يبني القرآن الكريم فلسفته في التغيير على المحاججة العقلية والمنطق، وليس على التآمر والقتل، فقد حكى القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم استخدم العقل في قوله تعالى:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ»
سورة البقرة – آية 258.

وهنا لم يدخل أبو الأنبياء في جدل عقيم مع ذلك الملك حول الفرق بين معنى الموت والحياة الذي يقصده عندما قال «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ»، بل بادره سيدنا إبراهيم بحجة عقلية أقوى: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ». فكانت النتيجة: «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعه «خليل الله» لإثبات فساد عقيدة قومه في عبادة الأصنام:

«فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ»
سورة الأنبياء – آية 63.

الدجاجة أم البيضة؟!

ولكن ديالكتيك العقل الذي استخدمه سيدنا إبراهيم مع قومه تحوّل لدينا إلى جدل عقيم بين العقل والنقل، صراع بين الحداثة والتراث، ما أوقعنا في المعضلة المنطقية الكلاسيكية: من أتى أولاً: الدجاجة أم البيضة؟ العقل أم النقل؟ حتى صارا نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإذا حضر العقل غاب النقل والعكس صحيح.

وقد لعبت السياسة دور البطولة في إيجاد هذا التناقض واستمراره عبر قرون طوال، فالحُكّام منذ بني أمية تبنوا معارف الإسلام التي لا تصطدم بوجودهم، ولا بأحوالهم الاقتصادية التي تحيط بهم أو يشكلونها لحراسة سلطتهم، لهذا فإن العلم المُستمَد من القرآن الكريم والسنة والنبوية، انفصل عن الحكم منذ عصر مبكر. [1]

فنجد الأئمة الذين قادوا الأمة علميًا (أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل) قد التزموا بفرع الفقه، كما التزم المُحدثون -علماء الحديث- برواية السنن وغلب عليهم الرغبة في ألا يصطدموا بالنظام القائم، لأن النظام القائم اصطدم به الخوارج، وهم ليس لديهم فقه، فنكّل بهم النظام تنكيلاً قطع دابرهم، وأيأس الناس من أن يكون هناك مجال لإصلاح سياسي بالمعنى الذي يعود بالأمة إلى دولة الخلافة الراشدة، واكتفى الأئمة بأنهم قبلوا الأمر الواقع واستفاضوا في شروح العبادات والمعاملات على النحو الذي وصلنا إليه.

حيث حصل أن جاءت الدولة العباسية بعد الدولة الأموية، فوقع في نفوس الناس يأس من تحقيق الإسلام بمفهومه الكامل مائة بالمائة، فاكتفوا بتحقيق الناحية الفرعية في فقهه، والناحية العبادية الفردية، وتأثرت السياسة الإسلامية، وانهزمت الشورى انهزامًا واضحًا، ووقع للأمة ما وقع، وهذا أحدث زلزالاً في الفكر الإسلامي. وليس أدل على ذلك من تعليق «الحسن البصري» لما قيل له: «لص مأخوذ إلى الحاكم»، قال: «سبحان الله سارق السر يُسعى به إلى سارق العلانية». وقد اكتفى الحسن البصري بهذا التعليق، لكن لم يستطع أن يتحول إلى ثائر، وهو منْ رأى مصارع الخوارج، وبطش الحجّاج. [2]

وليس أدل على ذلك أيضًا من أن من تكون هناك نظرة دونية لمن يشغل نفسه بمجال المعرفة والعلم، فرجل مثل «سيف الدولة الحمداني» كان يهب المئات والآلاف من الدنانير لقصيدة تُقال فيه، بينما يرى أن أربعة دراهم في اليوم كافية لمطالب الفيلسوف «أبو نصر الفارابي» المُلقب بـ «المعلم الثاني» -بعد المعلم الأول أرسطو، وبالمثل فقد عانى العالِم والطبيب والفيلسوف «الكندي» ظروفًا ألجأته لاعتزال الناس، وقضى «الحسن بن الهيثم» بقية عمره كاسبًا قوته من نسخ الكتب. [3]

وهي الأحوال نفسها التي تجري في المجتمع المسلم منذ قرون وحتى اللحظة، ليدخل المسلمون ليل التاريخ، بعد أن آثروا النقل على العقل، وحتى الذين استخدموا العقل خدموا أيضًا أهداف السلطة، حيث تركوا النقل وآثروا الحداثة، وتصوّروا إمكانية أسلمة الحداثة من خلال تبني منظومة الحداثة الغربية ومزجها بالإسلام، ولكن الجميع -على الرغم من اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم- قد حوّلوا الغرب إلى المرجعية الشاملة الصامتة، وبطبيعة الحال تراجعت المنظومة الإسلامية وتقلّصت أبعادها وفقدت شمولها باعتبارها رؤية للكون، وبدلاً من طرح تصورات إسلامية لكل مجالات الحياة، أصبحت القضية هي أسلمة بعض جوانب الحداثة. [4] مثل مساواة الرجل والمرأة في الميراث، وإسقاط فرضية الحجاب، وتعطيل الحدود. لذلك كان رد «محمد إقبال» بأن «الكعبة لا تُجدَّد بجلب حجارة لها من أوروبا». [5]

الخروج من المعضلة

إن أزمة المسلمين ليست في استيراد مناهج وأيديولوجيات، وإنما أزمتهم في إعمال ديالكتيك العقل الذي استخدمه سيدنا إبراهيم لإحداث التغيير، وهو ما يتطلب أن يجتمع العقل والنقل معًا ولا يرتفع أحدهما كما في معضلة الدجاج أم البيضة، فقد أمرنا الله بهذا:

«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
سورة محمد – آية 24.
«كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ»
سورة ص – آية 29.

ولكن المسلمين لم يتدبروا، بل قرؤوا القرآن على أنه تراتيل دينية، تشفي من السحر والحسد والمرض، فلم يقل أحد إن القرآن دستور إلهي للعدل والحرية والشورى (الديمقراطية) والمساواة وحقوق الإنسان.

فإعمال العقل في النصوص يخبرنا أن العدل هدف كلي للإسلام، فما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإقامة العدل:

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»
سورة الحديد – آية 25.

ويلاحظ ابن تيمية ذلك الربط القرآني الدقيق بين إرسال الرسل وإنزال الكتب لإقامة العدل، وبين إنزال الحديد ليعلم الله من ينصره ورسله، فيقول تعليقًا على ذلك: «فمن عَدَلَ عن الكتاب تم تقويمه بالحديد. وهذا يعني أن الحاكم إذا لم يلتزم بمنهج العدل الذي هو غاية إرسال الرسل وإنزال الكتب، كان على الرعاية أن ترده إلى الجادة أو تعزله من منصبه». [6]

والعدل في الإسلام مُقدَّم على الإيمان لقوله:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»
سورة المائدة – آية 8.

وبينما العدل هو هدف كلي، كان الإيمان بالله ورسوله حرية:

«وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»
سورة الكهف – آية 29.
«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»
سورة البقرة – آية 256.

حتى قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:

«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»
سورة يونس – آية 99.

أمّا الشورى أو «الديمقراطية» في الاصطلاح السياسي الحديث، فإن لها سورة في القرآن الكريم باسمها، حيث قال الله عز وجل فيها:

«وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»
سورة الشورى – آية 38.

وقال الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) -تأكيدًا على مبدأ الشورى بعدما حدث في غزوة أحد:

«فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»
سورة آل عمران – آية 159.

فقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة -غزوة أحد- أمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة، ولكن الإسلام يُنشئ أمة ويربيها ويعدها لقيادة البشرية، والله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تُربي بالشورى، أي الديمقراطية، وتدرِّب الأمة على حمل تبعاتها. [7]

وعن المساواة، ويُقصَد بها أن يتساوى أفراد المجتمع في الحقوق والحريات والواجبات دون اعتبار لفوارق الجنس أو اللون أو اللغة والعقيدة. [8] فالقانون في الإسلام يُطبق بحذافيره على الجميع، الشريف منهم والفقير، وليس أدل على ذلك من تلك الحادثة المشهورة التي حاول فيها «أسامة بن زيد» أن يتوسط لدى رسول الله لامرأة مخزومية سرقت حتى يسقط عنها الحد، فقال صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟!»، ثم خطب الناس فقال: «إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الحَدَّ علَى الوَضِيعِ ويَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذلكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». [9]

وعن حقوق الإنسان، فإن الرسول كما روى الشيخان البخاري ومسلم قال لسيدنا أبو ذر الغفاري: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، وذلك لأنه عاير رجلاً بأمه قائلًا له: «يا ابن السوداء».

وهكذا يمكن للعقل المسلم الذي انشغل بشروح الفقه والناحية التعبدية الفردية، أن ينشغل بالمقاصد الكلية للإسلام، ليُعيد إنتاج النقل بما يتوافق مع روح العصر للخروج بنا من معضلة الدجاجة أم البيضة.

فالمجتمع المسلم -الآن- يدفع ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية. إنها اللحظة المؤلمة حيث المسلم منشطر إلى شخصين: المسلم الذي يُتمم واجباته الدينية ويصلي في المسجد، ثم المسلم العملي الذي يخرج من المسجد ليغرق في عالم آخر. [10] عالم الحضارة الحديثة القائم على العقل، وما الإسلام إلا طلاق للعقل لا حجر عليه، وإعمال له لا تعطيل لوظائفه [11]، كما فعل سيدنا إبراهيم مع قومه. عالم الحضارة القائم على العلم الذي يُجله ويعظمه القرآن:

«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»
سورة فاطر – آية 28.

ولكن منْ يُعْمِل عقله في فهم القرآن الكريم، ويستخدم فلسفته في التغيير، القائمة على المحاججة العقلية والمنطق لا التآمر والقتل، مُحققًا بذلك شمولية الإسلام، يتم اتهامه بالهرطقة، فما كان من قوم سيدنا إبراهيم إلا أن:

«قالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ»
سورة الأنبياء – آية 68.
المراجع
  1. محمد الغزالي، “كيف نتعامل مع القرآن؟”، نهضة مصر، صـ 66.
  2. المرجع السابق، صـ 65-66.
  3. المرجع السابق، صـ 90.
  4. محمد يونس، “تجديد الخطاب الإسلامي”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، صـ 64.
  5. المرجع السابق، صـ 40.
  6. عبد الرحمن سالم، “المدخل إلى دراسة النظام السياسي في الإسلام”، صـ 138.
  7. سيد قطب، “في ظلال القرآن”، جـ 1، دار الشروق، صـ 501.
  8. محمد سليم العوا، “في النظام السياسي للدولة الإسلامية”، صـ 226.
  9. صحيح البخاري، جـ 8، كتاب الحدود – باب كراهية الشفاعة في الحد، صـ 199.
  10. مالك بن نبي، “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، صـ 75.
  11. محمد الغزالي، “كيف نتعامل مع القرآن؟”، مرجع سبق ذكره، صـ 90.