هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمّنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألُاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

كشك العيش

جوار المدرسة «كشك عيش». كل يوم عندما أمر به، أرى خليطًا متنوعًا. رجل فلاح يلبس شالًا أبيض يُحيط به وجهه، امرأتان بملابس سوداء تجلسان على الرصيف، ومجموعة من البوابين يقفون في جانب بعضهم يمسك دراجته، منهمكين في الحديث.

العاملة تطل من فتحة الكشك مُستندة بذراعيها كأنها في شرفة بيتها، من حين إلى آخر يتطلعون إلى الطريق.

السيارات في الصباح تسير ببطء. كثافة المرور، وعبور التلاميذ إلى المدارس يعطي حسًا بانتظام الحياة وعاديتها. حالة استرخاء تحيط بهم وهم يتحدثون عن أمور حياتهم، حتى يظهر شبح سيارة شركة المطاحن الزرقاء قادمة من أول الطريق. يتفرقون ناسين ما كانوا يتحدثون عنه من دقائق، يبدو كأنهم لا يعرفون بعضهم، يهب الوقوف، يتزاحمون.

ظلٌ من عداء يطل من وجوه كانت منذ قليل مطمئنة. في الصباح التالي يقفون مسترخين يتحدثون مرة أخرى وينتظرون سيارة شركة المطاحن.

الطعام السماوي

ذات يوم وقف فوق أعلى تل في الواحات البحرية، في الخلاء الواسع الذي لا يحد، ويمتد تلالًا داكنة حتى تصل إلى اللا نهاية، وفوقه سماء صافية لونها الأزرق مُشع، تعبرها سحب عملاقة.

أخذ شهيقًا عميقًا وحبسه في صدره، ثم فرد ذراعيه وأغمض عينيه، وشعر بأن الفضاء بتلاله وسمائه وصمته واتساعه اللا نهائي يسكن جسده؛ في تلك اللحظة كان على وشك الطيران.

سافر إلى أسوان وعاش في جو معبد حتشبسوت، وأخذ أيامًا يُسجِّل في كراسة الرسم «سكتشات» لمنحوتات المعبد، وعندما تعذّر عليه الذهاب إلى أسوان، توجّه إلى المتحف المصري راكبًا قطار السادسة صباحًا من طنطا مرة في الأسبوع، حاملًا كراسة الرسم، وقضى شهورًا يُسجل في كراسته صورًا تخطيطية لمنحوتات المتحف المصري.

سافر إلى أقصى نقطة في صحراء سيوة، وصادف هناك عجوزًا هولنديًا قال له إنه جاء لمدة يومين من أجل أن يُصلِّي صلاته السنوية لـ «آمون».

في صباح بارد من صباحات سيوة، جلس الهولندي صامتًا وترك الريح الباردة لصباح الصحراء تلمس وجهه تلك اللمسة الحريرية، التي يستعيدها هناك في صخب شوارع أمستردام، وظل جالسًا في انتظار أن يلمس وجهه أول شعاع من أشعة رع، وظل جالسًا فوق التل فترة طويلة في وضعية التأمل حتى غمرته أشعة الشمس بالكامل.

حضر حفلات الموسيقى الكلاسيكية في الأوبرا بالحُلة الكاملة والجرافت، وحضر عروض المسرح التجريبي، وسافر إلى الإسماعيلية لحضور مهرجان السينما التسجيلية.

فعل كل ذلك بشوق إلى شيء غامض يلوح خلف كل شيء، بشوق إلى إشباع لا يتحقق أبدًا. فعل كل ذلك بغريزة منْ يبحث عن طعام سماوي يظن أنه موجود… لا بد أنه موجود في مكان ما. لا دليل على وجوده غير شوقه إليه.

نهارك أبيض

قالت مبتسمة: «نهارك أبيض».

الصوت حيّ وصادق. امرأة في الستين تقريبًا، وجهها مستدير أبيض. تربط شعرها بمنديل، وترتدي ثوبًا منزليًا. تجلس على دكة خشبية أمام الجراج، وتلم حرامًا أسود على كتفها، تخفي كفيها فيه من برد الصباح. أشعة الشمس تنير الورق الغض لشجر الكافور خلف سور مدرسة البنات.

«نهارك أبيض».

رنّت الجملة في خاطري رنينًا يشبه لمعان ضوء الشمس في الورق الغض لشجر الكافور.

مُبهج ذلك الوجه الصبوح، متصالحٌ مع الحياة. رددت لها التحية مبتسمًا وعبرت مُسرعًا.

في الفضاء تتلاقى ألحان النشيد الوطني صادرة عن الأكورديونات في طوابير الصباح، مبتعدة، مقتربة، متموجة مع ضباب تلك المنطقة التي تغص بالمدارس.

«نهارك أبيض».

تكرّر الصوت في خواطري.

سألت: هل تعرفني؟ ربما، لكنها لم تبد كذلك. وأنا لا أعرفها، لقد قالت ذلك بود وحرارة، ببسمة طيبة متصالحة مع الحياة، كأنها تقول ذلك للصباح نفسه.

قلبي لم يعد يحفل بالبهجة

قلت للكاهن: قلبي لم يعد يحفل بالبهجة. لم أعد أفرح عندما أرى ثمار حقلي، لم يبتهج قلبي عندما استدارت ابنتي وأصبحت عروسًا وطلبها الخُطّاب، وعندما أصبح ابني جنديًا في جيش الملك لم أهتم. تراني امرأتي مهمومًا، فتقول: «ماذا حل بك يا أخي؟». أقول لها: «قلبي لم يعد يبتهج».

قال الكاهن: «هل ارتكبت خطيئة في حق الآلهة أو في حق الملك أو في حق أهلك؟»

يا سيدي الكاهن، أنت كاهن قريتنا منذ سنوات، هل سمعت أنني قد سببت أحدًا، أو أخذت مال أحد؟ هل سمعت أنني قد اعتديت على زوجة أحد؟ نزلت حقل غيري، أو نظرت إلى بقرة غيري، أو سقيت بهائمي من مروة غيري؟ هل سمعت عن هذا يا سيدي الكاهن؟

ظلّ الكاهن صامتًا يُحدِّق في سماء المعبد البعيدة الخالية من السحب، وأخيرًا قال كأنه يريد أن يفرغ من الأمر: «هل قمت بواجبك تجاه زرعك وبيتك وملكك ومعبدك؟».

يا سيدي الكاهن، قمت بكل شيء على أكمل وجه، لكن قلبي لم يعد يشعر بالفرح الذي كنت أشعر به عندما أمسك فأسي وأعزق أرضي. الآن، لم تعد الأرض تعبأ بفأسي، إنها تنثني أمام الفأس، تنشق لكن بلا شعور وكأنها ملّت خبطاتي. ابنتي ملّت نصائحي، وأخاف أن يكون ابني قد تطوّع في جيش الملك فرارًا من تنبيهي له بأداء الواجب.

قال الكاهن: «هل سلّمت حصتك من الزرع إلى المعبد؟».

ارجع يا سيدي لسجلات المخازن، وسترى اسمي أول الأسماء، لم أتأخر يومًا عن أداء الواجب.

قال الكاهن وهو يلم أرديته البيضاء ويستعد للقيام: «سوف تبقى في المعبد تخدم حتى تعود البهجة إلى قلبك».

قلت متوسلًا:

هل خدمتي في المعبد ستعيد البهجة إلى قلبي؟

قال الكاهن: «الآلهة في كل جنبات المعبد، لا بد أن سرها سوف ينفذ إلى قلبك».

رجعت إلى بيتي. أوصيت زوجتي بالزرع والطير والبهائم والبيت، وقلت لها إنني ذاهب لأخدم في المعبد، علّ البهجة تعود إلى قلبي.

خدمت في بيت الصلاة، وفي مراسم تقديم القربان، وطفت أكنس الرمال خلف أسوار المعبد، وصليت طويلًا، وحضرت عشرات الطقوس، مُنتظرًا أن أشعر بتلك الهبّة من الفرح تُعمِّر قلبي.

بعد عامين حملت صرتي، وذهبت إلى الكاهن، وقلت له:

يا سيدي الكاهن، خدمت عامين والبهجة لم تعد إلى قلبي، يبدو أن بهجتي ليست موجودة هنا، سأعود إلى بيتي لأرى ماذا حدث لزوجتي وزرعي وحيواناتي، ثم أمضي لأبحث عنها في مكان آخر.

الانفجار الكبير

في نهاية التسعينيات عاد من بعثة دراسية في أوروبا. عانى في الأيام الأولى من صعوبة فهم ما يحدث حوله، كأنه يتعلّم الحياة من جديد. يتحدّث بتعجب عن صخب تلاميذ مدرسة الزراعة أثناء خروجهم. يتقافزون مثل عجول صغيرة في مزرعة، ويصف باندهاش طريقة وقوف الميكروباص في شارع سعيد، وجه السيارة إلى الرصيف وظهرها في منتصف الشارع. يثير غضبه ازدحام الشوارع بالسيارات في الليل، فيسأل:

الناس دي رايحة فين؟ البلد كلها يمكن مشيها في نصف ساعة.

اقتنع أثناء إنهاء أوراق استلام عمله في الجامعة أن الروتين الحكومي يمكن أن يجلب الجنون إن فكر الإنسان بعقله، وأنه مرض وراثي تعايشنا معه آلاف السنين، مثل فكرة «الاستمرار». قال ذات مرة:

إن استمرار الحياة بلا هدف غير مجرد الاستمرار يعني أن هذا الشعب هو أكثر الشعوب عبثية.

استمر يدرّس قصائد الشعر الفرنسي في مدرجات تغص بالطلاب، صاخبة بالمزاح والغزل. يشعر بعبثية ما يقوم به، عندما يفكر بأن المشاعر الدقيقة واللغة الرهيفة التي يصيغ بها الشعراء تصوراتهم عن الجانب غير المرئي من الحياة، ستبدو بلا شك، أمرًا مضحكًا، في نظر طلاب لا ينتظرهم بعد تخرجهم، غير حمل الطوب والإسمنت لبناء المدن السياحية أو الدوران في الشوارع وفي دواوين الحكومة لتصريف بضائع مستوردي السلع الصينية.

ظلّ يُردِّد كثيرًا -حتى ظن زملاؤه أنه أوشك على الجنون- أن الحكاية لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، لابد أن يحدث شيء حتى تكتمل الدراما، لابد أن يهبط على هذه الأرض هدف ما، حتى لو كان الانتحار الجماعي… الهجرة الجماعية… الاقتتال الجماعي، لابد أن تتحرك الأحداث في اتجاه انفجار كبير، حتى تكتمل الدورة، لتبدأ دورة أخرى.

العودة من الخارج

عاد «صالح» من السعودية إلى بلدته في مدخل الصيف. وصلت السيارة في العصر. رشّت أخته أمام الدار بالماء ليرقد تراب الطريق. تركوه أول يوم يستريح، وكان عليه في الأيام التالية أن يعالج ما تراكم من مشاكل طوال عام كامل.

بنت أخته التي تخرجت من كلية الآداب، حبست نفسها في خزانة تحت السلم وراحت تقرأ القرآن بلا توقف وتدعك جسمها بالطوبة كأنها تتطهر من ذنب خفي. أخته تعاركت مع البقال المجاور وسبّته وقدمت فيه شكوى في النقطة. الجدار القديم هناك في نهاية الدار وقع والجيران يرمون زبالة في الزريبة. ابن اخته الكبير دفع جدته وقعت وكُسرِت ساقاها، وترك البيت وأجّر شقة في المساكن.

في جلسة الرجال التي عُقدت في بيت خاله، قال صالح إننا أهل وإنه يعتذر عن كل ما حدث، قال البقال:

يا عم الحاج «صالح» يعني هم يرمونا بالخراء وأنت تجيء تعتذر، المشكلة تنحل عندما يتوقف رمي الخراء.

تطلّع «صالح» إلى خاله لكن الرجل أكمل:

إن سامحنا هذه المرة، هل تضمن ألّا يحدث هذا مرة ثانية؟

قال صالح غاضبًا:

ومن قال لك إنه سيكون هناك مرة ثانية؟

قال البقال بغيظ:

من قال لي؟

وقام من جلسة الرجال وأطلّ خارج الدار المجاورة ونادى بنته.

دخلت البنت الصغيرة ترتدي جلبابًا وتربط شعرها بالمنديل وفي يدها ريش بط، قال البقال:

يصح هذا؟

توقّف «صالح» عن التفكير، البطة التي أطعمته أخته إياها يوم عودته من السفر رمت ريشها في دار الجيران.

قام صالح من القعدة يشعر بأنه صغير وأن الحياة أكبر منه، وأنه لا يمكنه أن يتصرف، وشعر بنمل يزحف من ساقه يتجه إلى وجهه، وأن الدنيا تغيم وهو في طريقه لأن يفقد وعيه.

كان سعيدًا رغم الألم بأنه سوف يغيب قليلًا عن ريش البط الداكن اللون الذي تعرضه عليه البنت، ويحمد الله، فأحسن ما حدث في حياته أنه يعمل مُدرسًا في السعودية.