(1)

لي جار وصديق قديم، اسمه شطة. وليس هذا اسمه الحقيقي، إنه الاسم الذي نطلقه عليه لأن حكاياته دائماً مليئة بالبهارات. تربينا معاً في شوارع مدينتنا الضيقة، وكنت أنا وأصدقائي نلعب رياضات مختلفة، وتستغرقنا أيام الصيف وأمسياته في منافسات تسعدنا وترهقنا، فنعود لبيوتنا بحاجة إلى وجبة جميلة، ونوم عميق. ولكن شطة لم يكن يلعب أو يتنافس معنا. شطة كان يُجالسنا بحكايته المثيرة. فيسرد لنا أسرار بنات الحي، تلك التي صاحبت أحد الشباب الذي يسكن في الميدان الكبير، أو الأخرى التي جمعتها علاقة حب بمدرس الفيزياء. ولم يعرض لنا شطة أي دليل علي أخباره، لا شيء سوي حجج مُسلية، كأن يقول، «ألا ترى كيف تتمايل تلك الفتاة في مشيتها؟»، أو أن يسألك: «أنت تعرف أن أستاذ الفيزياء لم يمشط شعره من قبل، فلماذا مشّطه الآن؟».

وكنا نستمع لتلك القصص، ونضحك، ثم ننشغل بدروسنا، حتى كبرنا وانتقلت للعمل في أمريكا وتباعدت بيننا البلاد، ولكن شطة بقي كما هو، دائماً يحمل حكايات بالبهارات. وصرت استعمل الإنترنت لأبقى على اتصال بأصدقاء الطفولة. وأصبح شطة، من حيث لا ندري، مُدرباً لكرة القدم. وكان كعادته يخبرني بأحداث الحياة التي مرت على أصدقاء الطفولة، ثم يزيدني بحكايات أخرى مثيرة. ولكن حكاياته لم تعد عن بنات الحي، حكاياته الآن عن السياسة، والنظام العالمي.

(2)

في يناير الماضي قال لي شطة، إن فيروس كورونا تم تصنيعه في الغرب حتى تتمكن أمريكا من كبح جماح النهضة الصينية. وبدا كلامه منطقياً، فقد ظهر الفيروس في ووهان في الصين بعد أن زارها وفد عسكري أمريكي. ولكن في مايو الماضي تحول الوضع، فأصبحت أمريكا أكبر ضحايا الفيروس، فأكد لي شطة أن الفيروس صناعة صينية وليست أمريكية، وأن الصين ستحكم العالم قريباً. ولكن الإصابات عادت إلى الصين مرة أخرى. فصار موقف شطة الرسمي أن الفيروس من إنتاج بيل جيتس لكي يسيطر على العالم.

ولم تختلف حكايات شطة حول الفيروس وبنات الحي، عن باقي حكاياته التي عادةً ما تنتهي بتوزيع اتهامات بالخيانة والعمالة. فالمفكر الفلاني خائن لأن ابنته ترتدي الجينز، والكاتب المعروف ما هو إلا عميل لأنه حكَّ جبهته مثل الماسونيين. ومسألة الماسونية هذه أضافها شطة لقائمة مصطلحاته بعد أن تديَّن. وصار أغلب الناس عنده إمّا ماسونيون، أو عملاء صهاينة، أو خونة أمريكان. ثم تطور لمصطلح عميل صهيو-أمريكي. أمّا إذا أتت الأحداث لتُناقِض روايات شطة، فإنه يستعمل عبارته المشهورة: «لقد فعلتها المخابرات». وباستعمال المصطلحات الثلاثة، وباتهام مخابرات أي دولة، حسب الطلب، يُحلِّل شطة كل مشاكل العالم، بل استعمل نفس المنطق لإنكار العلوم المثبتة مثل: نظرية التطور وكروية الأرض.

(3)

فكرت في حكايات شطة على مر السنوات. أعرف أن بنات الحي لم يفعلن ما افتراه شطة عليهن، فكثير من أصدقائي تزوجوا منهن. أعرف أيضاً أن الأرض ليست مسطحة، وأن الكورونا ليست من صنع البشر، وأن بيل جيتس طالما حاول أن يُنبه الحكومات لخطورة الأوبئة الفيروسية. ولكن لماذا يدمن شطة هذه الحكايات؟ ولماذا أجدها أنا مثيرة ومسلية؟

وجدت حكايات شطة دائماً ما تحمل عنصراً روائياً مشوقاً، مع بعض الغموض المثير، ودائماً ما تأتي مع قرائن تمنحها بعض المصداقية وتُخفي غياب الأدلة. فرغم أن تمشيط مدرس الفيزياء شعره لا يدل على علاقته ببنت الجيران المسكينة، ألا أنه يكفي كدليل لمجموعة من المراهقين البسطاء الذين يبحثون عن قصص مشوقة. أمّا بالنسبة لشطة، فهذه القصص تنقله لمحور اهتمام أصدقائه، تعطيه تميز وحظوة، وبدلاً من فقره الثقافي، يكون هو مصدر الثقافة. وفي مجتمعات مراهقة مكبوتة ينتشر فيها الجهل، والفقر، تزاوجت الخرافة مع التدين لتُنجب لنا روايات المؤامرة. وتضخمت روايات المؤامرة حتى صارت سداً منيعاً يقف أمام وصول الحقيقة للإنسان العربي البسيط.

وتحول العالم عند شطة لمعسكرين وهميين. معسكر أهل الدين الشرفاء، الذين يؤمنون بالضرورة بكل ما يؤمن به شطة. ومعسكر المؤمنين هذا في خيال شطة هو المعسكر المهزوم، المغلوب على أمره، الذي يتعامل مع الأمور بطيبة دائماً لحسن نيته، فيخسر المعركة تلو الأخرى. لذلك قرر شطة أن ينبه هذا المعسكر لمخاطر ومكائد معسكر الشر. فتجد شطة يرسل يومياً الرسائل والفيديوهات التي تسلمها من معسكر أهل الدين إلى أصدقائه لكي ينبههم للمؤامرات التي تُحاك لهم. ولكن يؤمن شطة ومعه كثير من أمثاله أن معسكر أهل الدين سينتصر في النهاية. وينتظر هذا المعسكر النصر الذي لم يحدث لآلاف السنين. ينتظرون بمنتهى اليقين.

ولأن معسكر أهل الدين الشرفاء هذا لا يقبل أي خروج عمّا يظن أنه الحق المطلق، يُعادي شطة كل منْ يريدون الإصلاح بطريق فيه أي اختلاف. ولقد أنتج المعسكر لشطة، مؤخراً، مصطلحاً جديداً يسمى «صهاينة العرب». وهو مصطلح أعُد خصيصاً ليُعادي به كل من تطاول وحاول أن يفكر أو يصلح بطريقة مختلفة حتى لو كان هذا الاختلاف قادم من أهل شطة وناسه. ولا يدري شطة أنه بهذا المصطلح إنما يغمس معسكره في هزائم أكبر.

(4)

والمعسكر الآخر في تفكير شطة هو معسكر الشر الذي يضم كل العالم، بل يضم إليه كل من كانوا على دين شطة ولكن اختلفوا معه في بعض الأمور. كل العالم في معسكر الشر في نظر شطة. ومعسكر الشر هذا لا ينام ليل نهار خوفاً من معسكر أهل الدين الشرفاء. فيتخيل شطة أن كل العالم يدبر المكائد لمعسكره البائس، لأن كل العالم يعرف، كما يتخيل شطة، أن معسكر أهل الدين الشرفاء سينتصر في النهاية.

وأقنع شطة نفسه أن معسكر الشر لا يريد أن يؤمن بفهمه الرائع المذهل للدين، برغم معرفتهم الأكيدة أن عدم إيمانهم سيؤدي بهم إلى عذاب أبدي رهيب. ولكنهم قرروا أن يُهملوا حكمة معسكر الشرفاء. ولأنهم يتبعون الشر، فقد أسّسوا دول متطورة، وعلوم مبهرة، ونظم سياسية تحترم الفرد وتقف على مسافة متساوية من كل المعتقدات. ويؤكد شطة أنهم فعلوا ذلك لغبائهم، فعلومهم لا تنفع، وجهله لا يضر كما علّمه أحد أساتذة معسكره.

ويعتقد شطة أن التليفونات الحديثة صُنعت خصيصاً ليتنصت العالم على معسكره، وأفلام الكرتون صُنعت لتهدم أخلاق معسكره، حتى البيتزا، صُنعت لتُفسد طعام أهل الدين الشرفاء. وهذا لا يعني أن شطة لا يستعمل التليفون أو لا يأكل البيتزا. فقد علّمه أستاذه أن الله قد سخّر أهل الشر ليتخرعوا هذه الاختراعات، فالله يتعبهم ليستريح أهل الدين. ويظن شطة أن معسكر الشر هذا يعيش حياة بائسة، فالابن يعق أباه، والزوجة تخون زوجها، والخمور تُصب على كل مائدة، والمخدرات في كل مكان. لذلك تجد شطة في أشد الاشتياق ليهاجر إلى تلك المجتمعات المجرمة ويعيش فيها. ويحلم بأن يقابل إحدى السائحات فتقع في غرامه وترضى أن تكون زوجته اللعوب الخفية طالما لن يدري بذلك أحد.

(5)

تكاثفت حكايات شطة على عقله. تكاثفت لتسد التناقضات كثيرة التي لا يعرف لها حل. ومثل شطة، ظهر في المجتمعات العربية ألف شطة. وكلهم يعيشون في ظنون وشبكات متشابكة من الأوهام. وصارت لهم حقائقهم البديلة، وخيالاتهم الواقعية. ورغم العالم الوهمي الخرافي الذي يعيش فيه شطة، بقي تعيساً تؤرقه دائماً فجوة تناقضاته. فإذا ما انفرد معي في غرفة، حكي لي أن تعاليم معسكره لم تنفعه مع زوجته أو أبنائه. ثم يغرق في خرافيته ليلوم نفسه وزوجته وأولاده، ويلوم كل حقائق الكون التي لا تريد أن تستقيم مع ما يظن أنه الحق المطلق.

ومرت مجتمعاتنا العربية بزلازل عنيفة، مؤخراً. حروب وثورات، تغيرات ثقافية ومجتمعية. هدمت تلك الأحداث الجلل كثيراً من البناءات القديمة. وعندما تسير في شوارع مدينتي. وأسفل الردم والركام، تحت الأتربة ودخان الحرائق، ستجد شطة وأمثاله. فإن حاولت أن تمد يد المساعدة لهم ستجدهم غارقين في أوهامهم وخرافاتهم. فهل نتركهم ليلقوا مصيرهم المحتوم؟ وكيف نوقظهم من غفلة قد أدمنوها؟ هل لنا أن نبني المستقبل دونهم؟

بقدر ما أعرف من غباء قادة ومحركي معسكر الخرافة والوهم، بقدر ما احتفظ بحبي لشطة لبساطته وسلامة نيته. أحب شطة لأنه مثل كثير من أبناء وطني، مسكين لم يجد يداً تمنحه علماً مفيداً أو تُوجهه في أوقات الظلام. أحب في شطة ابتسامته وبحثه عن الضحكة في أحلك الأوقات.

لذلك أوجه سؤالي لك أنت يا منْ تقرأ مقالي. هل تترك شطة الذي عرفته طول حياتك ليعيش في الظلام والأوهام؟ كيف نُخرِج كل شطة من الخرافة إلي العقل؟ هل نُنفِّض أيدينا من شطة فلا أمل فيه، ونُركِّز على الأجيال الجديدة لبناء الوطن؟

ربما تأتي الإجابة من الجيل الجديد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.