في أحد دروسه التي لا يزال الشيخ حسن الشافعي يلقيها على طلابه في الجامع الأزهر، روى عن أساتذته ومشايخه أن العلم في مصر في هذا (الكيلومتر)، وكان يشير إلى منطقة الأزهر وما يجاورها من أماكن شهدت أزهى أوقات النشاط الفكري والتجديد الذي كان أعلامه أصحاب همّ حقيقي ومحبّة لهذه البلدة الطيبة وما يجاورها من البلاد. لم ينسَ الشيخ الشافعي أن يستحضر أماكن العلم في مصر وأعلام المعرفة وهو يسرد ذكرياته، ولعل مراجعة لكتابه «حياتي في حكاياتي»[1] تفيد القارئ في التعرف على تاريخ العلم في مصر في هذا العصر!.

لم يقتصر دور العلماء المصريين على خدمة هذا البلد فحسب، بل امتد إشعاع معارفهم وشمل بقاعًا كثيرة سواء كانت ناطقة بالعربية أو باللغات الأعجمية. فبعضهم يذهب إلى أمريكا ويؤسس مركزًا إسلاميًا، وفي لندن تذاع الأحاديث وتلقى المحاضرات بصوت مصري أصيل، وفي أفريقيا حتى اليوم لا يزال حضور المصري هناك صورة حيّة للإسلام والعلم، فلا يمكن أن يتصور أهل هذه البلاد أن يكون المصري غير عالم بأمور الدين وغير ناشر للمعرفة. ولعل ما رواه الشيخ محمد الغزالي في سيرته ومسيرته [2] يوضّح جزءًا من معالم الصورة التي نذكّرك بها.

اعتبر الشيخُ محمّد الغزالي التصوفَمنجمًا مليئًا بالأتربة وبالتِّبر، وهو بحاجة إلى خبير محترم يدخل فيه ليخرج بالنفائس ويبتعد عن الأتربة، ورأى أن الأمة الإسلامية لم تحسن الانتفاع من كنوز التصوف التي لديها. نذكر على سبيل المثال رأي الغزالي في «حِكَم ابن عطاء الله السكندري» التي طالما استعادها في كتابات كثيرة له، سواء «ركائز الإيمان بين العقل والقلب»، أو «الجانب العاطفي في الإسلام» أو «جدد حياتك» أو غيرها من مؤلفاته الكثيرة، إذ اعتبر الغزالي أن حكم ابن عطاء الله هي أوْلى المؤلفات بكلمة سعد زغلول: «كأنها تنزيل من التنزيل أو قبة من نور الذكر الحكيم»، لأنه وجد في ابن عطاء الله رجلاً خبيراً بالله، وخبيراً بالطريق إليه، وخبيراً بالنفس البشرية وعللها، راغبًا في أن يربطك بربك «اجتهادُك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طُلب منك دليلٌ على انطماس البصيرة منك». هذه فعلًا نظراتُ رجلٍ عميق الفكرة، فاهمٍ للإسلام جيدًا: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ». أيمكن أن يمضي قرارٌ دون أن يعلمه الله سبحانه وتعالى؟!، مستحيلٌ، فهو يريد طمأنة الناس حتى يمشوا في طريق طلب الرزق برفق، غير مسعورين. ولكنه، في نفس الوقت، يصوغ هذا صياغة أدبية لائقة، وعارف بطبيعة البشر [3].

رغم نقد الغزالي للتصوف لم نسمع عن «نصرنة الإسلام» على أيدي المتصوفة في مصر، أو «أمركة الدين»، أو غير ذلك من الأوصاف التي نقرؤها اليوم.

رغم نقد الغزالي للتصوف لم نسمع عن «نصرنة الإسلام» على أيدي المتصوفة في مصر، أو «أمركة الدين»[4] أو غير ذلك من الأوصاف التي نقرؤها اليوم فيما نطالعه من مقالات منمّقة في الصحف والمجلات، أو نقرؤه في أعمال بعض المؤتمرات!. وإن كان بعض الكتّاب معذورين فيما يرصونه من أحرف وكلمات، معتمدين على أفعال بعض المنتسبين إلى التصوف سلوكًا أو معرفة، وسأقف هنا عند مثال واحد ربما كان سببًا في التماس العذر للمخاصمين للتصوف.

قبل عامٍ عزمت على المشاركة في أعمال ملتقى للتصوف في المغرب، كان عنوان المؤتمر يحفّز على المشاركة وبالفعل قدّمت ملخصًا لمشاركتي عن انتقال التصوف الفارسي إلى اللغة العربية وإسهام المصريين في تقديم هذا التراث الثري. من خلال متابعتي للمركز الذي يشرف على أعمال المؤتمر وجدت أن «تسويق» المؤتمر يجري بشكل لا علاقة له بالعلم أو المعرفة، إذ يحرص القيّم على المركز أن يسّوق فكرته من خلال حضور الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين، فيحضّ الباحثين على المشاركة للقاء السفير الأمريكي أو الأوروبي أو..، وما فعله في العام الفائت يفعله هذا العام. ومن الغريب حقًّا أن يهتم الباحث اليوم بمثل هذه الأمور -إن كان باحثًا أو طالب معرفة حقًّا- فلا تراث الصوفية ولا مقتضيات المعرفة تدعم هذا السلوك.

طبيعي أن يرى المخاصم للتصوف في مثل هذا السلوك فرصة مناسبة لتنزيل ما يحلو له من أوصاف على «التصوف» و«السالكين» و«المهتمين بالمعرفة الصوفية»، وفضلاً عن تسطيح المعارف وسوء التناول بهذا الشكل، فإن هناك ما هو أسوأ من ذلك.


الكتابة عن التصوف

قد يبدو تعصّبًا لمصريتي أن أشيد بالكتابات المصرية المؤسِّسة في العصر الحديث عن التصوف، غير أني من خلال مراجعتي لا أظن أن باحثًا أو قارئًا يلج هذا العالم ويستطيع الاستغناء عما كُتب أو نُشر في مصر عن التصوف. وما يحدث اليوم من انحراف وردّة معرفية في مصر وانسحاق هو بعينه ما يحدث في غيرها من بلادنا العربية، فأضحت الكتابة المصرية لا لون لها يجعلها تمتاز عن غيرها أو يرغب فيها الجمهور العربي الذي كان يلاحق كل مقالة أو بحث أو كتاب يُنشر في مصر.

فقد انتقلنا إلى التقليد شكلاً وموضوعًا، وحاولنا أن نعالج قصورنا بمسكّنات الاصطلاحات المعقدة، التي لا تدل على معرفة أو وعي وتجسد ضعف شخصيتنا ومعارفنا. في آخر حوار لي مع الأستاذعبد المجيد الشرفي أخبرني أنه كان يقرأ دراسة علمية أجيزت في إحدى الجامعات في مصر في اختصاص الفلسفة الإسلامية وحصل صاحبها على درجة الدكتوراه، وبالطبع لم يكن يستحق هذه الدرجة، ففضلاً عن الأخطاء التي وقع فيها الباحث في رسالته ومرّت على مجموعة من الأساتذة دون تعقيب، لا يعالج البحث أية مشكلة بشكل واضح وينشغل طيلة الوقت بإصدار أحكامٍ ليست من شأنه. رغم ذلك عوّل الأستاذ الشرفي على مصر، ورأى أنه لو انصلح الحال في هذا البلد سيعود بالنفع على جميع البلدان العربية؛ نظرًا لمكانة هذا البلد العريق.

فقد انتقلنا إلى التقليد، وحاولنا أن نعالج قصورنا بمسكّنات الاصطلاحات المعقدة، التي لا تدل على معرفة أو وعي، وتجسد ضعف شخصيتنا ومعارفنا.

وفي كتابه «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» الذي يعود إليه كثيرًا الباحث الفرنسيإريك جوفروا في إبراز رؤيته لما يقدّمه الإسلام والتصوف في عصرنا الحديث «المستقبل الروحاني للإسلام»، وينطلق من خلاله للحديث عن الإسلام والحداثة، يعتبر الشرفي أن أفضل كتاب في العصر الحديث كُتب في علم الكلام، هو «المدخل إلى علم الكلام» الذي كتبه قبل فترة طويلة الشيخ الجليل حسن الشافعي. ولأننا بصدد الحديث عن التصوف ودور المصريين في التأليف في هذا الحقل، فلا بأس من ذكر نموذج من هذه التآليف عسى أن تساعد القارئ والباحث على التبصّر والإفادة من هذه الآثار على أن نعود إلى ذكر نماذج أخرى بشكل موسّع في مقال تالٍ إن شاء.

كان على رأس المدرسة الفلسفية المصرية الشيخمصطفى عبد الرازق. ورغم أنه لم يؤلف في التصوف بشكل مستقل، إلاّ أن محاضرته في مؤتمر الأديان التي تحدث فيها عن التصوف كفرقة مستندًا إلى مصنّف الفخر الرازي عن «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين» كانت سببًا في تحقيق هذا النصّ من قِبل الأستاذ الأشعري علي سامي النشّار، الذي لم يجد خيرًا من هذه المحاضرة ليقدّم بها نشرته للكتاب، وظلت هذه المحاضرة المختصرة نصًّا بالغ الأهمية لكل من أراد درس الرازي أو التصوف عنده، وخير مثال على ذلك دراسات الأستاذ فتح الله خليف التي أنجزها في الإسكندرية وكامبريدج عن الرازي، وكتاب الأستاذ أحمد الجزار عن تصوف الرازي، وهو الكتاب الوحيد (عربيًا) الذي كُتب حول هذا الموضوع فيما نعلم.

إننا نقصّر في حقّ أنفسنا ومصرنا بتفريطنا في هذا التراث وعدم معرفتنا به. فتناول الدارسين لموضوعات التصوف قديمًا، وما يُقال عن ضرورة نقد تراثهم أضحى ضرورة اليوم مع انتشار لون من ألوان الكتابة لا طعم له ولا رائحة ولا فائدة!.


[1] طُبعت سيرة حياة الشيخ الشافعي في دار الغرب الإسلامي ببيروت، بعنوان (حياتي في حكاياتي)، ويُوزّع الكتاب في دار المجلد العربي أمام مبنى الجامعة الأزهرية بالدراسة.[2] نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1431 هـ/2011 حوارات الشيخ الغزالي: السيرة والمسيرة. والكتاب عبارة عن مجموعة من المحاورات أجراها مع الشيخ الغزالي: جمال الدين عطية، محمد عمارة، محمد كمال إمام، عبد المعطي بيومي، فهمي هويدي، رفعت العوضي، صافيناز كاظم، حسن الشافعي، وقدّم لها طه جابر العلواني. وفيها يوضّح الشيخ الغزالي موقفه من كثير من القضايا.[3] راجع مؤلف محمد عمارة: «الشيخ محمد الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام – القاهرة 2009، ص 5-24. وقارن محاورات الشيخ الغزالي، مرجع سابق ص 14-17.[4] : ترتكن أغلب الآراء التي ترى في التصوف وطرقه وصوفية اليوم فئة مستلبة وموظّفة من قِبل الحكومات الغربية إلى مقولات واحدة، خاصم فيها الكُتّابُ التصوّف وحمّلوا الصوفية ما حدث للمسلمين على طول العالم الإسلامي من الظهور بصورة الانحطاط أوالتخلف، وهي آراء لا تختلف عن الآراء المؤدلجة الواقعة في صراع مع الصوفية. فإذا كانت الخصومة هناك عقدية، فهي هنا خصومة فكرية.يتم تكرار الاستشهاد بمقولة للراحل عبد الوهاب المسيري، ففي حديث له مع قناة الجزيرة الفضائية، قال مُجيبًا عن سؤال حول حقيقة توصية لجنة الحريات الدينية التابعة للكونغرس الأمريكي بضرورة تشجيع «حركات الإسلام التقليدي والتصوف»:

«ومما له دلالته، أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجّع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشارًا الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي وأشعار جلال الدين الرومي»

ثم يضيف:

«لقد أوصت هذه اللجنة بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية. فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي».

ولعل مقال إحسان الفقيه المنشور في (موقع عربي 21) بتاريخ 18 يناير 2015 تجسيد لهذا التكرار، وكذلك مقال إبراهيم غرايبة المنشور في أعمال مؤتمرات مؤمنون بلا حدود. إلاّ أن مثل هذا الكلام لا يمكن قبوله وتنزيله على جميع الملتقيات والحركات الصوفية، ومراجعة بسيطة لآخر مؤتمر صوفي أقامته العشيرة المحمدية في مصر وحضره علماء من الشرق والغرب يؤكد لنا ذلك.