يمثل المسلمون في كمبوديا أقلية صغيرة وسط محيط هائل من البوذيين، وتختلف الأرقام والإحصاءات في هذا الأمر، فبينما تُقدر نسبة البوذيين على مذهب ثيرافادا بقرابة 95%، تبلغ نسبة المسلمين حوالي 2.1% من السكان، وفقًا لتقديرات الحكومة، وتتوزع النسبة المتبقية بين المسيحيين والبهائيين واليهود وأتباع كاو داي وبعض الوثنيين.

لكن بعض المنظمات غير الحكومية تقدر أن المسلمين يشكلون من 4 إلى 5%، وهناك تقديرات تصل إلى نسبة 10% من السكان البالغ عددهم 16.9 مليون نسمة تقريبًا (وفق تقدير منتصف العام 2020).

وغالبية السكان المسلمين من عرقية تشام، ويعيشون عادة في المدن وقرى الصيد الريفية على ضفاف بحيرة تونلي ساب ونهر ميكونغ، وكذلك في مقاطعة كامبوت، ومعظمهم من أهل السنة والجماعة، ويتبعون فقه الإمام الشافعي، وهناك أقلية من أتباع القاديانية (طائفة تعتقد بنبوة أحد زعمائها)، وطائفة إمام سان.

التعايش العصيب

منذ منتصف القرن التاسع عشر أقام مسلمو كمبوديا علاقات قوية مع مراكز التعليم الإسلامي في كيلانتان بشبه جزيرة الملايو (ماليزيا حاليًّا) وفطاني (جنوب تايلاند) ومكة المكرمة، لكن القرن العشرين شهد أكبر كارثة أصابت البلاد، وهي حكم الخمير الحمر الشيوعي المتطرف.

فقد استولى الخمير الحمر على العاصمة بنوم بنه عام 1975، واندلعت حرب أهلية مدمرة لم تستثنِ أي مكون، وإن خصت بعض المكونات بنسبة قمع أكبر من غيرهم، ووقعت أهوال على يد الخمير الحمر في السبعينيات والثمانينيات دفعت الكثير من المواطنين، ومنهم المسلمون، للهجرة فرارًا بأنفسهم إلى البلدان المجاورة، أو الالتجاء إلى مناطق منعزلة في الغابات.

وعمت المجازر البلاد، ونالت الأقلية المسلمة نصيبًا مضاعفًا، فأُجبروا على أكل لحوم الخنازير، وزُوجت بناتهم قسرًا لأتباع أديان أخرى، وأجبرن على نزع الحجاب واعتناق الشيوعية، وقُتل وعُذب عشرات الآلاف منهم، وهُدمت مساجدهم ومدارسهم، وانقطع التواصل بينهم وبين مسلمي الخارج، وكاد الإسلام يختفي من كمبوديا.

وما إن سقط حكم الخمير الحمر على يد الجيش الفيتنامي حتى بدأت الأوضاع في التحسن، وعاد المسلمون لممارسة شعائرهم، وأعادوا فتح المساجد ومراكز التعليم الديني، وشهدت التسعينيات إحياء العلاقات مع مسلمي دول الجوار كماليزيا، وانتشرت التيارات الإسلامية كالسلفية وجماعة التبليغ والدعوة وغيرها.

لكن ما يزال الافتقار إلى النفوذ السياسي المناسب قضية رئيسية تواجه مسلمي كمبوديا حتى اليوم، وقد أعلن رئيس الوزراء، هون سين، عمله على إصلاح هذا الخلل، وحث المسلمين على التطلع إلى المناصب الرفيعة في حكومته، واكتساب مواقع نافذة في أجهزة الدولة.

ونظام الحكم الكمبودي ملكي دستوري، ويقود رئيس الوزراء حكومة البلاد، وهو يسعى إلى تحسين العلاقات مع الدول ذات الغالبية المسلمة، مثل تركيا ودول الخليج العربي، في محاولة لتوسيع قاعدة الاستثمار الأجنبي في بلاده.

طائفة إمام سان

توجد بكمبوديا ظاهرة خاصة تتمثل في اعتراف الدولة الرسمي بطائفتين إسلاميتين مختلفتين، ولا علاقة لهذا الانفصال تمامًا بالانقسام السني الشيعي، فالتشيع غير منتشر هناك رغم وجود تقارير ذكرت رصد وجود ضعيف للشيعة منذ عام 2009.

فمنذ عام 1998 اعترفت الحكومة بطائفة إمام سان على أنها مجموعة إسلامية مستقلة عن التيار المسلم العام ذي المرجعية السنية، فتلك الطائفة تجمع بين العبادات الإسلامية وممارسات شعبية محلية متوارثة عن الأجداد، ويمثلون ما يقرب من 10 في المائة من السكان المسلمين وفق التقديرات المشهورة.

وغالبًا ما يشير هؤلاء الناس إلى أنفسهم باسم «مجموعة الجمعة»، بسبب اقتصارهم على الصلاة وزيارة المسجد فقط في أيام الجمعة، ففي تلك القرى لا يصلي المتدينون منهم سوى مرة واحدة فقط في الأسبوع في يوم الجمعة بدون وضوء أو أذان، ويعيشون في قرى متجاورة، ويقلدون أحد أجدادهم عاش في القرن التاسع عشر، وهو الإمام سان.

ويعتبرون هذا التميز عن غالبية المسلمين الكمبوديين الذين يصلون خمس مرات رمزًا لتقديس الأسلاف والحفاظ على الأصالة الثقافية والدينية لهم في مواجهة النموذج الإسلامي الوافد من بلاد الملايو وبلاد الحجاز، مع انتشار التعليم والوعي الديني منذ منتصف القرن التاسع عشر.

وتحت ضغط التمدن والهجرة إلى المدن أو إلى الخارج يتجه عدد سكان قرى إمام سان إلى التقلص، ويقل عدد المهتمين بشعائرهم، وهو اتجاه تحاول السفارة الأمريكية في بنوم بنه عكسه من خلال صرف منح مالية لحماية الطائفة من الذوبان في محيطهم السني بحجة الحفاظ على التراث الثقافي للطائفة! ومع ذلك فإن أحياء كاملة قررت ترك التقاليد المتوارثة وتحولوا إلى الإسلام السني.

وساهمت حالة العزلة عن التيار الإسلامي العالمي واستثنائهم من الدعم المالي الخليجي أو الماليزي في تراجع وضع الطائفة، لكن ما زال هناك حفنة من كبار السن يحملون راية التمسك بتقاليد الأجداد، في حين لا يتفهم الكثير من أبناء الأجيال الجديدة أي حكمة وراء الإصرار على التمسك بتلك الموروثات الغامضة.

ووقع انقسام بين القرويين الذين يتبعون تلك الطريقة عام 2009 حينما بنى أحدهم مسجدًا جديدًا بسبب ازدحام المسجد القديم في رمضان بالمصلين، لكن بعض كبار السن رأوا في ذلك خروجًا على المذهب لأنهم خرجوا عن طاعة الأوكنا Oknha أي شيخ القرية والمرجع الديني للسكان الإمام سانيين، والذي تضعف سلطته الروحية بينهم شيئًا فشيئًا.

وفقًا للقانون الديني في كمبوديا لا يمكن بناء مسجد جديد على بعد أقل من كيلومترين من مسجد قائم، إلا إذا كان الوصول إلى المسجد الأول يعني عبور نهر واسع، وبما أن المسافة بين المسجد القديم والجديد كيلومتر ونصف تقريبًا، فقد أعلنت وزارة العبادة والدين الكمبودية دعمها لمطالب الأوكنا بعدم إضفاء الشرعية على المسجد الجديد، وهو قرار ليس له أي أهمية عملية تقريبًا.

ويعد هذا الانقسام بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية أكثر منه ذا طابع فكري، ويعد أحد مظاهر عملية تفتت مستمر لمجتمع ثقافي ضعيف بالفعل، في ظل غياب فكرة يتجمع الأتباع حولها سوى الولاء لتقاليد مجتمع محلي منعزل تفترسه الحداثة بشكل تدريجي.

أوضاع الأقلية

ينتشر الكثير من المساجد في مناطق تجمعات المسلمين، وتضم بنوم بنه أكبر مساجد البلاد وأكثرها شهرة كمسجد السركال، ويسمى أيضًا مسجد دبي، ومسجد سعد بن أبي وقاص.

وتعاني الأقلية من بعض المشاكل كصعوبة العثور على مطاعم موثوق فيها تبيع الطعام الحلال بسبب نقص الموردين المعتمدين، ويشكو البعض من أن العديد من المطاعم تقدم الطعام غير الحلال بزعم أنه حلال.

ويتركز أكثر المسلمين على طول نهر ميكونغ في ست مقاطعات من أصل 24 مقاطعة في البلاد، هي: كامبونغ تشام، وكراتي، وكامبونغ ثوم، وبورسات، وكامبوت، وبنوم بنه، ويعتمدون بشكل أساسي على الصيد من نهر الميكونج لكسب عيشهم.

لكن الجفاف الذي دام لسنوات أثر بشكل سلبي على الصيد من ذلك النهر، فانخفضت جدواه مع تراجع مردوده المادي، مما دفع بالعديد من الناس للبحث عن أعمال أخرى، وبصفة عامة ينتشر الفقر بين مسلمي كمبوديا بشكل كبير جدًّا.

ورغم أن البوذية هي الدين الرسمي للدولة الكمبودية، فإن المسلمين غالبًا يمارسون عباداتهم بدون تضييق من السلطات، ويتمتعون بحق التصويت والانتخاب كغيرهم من المواطنين، لكن هناك مخاوف من تصاعد وتيرة التعصب الديني بين المجتمعات البوذية في دول الجوار.

وبينما تعاني بعض دول جنوب شرق آسيا من توترات بسبب المشاعر المعادية للمسلمين، لم تنل كمبوديا هذه الموجة المتطرفة حتى إنه في عام 2018 وصف الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، يوسف بن أحمد العثيمين، هذه الدولة بأنها «منارة للتعايش الإسلامي».

بينما كانت سريلانكا تشهد اندلاع أعمال عنف دامية ضد المسلمين، وفي ميانمار ارتُكبت مجازر مروعة قُتل فيها الآلاف وتم تهجير قرابة مليون مسلم، تشهد تايلاند كذلك تصاعدًا لهذه الموجة المتطرفة، وفي سبتمبر 2014، أطلق الراهب الميانماري، ويراثو، تحالفًا بوذيًّا عالميًّا مع زملائه المتطرفين في سريلانكا، ضد ما اعتبروه تهديدًا إسلاميًّا، هدف إلى حث المزيد من الجماعات البوذية على الانضمام إلى قضيتهم، ونشر المشاعر المعادية للمسلمين في الدول البوذية.

وتشهد هذه الدول محاولات لتكريس تحالف بين الرهبان البوذيين المتعصبين والنخب العسكرية الحاكمة، يمنح فيها كل طرف شرعية للآخر، ويتبنى هذا التحالف نسخة متحفظة من البوذية كدين قومي يتم حشد الجماهير من خلالها، وتعد كمبوديا من الدول المستهدفة بهذه الحملة.

لكن خلال زيارة رئيس الوزراء الماليزي، أنور إبراهيم، لكمبوديا في 27 مارس/آذار الماضي، قال إن المسلمين هناك يحظون بتقدير كبير، والمساجد لا تُهدم، وحقوقهم محمية، كما تم تعيين أحدهم وزيرًا لتمثيل مصالحهم، مما يظهر كيف تحترم دولة ذات أغلبية بوذية الأقلية المسلمة، قائلًا إن هذا كان أحد الدروس التي تعلمها خلال زيارته.