجمهورية الخامسة في حالة خطر».

وكان المرصد الفرنسي لعدم المساواة قد كشف مؤخرًا في تقرير له عن استمرار الفرق الاجتماعي الحاد من حيث الدخل ومن حيث الثروة والتحصيل الأكاديمي وكذا الصحة.

وأشار المرصد إلى أن التناقض الصارخ بين الطبقات الاجتماعية الفرنسية هو ما يغذي الصراعات الكبرى وهو محرك قوي للتصدع وبالتالي التوترات في المجتمع، وهو ما تتعمد كثير من الأطراف السياسية استبعاده من التحليل ومن الخطاب السياسي السائد، وفق المرصد الذي بين أن الفروق التي يتم التركيز عليها هي لون البشرة أو السن أو الجنس وليس الطبقة الاجتماعية وحجم التفاوت بينها مبينًا أن الفئات الدنيا تشعر بأنها مستبعدة من التقدم الذي يحدث في فرنسا، حيث يكسب أغنى 10% من المجتمع ثلاثة أضعاف ما يكسبه أفقر 10%، كما أنهم أقل تضررًا من الهشاشة الوظيفية والسكن غير اللائق، وكذلك في ما يخص المعاناة تجاه بعض المشاكل الصحية، مشيرًا إلى أن البعض من هذه الطبقة الغنية يمكنه العيش ست سنوات إضافية أكثر من العامل.

غضب من القاع إلى القمة

وأجبرت الانتفاضة الحالية رئيس الجمهورية على قطع زيارته إلى العاصمة البلجيكية بروكسل لحضور قمة الاتحاد الأوروبي، كما اضطر ماكرون إلى إلغاء سفره إلى ألمانيا وتأجيل زيارة الدولة، حيث قال قصر الإليزيه في تصريح صحفي: «بالنظر إلى الوضع الداخلي، يرغب رئيس الجمهورية بالبقاء في فرنسا خلال الأيام القليلة المقبلة»، ولم يتم تحديد موعد جديد للزيارة، بينما قالت الرئاسة الألمانية في بيان، إن الرئيس الفرنسي طلب تأجيل الزيارة، مضيفة أن الرئيس الألماني قد عبر عن أسفه لإلغاء الزيارة، وتفهمه للوضع الداخلي الفرنسي الذي يتابعه باهتمام كبير.

وقد أصدرت الحكومة الفرنسية قرارًا بمنع جميع المظاهرات في عدة مدن من بينها مارسيليا وستراسبورج مع تعزيز الحضور الأمني وتوقف حركة وسائل النقل العام في ساعات مبكرة، وذلك بعد أن بلغ عدد المقبوض عليهم من المتظاهرين ومثيري الشغب أكثر من ألفي شخص، وارتفاع عدد السيارات التي أضرمت فيها النيران إلى أكثر من 1350 سيارة، وتعرض حوالي 250 مبنى للحرق أو التخريب من بين أكثر من 2500 حريق شهدتها المدن والطرقات العامة، وإصابة عشرات من عناصر الشرطة والدرك بجروح بسيطة ومتوسطة.

وبعد أن بلغ عدد الهجمات ضد مراكز الشرطة قرابة 50 هجومًا، علاوة على 11 أخرى ضد ثكنات قوات الدرك، قررت الشرطة تسيير طائرات من دون طيار مزودة بكاميرات لمنع الهجمات على الممتلكات العامة، وبخاصة مراكز وأقسام الشرطة والدرك.

كما تعرض منزل رئيس بلدية ضاحية لاي ليه روز الباريسية لمحاولة الاقتحام وإلقاء مقذوفات نارية مما تسبب في حدوث إصابات لبعض أفراد أسرته، وقد قام المدعي العام بفتح تحقيق بتهمة الشروع في القتل، بينما لم يتم القبض على أي مشتبه به.

وعلى صعيد آخر تقدمت الصين بشكوى للحكومة الفرنسية بعد إصابة سائحين صينيين في أعمال الشغب في مدينة مرسيليا، بعد تهشم زجاج حافلة كانت تقلهم في المدينة الواقعة جنوب البلاد، بينما عبّرت الجزائر، عن صدمتها للقتل الوحشي برصاص الشرطة الذي تعرّض له الفتى نائل الذي قالت إنه أحد مواطنيها.

وتعد موجة الغضب الحالية هي الأكبر من انتفاضة السترات الصفراء التي اندلعت في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، واستمرت لشهور طويلة ضد ارتفاع تكاليف المعيشة.