تنطلق الصرخات بعد كل محنة تتعرض لها جماعة الإخوان مطالبة إياها بعمل مراجعات فكرية لمنهجها، بالتخلي عن بعض ثوابتها أو تغيير إستراتيجيتها. وهذه الدعوات التي تنطلق بذلك تنحسر بين محب لدعوة الإخوان محاولًا تقديم يد المساعدة في تطويرها وتغيير تفكيرها الثابت، أو إستراتيجيتها التي ربما لا تتوافق مع الواقع ومتطلبات العصر، أو المتغيرات الجيلية والمتوارثات الفكرية، وهذا الفريق يرحب به الإخوان ويسمعون لنصحه ومحاولة العمل برؤيته، إذا توافقت مع الشريعة الغراء.

والفريق الثاني هو الذي يطالب الإخوان بعمل مراجعات فكرية عقدية في منهجهم وثوابتهم، ومحاولة السير في فلك ما هو مرسوم للجماعات الدينية أو الأحزاب السياسية، بل البعض يطالبها بحصر نفسها إما في السياسة والعمل الحزبي، أو المسجد والعمل الدعوي، أو الخدمة والعمل التطوعي، رغم أن حسن البنا صرح أن فكر الإخوان فكر شمولي وليس جزئيًا.

إن من أسباب النجاح القوية للفرد والجماعة هي المراجعات، سواء كانت بالنقد الذاتي أو طلب النصيحة، والعاقل لا يخاف النقد أو النصح، والدعوات والجماعات يجب أن تحرص على تلمس سبل النقد البناء الذي يقيم الماضي ويرسم للمستقبل، عن طريق عقد المؤتمرات التي يشارك فيها كل صاحب نقد بناء، وناصح فعال، وعدو قدير يبتغي النصح الشريف، مع الوضع في الاعتبار عدم الحجر على الآراء، فالمجال يتسع للجميع، يقول الإمام «ابن القيم»: «لقاء الرجال لقاح العقول».

إن من أنجح الوسائل هي ورش العمل التي يتناقش فيها الجميع نقاشًا بناءً مثمرًا، يطرح فيه كل واحد رؤيته بمنهج علمي، ورؤية واضحة واقعية متطورة مواكبة للحداثة التي يعيشها العالم الآن، لكي تستطيع الجماعة التجدد والتمكن من قلوب أنصارها وأتباعها. فالنقد الحقيقي للرأي ليس هو الذي يأتي من أنصاره ومعتنقيه، وإنما هو النقد الذي يأتي من المعارضين له والمنكرين عليه.


«حسن البنا» وفكر المراجعات

أنشأ «حسن البنا» الجماعة عن عمر 22 عامًا –وهو في عرف الواقع شاب صغير لم يكتسب خبرات الحياة- واستطاع بما وهبه الله من ملكات خاصة ولباقة في الحديث واختيار الكلمات أن يجتذب الأنصار ويحيد الأعداء، كان لديه القدرة كذلك على وضع الإستراتيجيات وتنفيذها، ووضع الأطر الفكرية لجماعته –وفق رؤيته التي على أساسها سيطبقها واستنباطًا للحوادث السابقة- لكنه مع ذلك ومع تقدم العمر والاحتكاكات الكثيرة بالتيارات والأفكار المختلفة سواء الإسلامية أو الليبرالية أو الشيوعية، بالإضافة للاحتكاك بالعسكر وكبار القوم ورجال الفكر المتعددين، استطاع أن يكتسب خبرات جليلة أهلته لتحديث أفكاره أو ربما تغييرها من وقت لآخر.

ففي رسائل الإمام البنا يتضح التجديد الفكري والتغير في المفاهيم ومصطلحاتها من رسالة إلى أخرى، بل قد أدخل التجديد على بعض الرسائل ذاتها، سواء بحذف أو إضافة. فرسالة «دعوتنا في طور جديد» مثلًا، والتي أول ما نشرت كان في مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية في أغسطس من عام 1942م، تختلف عن رسالة «دعوتنا في طور جديد» التي نشرت في جريدة الإخوان اليومية في أكتوبر من عام 1948م، حيث أضاف عليها الإمام بعض الرؤى التي طرأت على الساحة والمتغيرات التي ساهمت في تغيير الواقع.

أيضًا رسالة «إلى أي شيء ندعو الناس»، التي نشرت في مجلة الإخوان الأسبوعية عام 1934م، أعيد نشرها في مجلة النذير عام 1939م بعدما أدخل عليها الأستاذ البنا بعض الإضافات، وحذف بعض الأشياء التي أصبحت لا تصلح لهذا الوقت. حتى أنه حينما تم نفيه لقنا عام 1941م، ثم اعتقاله في نفس العام، قال: هي فرصة لإعادة ترتيب الأوراق، فأراجع ما مضى وأعمد لإصلاح الأخطاء ووضع رؤية للقادم.

ليس ذلك فحسب، بل رسالة «المرأة المسلمة» التي نشرتها مجلة «المنار» في عدد مايو وسبتمبر من عام 1940م، تضمنت أراءً وأفكارًا عدَلَ الإمام عن بعضها في أواخر حياته، ما دامت في نطاق الشرع.

ومن ثم لم يكتب حسن البنا رسائله لتكون دستورًا لا يتغير من بعده، لكنها أطروحات وضعها في وقت حياته وفق الظروف التي كان يعيشها الوطن العربي والإسلامي والمجتمع، كما أنها رسائل وتعاليم ليست ثابتة لتظل الجماعة متمسكة بنفس الأطروحات التي كتبها، ولذا وجب على الجماعة التعديل وفق تطورات المجتمع والواقع والبيئة المحيطة، والأخذ من رسائل الإمام بما يتناسب مع حال الوطن والمجتمع الإسلامي.

من المواقف الواقعية لمراجعات البنا نفسه ما ذكره «عبد الحكيم عابدين» في مذكراته قائلًا: في أثناء اجتماع مكتب الإرشاد، كنا نجد الشيخ محمد الحامد يفتح علينا الباب ومعه صندوق من صناديق المياه الغازية، ويغلق الباب ويضع الصندوق ويجلس وراءه ويقول: لا سرية في اجتماعات المسلمين، أريد أن أتكلم، فكان بعضنا يضيق، ولكن المرشد العام -رحمة الله عليه- يهش له، ويقول: قل يا شيخ محمد، فيسمع له المرشد وهو مسرور.

ذات مرة كتب الحامد عشر ملاحظات يعتبرها نقدًا للإخوان المسلمين وللمرشد بالذات، وكتبها في كتاب غفل من الإمضاء، بخط غير خطه، أو ربما كان خطه غير معروف للمرشد، وقال: هذه ملاحظاتي، أرجو أن تفيدوا بها، وكانت مفاجأة أن وقف المرشد في حديث الثلاثاء وقبل طرح الأسئلة، وقال:

وما ذكره «جابر رزق» بقوله: جاء إلى الأستاذ البنا أحد زملائه من خريجي دار العلوم هو الأستاذ «س. سعد»، وهو من أروع الناس وأتقاهم، ولكنه غضب كل الغضب؛ لأن الإخوان قد أنشأت فرقًا للجوالة والكشافة تلبس البنطلون القصير، قال الأستاذ «س. سعد»: يا حسن أفندي، فأجاب: نعم سيدي، قال: إني أكرهك، فابتسم البنا وقال في هدوء وبشاشة: وإني والله أحبك. فقال الرجل: ولكني أكرهك في الله؛ لأنكم تكشفون الركبة في ملابس الجوالة والكشافة، فأجاب البنا مخلصًا: هذا يزيدني حبًا فيك، لأنك تكرهنا في الله، وليس لسبب شخصي، فوعده أن يعالج هذا الأمر.


«الهضيبي» ومراجعات حتمية

تولى المستشار «الهضيبي» مسؤولية الجماعة في وقت كانت تعاني من قرار الحل الذي أصدره «النقراشي باشا»، ثم غياب مؤسسها الأول، والصراع على مكان المرشد بين «صالح عشماوي» و«عبد الرحمن البنا»، وقتها جاء الهضيبي –رغم أنه كان مستشار البنا الخاص- من الصفوف الخلفية ليتولى قمة الهرم التنظيمي ويقود الجماعة في ظروف صعبة بطبيعته الخاصة، التي كانت تكسو وجهه وطبيعته.

جاء وفي تفكيره أخطاء النظام الخاص التي وقع فيها بعض قادته، وهزت أركان الجماعة وصورتها وسط المجتمع الداخلي والخارجي، فكان قراره لا سرية في الدعوة، ولذا كان الصدام بين القيادة الجديدة للجماعة، وقيادة استشعرت أنها أحق بالقيادة وأخذ القرار في هذا الموضوع، وانطلق الصراع فكان قرار المراجعات بتحجيم دور النظام الخاص، خاصة بعد حرب القنال عام 1951م، وبلغ أوجه حينما صدر القرار بفصل كل من خالف أسس ومبادئ الجماعة التنظيمي.

ازداد الصراع واتسع نطاقه ودخلت قيادات أخرى على خط المواجهة، فكان سيف الفصل دون سيف الاحتواء، حتى وقعت الجماعة لخدعة كبرى –وهي صاحبة القوى الكبرى والوزن الثقيل- من قبل عدد قليل من العسكر، حتى زجّ بهم في أتون المحنة التي طالت ما يقرب من عشرين عامًا.

انحسرت الجماعة وانبثقت منها أفكار أكثر عنفًا، فكانت شبه المراجعة –أو ما يطلق عليه تحديد الطريق- بصدور كتاب «دعاة لا قضاة»، ليكون حائط صد للتنظيم وأفراده ضد العنف والتطرف، الذي ظهر وبدأ يستشري في ظل الظروف التي كان يعيشها المعتقلون من تعذيب وتنكيل واضطهاد، والذي لا أدري هل سمح «عبد الناصر» بانتشاره ووصوله لباقي أفراد الإخوان في السجون، أم أنه وصل لهم في غياب الرقابة البوليسية، خاصة أن عبد الناصر كان يشجع الفكر التكفيري الذي أخذ في الانتشار، وما دور الضابط «عبد العال سلومة» بخافٍ عن أحد.


الجماعة والصراع النفسي

أحب أن أقول لكم شيئًا: جاءنا كتاب غفل من الإمضاء من أخ كريم غيور علينا، يؤمن بدعوتنا، سابق إلى الفضل، أحسبه أخونا الشيخ محمد الحموي؛ لأن عليه طلاوة أسلوبه، وخفة روحه، وهو ينقدنا في عشر نقاط، أما الأولى فهي كيت وكيت وكيت، وهو على حق ونحن مخطئون فجزاه الله خيرًا، ونعده بألا نفعل، والثانية كيت وكيت ونعده ألا نفعل. فقام الشيخ محمد الحامد الحموي يبكي ويحاول منع الأستاذ من الاسترسال، والمرشد لا يقبل هذا حتى أتى على العشر نقاط، ووجد أنه على حق في سبعة وقال: أما الثلاث الأخرى فلا أقول: ليس معه حق، ولكنني أقول له: عذرًا؛ لأنه خفي عليه الشيء الفلاني، والحقيقة هي كذا وكذا وكذا، فقام الرجل وأصر على تقبيل يد المرشد، والمرشد يقول: أنت الذي تقبل يده.

خلال ما يقرب من أربعين عامًا، والجماعة لا يذكر لها أنها قامت بمراجعات فكرية خلال هذه الفترة، وعملت جاهدة على المحافظة على التنظيم من أن تنقض عراه، وكان جل تفكير الجميع ربط الأمور القلبية بالأمور التنظيمية، في محاولة للحفاظ على تماسك التنظيم والحفاظ على قوته.

يقول الشيخ الغزالي:

مما يثير الحسرة رفض دراسة الأخطاء التي تورط فيها بعضنا، ولحقتنا منها خسائر جسيمة! إنني أسارع إلى القول بأن الأخطاء لا تخدش التقوى، وأن القيادات العظيمة ليست معصومة، ولا يهز مكانتها أن تجيء النتائج عكس تقديرها، إنما الذي يطيح بالمكانة تجاهل الغلط، ونقله من الأمس إلى اليوم وإلى الغد، وادعاء العصمة، والتعمية على الجماهير المسترسلة.. إن هذه الكبرياء لا تقل دمامة عن العوج الذي نحاربه في صفوف خصومنا، ونزدريهم من أجله.

فالمراجعات وإعطاء الفرصة للآخرين والتواصل مع الجميع، ليس عيبًا ولا وصمة سيئة في جبين الجماعات الإسلامية، فلو نظرنا للخليفة «عمر بن الخطاب» في قوله:

لو كانت لي حياةٌ لما أقررت واليًا أكثرَ من أربع سنين؛ إن كان عدلًا مَلّه الناس، وإن كان جائرًا فيكفيهم من جوره أربع سنين.

وهكذا لابد للإخوان أن يلتفتوا لهذا الأمر، فيعمقوا الفكر البحثي للمراجعات الفكرية والتنظيمية، فمن غير المعقول أن يظل بعض الأفراد في القيادة على ما يرنوا من 20: 25 عامًا!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.