يعلن جوزيف مسعد أنّ «(الإسلام) لم يكن أبدًا هذا المصطلح الشّامل الّذي أنتجه القرنان الثّامن عشر والتّاسع عشر، حيث كان أكثر تحديدًا وتعيينًا». والمقصود بالشّمول هنا تحويل «(الإسلام) إلى (ثقافة) أو (حضارة) أو (تقليد ثقافيّ) أو (نظام)، و(منهج)، و(برنامج)، وأخلاق، وصيغة للآداب العامّة، والّلباس المجنسن، ورزمة من المبادئ المصرفيّة، ونوع من الحكم…». وكانت عمليّة «التّحويل» هذه برزت، كما يؤكّد، على يد المستشرقين ونظرائهم من المفكّرين العرب والمسلمين الّذين أعادوا إنتاج مقولاتهم.

هذه الصّيغة الشّموليّة للإسلام ستأخذ بُعدها المعمّم والجماهيريّ في البلدان العربيّة والإسلاميّة مع صعود الحركات الإسلاميّة، لا سيّما جماعة الإخوان المسلمين في مصر في العشرينيّات والجماعة الإسلاميّة في باكستان في مستهلّ الأربعينيّات من القرن الماضي، أو ما سوف يوصَف لاحقًا بـ «الإسلام السّياسيّ». وكما يشرح زعيم الإخوان المسلمين، حسن البنا، الأمرَ في الرّكن الأوّل من أركان «البيعة»، الّذي هو «الفَهْم»، فـ «الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعًا. فهو دولة ووطن أو حكومة وأمّة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء».

وتلك المصفوفة الّتي وضعها البنا سوف يكون لها لاحقًا صدى في كل كتابات الأيديولوجيّين الإسلامويّين، من الإخوان المسلمين إلى السّلفيّين وليس انتهاءً بالسّلفيّين الجهاديّين.


اهتزاز «شموليّة الإسلام»

كان أحد التّقارير الأمريكيّة الّتي يشير إليها مسعد قد أورد أنّه «خلافًا للرّأي الدّارج في الغرب، فإنّ الإسلام لم يكن عائقًا طبيعيًّا للشّيوعيّة. إنّ كثيرًا من المصلحين الّذين استلموا السّلطة في هذه الدّول قد وضعوا الاقتصاد قبل الدّين؛ وقد أضعف هذا دور الدّين وجعل المنطقة معرّضة للشّيوعيّة». ويعلّق مؤلّف الإسلام في الّليبرالية قائلًا: «لم يكن صنّاع سياسة الولايات المتّحدة مستشرقين في تشخيصهم للإسلام باعتباره ثقافة قويّة شاملة لكلّ شيء، بل أقرّوا بدل ذلك بقصوره. وهم بذلك يبدون وكأنّهم تخلّوا عن المفاهيم المُجوهِرة لتحصينات الإسلام المزعومة الّتي لا يمكن تجاوزها في صدّ الأيديولوجيات العلمانيّة – تحت اسم الواقعيّة السّياسيّة realpolitik؛ ومن هنا تأتي نيتهم تعزيز استخدامه كوسيلة بصفته سلاحًا مناهضًا للشّيوعيّة كي يُعاد وضع الدّين ‘قبل’ الاقتصاد ويُقوّى (دور الإيمان)».

هذا التّخلّي عن صيغة «شموليّة الإسلام» لصالح «قصور الإسلام» – بمعنى آخر حاجته إلى إعادة ترتيب شموليّته ووضع الإيمان قبل الاقتصاد ومحاربة الرّوحانيّة للمادّيّة – الّذي اعتنقته الإدارة الأمريكية في الحرب الباردة سينعكس أيضًا على الجماعات الإسلاميّة اليمينيّة.

يقول الكاتب: «وجد البريطانيّون في فترة سابقة ومنذ بدايات الأربعينيّات أنّه من المناسب أن يبحثوا عن تحالف مع جماعة الإخوان المسلمين المصريّة بهدف هزيمة القوميّين والشّيوعيّين العلمانيّين المناهضين للإمبرياليّة». أمّا من ناحية الأمريكان، فقد «أصرّ أيزنهاور في لقاءات خاصّة مع مدير السي آي أيه CIA فرانك وايزنر ومع قائد أركان القوات المسلّحة، على أنّه ينبغي على العرب أن يستمدّوا من دينهم الإلهام لمحاربة الشّيوعيّة، وأنّه ‘يتعيّن علينا أن نقوم بكلّ شيء ممكن لنُشدّد على الجزء المتعلّق بـ (الجهاد المقدّس). وكانت خطّة الولايات المتّحدة هي دعم جماعات جديدة ‘إصلاحيّة’، كجماعة الإخوان المسلمين، ونبذ العلماء التّقليديّين».


الإخوان المسلمون كأداة إمبرياليّة

من بين الوقائع الكثيرة الّتي يسردها مسعد أنّ جماعة الإخوان المسلمين تمكّنت من «اختراق الحركة الشّيوعيّة في 1944 ونقلت إلى الحكومة المصريّة معلومات، حصّلتها ‘استخباراتها’، بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانيّة، ساعدت الحكومة في إلقاء القبض على الشّيوعيّين في الجامعات والنّقابات».

واستمرارًا لدورها الإمبرياليّ، «بعد انقلاب 1952، الّذي جاء بالضّباط الأحرار وعبد النّاصر إلى السّلطة، بدأت (الجماعة)، الّتي أثارت استعداء البريطانيّين منذ عام 1946 عندما بدأت بشنّ هجماتها ضدّ الاحتلال البريطانيّ، في حضور اجتماعات ومحادثات مع البريطانيّين (وخصوصاً الاجتماع الشّهير في عام 1953 بين المرشد العام للجماعة، حسن إسماعيل الهضيبيّ، والمسئول في السّفارة البريطانية المستشار للشئون الشّرقية ترفور إيفانز)، وهو ما اعتبره عبد النّاصر جزءًا من عداوة الهضيبيّ لبرنامجه للإصلاح الزراعيّ».

ويستطرد: «وقد قيل إنّ الدّبلوماسيّين البريطانيّين الّذين جمعوا المعلومات الاستخبارية ضدّ مصر والّذين قبضَ عليهم عبد الناصر في عام 1956 وطردهم، كانوا على اتّصال بـ ‘عناصر طلابيّة ذات ميول دينيّة’، بهدف ‘تشجيع الشّغب الأصوليّ الّذي قد يقدّم ذريعة لتدخّل عسكريّ يحمي حياة الأوروبيّين’. وقد قُبِضَ على أعضاء آخرين في حلقة الجواسيس من ضمنهم رجل يدعى جيمز سوينبرن، كان يدير واجهة لجهاز الاستخبارات البريطانيّ (إم آي ٦) تُدعى «وكالة الأخبار العربيّة». وستكشف السّلطات المصريّة عن تفاصيل أدق في حلقة الجاسوسيّة، إِذ اعترف سوينبرن بأنّهم كانوا يخطّطون لانقلاب على عبد النّاصر. وليس ثمّة أدلة تربط بين المحاولات البريطانيّة وتلك الّتي قام بها أعضاء من (الجماعة) لاغتيال عبد النّاصر، رغم أن الاثنين اعتبراه عدوًّا لهما».

وفيما يتعلّق بجماعات أخرى غير الإخوان المسلمين، يقدّم مسعد مثالًا مروّعًا عن إندونيسيا، قائلًا: «احتفلت افتتاحيّة جريدة شيكاغو تريبيون بمساهمة المجموعات الإسلاميّة اليمينيّة في إندونيسيا في ذبح نصف مليون شيوعيّ، أو مَن زُعم أنّه شيوعيّ، في 1965 بعد انقلاب مدعومٍ وممولٍ أمريكيًا: «يجب علينا أن نقول إنه من المنعش أن نقرأ أخيرًا أن شبابًا مسلمين يقومون بحرق مقرّات الحزب الشيوعي ويهتفون (تعيش أمريكا)».

«لقد كان استخدام المجموعات المسلمة والإسلامويّة بشكلٍ عام ضدّ الشّيوعيّة أمرًا ثابتًا طوال الحرب الباردة»، يقول مسعد، وهو أمر ينطبق على جماعة الإخوان المسلمين بقدر ما ينطبق على جماعات أخرى. وهذا التّوظيف الإمبرياليّ للجماعات الإسلامويّة اليمينيّة وقت الحرب الباردة ضدّ الشّيوعيّة لا شكّ يجرّ المتابع نحو التّساؤل عن الطّريقة الّتي تُوظّف بها هذه الجماعات الآن.


الحاضر وسؤال الإمبرياليّة

استفادت الإخوان بشكل منقطع النّظير من محاولات الدّولة في مصر السّيطرة على الجماعات المسلّحة؛ فكرّست هيمنتها الأيديولوجيّة ونمط تديّنها على الاجتماع وتغلغلت في مسام المجتمع ومفاصل الدّولة، حتّى إذا جاءت البشائر الأمريكيّة بدمقرطة الشّرق الأوسط في العقد الأوّل من الألفيّة كانت الجماعة الأكثر تأهّلًا للوصول إلى قمّة هرم السّلطة والأكثر استعدادًا للتّأقلم مع المصالح الأمريكيّة في المنطقة، وهو ما تجلّى عقب اندلاع «الرّبيع العربيّ» حيث لم تهتم الجماعة بهندسة توافق مجتمعيّ وسياسيّ قبل وصولها إلى السّلطة في مصر بقدر ما اهتمّت للترويج لنفسها كضامنة لأمن إسرائيل ومصالح رعاتها الدّوليّين.

لكن هذا القابليّة السيّاسيّة لدى الإخوان للتّوافق مع معادلات الإمبراطوريّة في المنطقة لا تعني بالضّرورة أنّ الجماعة تفعل ذلك الآن بالطّريقة نفسها الّتي كانت تتبنّاها في عقود الحرب الباردة، ولا أنّ الجماعة على مدى العقود الماضية لم تمرّ بتحوّلات في اختياراتها السّياسيّة والاستراتيّجيّة وتقلّبات في علاقتها بالولايات المتّحدة والأنظمة العربيّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الإخوان لم تكن الوحيدة في تقديم خدماتها للإمبرياليّة. فهناك تكوينات ليبراليّة ويساريّة ليبراليّة اضطّلعت بهذا الدّور، ولمّا تزل، على نحو لا يجعل أيّ اندهاش يتملّك المراقب حين يرى مدى التّطابق بين الاختيارات السّياسيّة لكلّ من الجماعة وهذه الفصائل في كثير من الأحيان.


* صدرت الطّبعة الإنجليزيّة من كتاب الإسلام في الّليبرالية لجوزيف مسعد عام 2015 عن دار نشر جامعة شيكاغو، وصدرت التّرجمة العربيّة مؤخّرًا هذا العام عن دار جداول.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.