إن نفرًا من الدّعاة الإسلاميين يحملون في حقائبهم أساطير من عند أنفسهم، ينسبونها إلى الإسلام عن قصور وغرور، ويحجبون أشعة التوحيد عن العيون المتطلعة وهم يدرون أو لا يدرون!

محمد الغزالي، مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكّر فيه

الإنسان يعيشُ في هذا العالم لا ليغيره فحسب، بل ليسمو به. وكلّ مجتمعٍ مصيره الانهيار إن لم يشعر بهذه الحاجة إلى التجاوز والتسامي.

روجيه جارودي، التصوف ملحمة الإيمان


تسارعت إلى ذهني صورٌ عدّة وأنا أعيد قراءة سيرة الشيخ محمد حميد الله الهندي الحيدرآبادي (1908-2002)، الذي يعتبره تلامذته في تركيا أستاذ الأساتذة، وهو معروف في جميع الدوائر الأكاديمية والعلمية خارج البلدان العربية، بفضل إتقانه لكثير من اللغات الحيّة والقديمة.

فقد صنّف بسبع لغات شرقية وغربية، وكتب في المجلات الفرنسية والألمانية والإنجليزية والفارسية والتركية والعربية، ولا يزال اسمه معروفًا في دوائر البحث العربية بفضل كتاب مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، وكان في أصله بحثًا كتبه بعد أن ناقش أطروحة الدكتوراه 1935 تحت إشراف غودفروا دومومبين.

وكتاب آخر هو سيرة ابن إسحاق، ومن العجيب أن نذكر هنا أن السيرة التي طبعت منذ سنين طوال لا يزال البعض يتحدث عن كونها مفقودة (كليًّا) ويظهر البعض على أنه مجتهد ويضع اسمه كمحقق لسيرة ابن إسحاق المفقودة، وتطبع دور النشر والمؤسسات إنتاجه الجديد!


سيرة الشيخ السلفي محمد حميد الله -الذي دعا الشيخ محمد الغزالي أن يرزقه تقواه وتدينه- تبدو سيرة أسطورية رغم أن تلامذته لا يزالون أحياء .. حافظ الرجل على ميراث الأقدمين بشكل نادر، ربطته علاقة وطيدة بكبار المستشرقين والآباء المشاهير في الغرب إلا أن رابطته كانت بالإسلام كما فهمه وورثه بالصورة التقليدية! رغم كثرة أسفاره وانفتاحه على عوالم وحضارات شتى، فمن خلال متابعة سير المعاصرين له كان من الطبيعي أن يعرف الواحد منهم 10 لغات أو 15 يكتب بهم ويترجم عنه (خدمة للإسلام) وللفكرة التي يؤمن به.

إننا نذكر من مزايا الشخصية المخلصة اليوم أنها تعيش ما تؤمن به، باعتبار أن الكثير والشائع أن الناس تردد من الأقوال وتعلن من المبادئ والقيم ما هي غير مجسّدة له

كيف هي أسطورية؟

إننا نذكر من مزايا الشخصية المخلصة اليوم أنها تعيش ما تؤمن به، باعتبار أن الكثير والشائع أن الناس تردد من الأقوال وتعلن من المبادئ والقيم ما هي غير مجسّدة له، فهي إما عظات فارغة، أو حكم جوفاء نضحك بها على صغار العقول، أو نسكن بها آلام العجائز.

يروي تلميذ الشيخ محمد حميد الله –وهو تركيًا عاش في النمسا- أنه لم يكن يتقاضى أجرًا على كتاباته، وكان يشدد على الناشر فقط أن يجعل ثمن الكتاب زهيدًا حتى يصل إلى جمهور كبير. ويروي نفر من القريبين منه أنه لما رُشح لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام 1994، وقد كان أحق الناس بأن ينالها ويُكْرَم بها – رفض هذا الترشيح مع احترامه لمشاعر من رشحوه لها، زهدًا منه في الشهرة والظهور والذكر الزائد.

ولما قلّده الزعيم الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق وسام الجمهورية الباكستانية لأعماله المميزة في السيرة.النبوية تبرع بقيمة الجائزة وهي مليون روبية لمعهد الدراسات الإسلامية في إسلام آباد قائلا: «لو قبلت الجائزة في هذه الدنيا الفانية فماذا سأنال هناك في الدار الباقية» كما أنه اعتذر عن قبول عرض من رئاسة الجمهورية الباكستانية ليتفرغ للعمل كأستاذ فوق العادة في إحدى جامعاتها.

إن مثل هذا السلوك أضحى أسطورة من أساطير الأولين التي ننسبها لشيخ ونعدها كرامة، أو نتندر بها في المجالس، لكنا لا نفكّر قليلاً في أن هذا السلوك يصبح طبيعي على البيئات التي خالطها الشيخ، فالأخبار التي تخلّد ذكرًا في باريس أن امرأة تتبرع بكامل ثروتها من أجل الجامعة أو من أجل بناء بيوت جامعية للطلاب لم تكن بعيدة عن هذا الشيخ، كذلك فإن مشاركة الشيخ في النشاطات الميدانية جعلته يقترب أكثر فأكثر من المؤمنين بالإنسانية والساعين لأجلها.


كيف لشيخٍ سلفيّ وفرنسية صوفيّة كان لكل منهما مشروعه الذي يسعى إلى إنجازه في الفكر والثقافة أن يقوموا بتوزيع حصص الطعام على المسلمين والمسيحيين المحتاجين في آن واحد.

إن الشيخ السلفي والصوفي عندنا في صراع دائم ينتقل أحيانًا من مشاكل علم الكلام الزائفة إلى قاعات المحاكم، ولا تجدهم مجتمعين إلا حسب ما تقضتيه السياسة فحسب. يذكر صادق سلاّم في كتابه (فرنسا ومسلموها) تعليقًا مفيدًا على اجتماع حميد الله مع إيفا ميروفيتش، مفاده: أن مثل هذه النخب المتمسكة بطقوسها في الغرب هي ما لا يركز عليها لأنها لا تخدم (تثمير الخوف من الإسلام).

أذكر أن بعض الشباب -الذي أضحى بفضل مواقع التواصل كغيره شيخًا من شيوخ الصوفية- كان فخورًا بكلمة كتبها عن حسن حنفي وقد رآه كافرًا بالطبع دون أن يقرأ كغيره، فلا فرق بين سلفي وصوفي في هذا، فكلاهما ابن ثقافة واحدة، يرث ولا يجتهد ولا يتعب نفسه، يستصحب دائمًا ما ألقي في رأسه.

تذكرت هذا الشاب وأنا أقرأ أن بعض الأعمال التي نشرها حميد الله (السلفي) كانت بالاشتراك مع الأب اليسوعي هنري لامانس، وأنه وقت إقامته في بيروت كان مقرّبًا من الأب وقد ساعده في الاستفادة من مكتبة الكلية الشرقية .. ومن أجل حميد الله أوجد المستشرق ماسنيون زاوية (رسالة الهند) في مجلة الدراسات الإسلامية بباريس حيث كان حميد الله يقدّم عرضًا للحياة الثقافية المتصلة بالإسلام. ولِم نذهب بعيدًا وحميد الله حقق نصّ أبي الحسين البصري مع حسن حنفي، وربما حتى اليوم يتقاطع مشروع حسن حنفي مع حميد الله!


لم تقتصر أبحاث حميد الله على السيرة والحديث النبوي كما هو مشهور وشائع عند الشباب السلفي اليوم، بل سعى الرجل لإبراز التراث العلمي والفكري الإسلامي الذي أُهمل، فكما اشتغل بأقدم التآليف عن الحديث والسيرة انشغل بالقرآن الكريم، وألّف في ذلك بالفرنسية والعربية، وتتبع جهود الألمان في خدمة القرآن، ويمكن للقارئ العربي بتصفح سريع لفهارس المجامع العلمية والدوريات العربية أن يجد بحوثه عن:

نشاط المسلمين البحري، والفقه الإسلامي والقانون الروماني، والأواصر القومية، والنفط في معرفة المسلمين، وأفكار أبي حنيفة الدينوري في العلوم الطبيعية، والقانون الدولي، والمصطلحات العلمية، وعلم النبات عند المسلمين، وتجديد التفكير الديني عن صلات رينان بالأفغاني، وتدوين الفقه، ورحلة كاتب جلبي وعلم الهيئة، وفقهاء إيران قبل الطوسي، وخلق الكائنات وأصل الأنواع، وأفكار ابن رشد في فلسفة الحقوق والقانون.

كما لم يقتصر إنتاجه العربي على تحقيقات السير والمخطوطات، بل إن له مؤلفات عربية أخرى، مثل: تاريخ تطوّر الدستور عند المسلمين، وأديان العالم.


رغم مخالطة الشيخ محمد حميد الله لكثيرين من أهل المذاهب والأديان، إلا أنه ظلّ محافظًا على فهمه للإسلام في صورته السلفية متمثّلاً بها، فرغم أنه كان يحمل كاميرا لتصوير ما يلزمه من آثار ووثائق، إلا أنه كان يرى حُرمة التصوير للإنسان والحيوان ! ويروي الشيخ محمد الغزالي قصّة في ذلك، يحسن أن نسردها هنا نظرًا لكونها شهادة معبّرة عن مستقبل الإسلام خارج أرضه (كما هو عنوان كتاب الغزّالي):

التقيت بالأستاذ حميد الله في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر، وعندما وقع بصري عليه شعرت بأني أمام رجلٍ من عباد الله الصالحين، هو نحيف هادئ صامت يبدو عليه النسك، وراقبته وهو جالس فرأيته يخفي وجهه تقريبًا بورقة يرفعها عدّة ساعات بذراعه! فقلتُ لصديق لي وله: لماذا يفعل ذلك؟ قال يخشى من المصورين! فقلت له: ماذا يخشاه منهم؟ قال: هو يرى أن التصوير الشمسي حرامٌ، ولا يريد أن يقع في هذا الإثم! فأبديت عجبي وقلت: لو صحّ ما يراه فإن الذّنب على من يصوّره وهو كارهٌ، لا عليه، وبدأتُ أشكُّ في فقه الرّجل، وإن لم أشك في تقواه، والتقوى شيءٌ والفتوى شيءٌ آخر!

وعندما ألقى محاضرته ذكر حديثًا عن عدد الأنبياء وصل بهم إلى الألوف، والحديث يدور بين الوضع والضعف، ولم أنزعج كثيرًا لهذا الخطأ، بيد أني اضطررتُ إلى التعقيب على محاضرته عندما قال:

إن التوقيت الشمسي كان معمولاً به عند العرب، وإن القرآن أشار إلى ذلك عندما رفض النسيء «إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا».

ومعروفٌ أن أيام النسيء التي تضم إلى السنة الشمسية شيءٌ آخر مغاير كلّ المغايرة للنسيء الذي كان يفعله العرب في جاهليتهم، ويؤخرون به أحد الأشهر الحرم عن وقته، ويحرمون مكانه شهرًا آخر! وكل ذلك في السّنة القمرية لا في السنة الشمسية!

إن الشيخ حميد الله رجل طيبٌ عابدٌ، ولديه معلومات كثيرة، وقدرة على متابعة الدراسة غير أنه بحاجة إلى مزيد من الفقه، وإحكام العلم بالمرويات. استنكر الشيخ الغزالي أن يكون حميد الله هو الذي يعرّف الناس في فرنسا تعاليم الإسلام ومبادئه، وأن يكون مستشارًا للوزراء والكُبراء، فكيف يكون مثله على حد وصف الفرنسيين ثاني فقهاء العالم الإسلامي، وهو واقف عند هذا الفهم الضيق للإسلام؟

يمكن فهمُ هذه الصورة التي يقدمها الشيخ الغزالي في إطار همومه كداعية، وهي هموم حملها الغزالي طيلة حياته، كان حريًّا بالأجهزة الدعوية الإسلامية والمؤسسات الدينية أن تحمله معه وتقدّم أفضل مما يُقدم اليوم! على أية حال لم تكن هذه الصورة وحدها التي ورثت عن حميد الله.

فحميد الله أو (حميدو) كما كان يُسمّى في أوروبا وكما تحدّثنا المستشرقة الألمانية أنّا ماري شيمل عنه كان معروفًا بوصفه أحد أكثر المسلمين علمًا بالنسبة إلى المستشرقين، ولم يسع أبدًا إلا إلى العلم، وقد زهد في مظاهر الدنيا كلها، فلم يكن معه مال، وعاش في شقة صغيرة في باريس، و لم يكن ينصرف لحظة عن المطالعة والكتابة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.