ما زلت أقرأ لبعض من لا يرضيهم مذهب أهل السنة أن تلك المدارس الاعتقادية السنية الأشعرية والماتريدية، والمذاهب الأربعة الفقهية، والمسالك الصوفية المرعية، قد انتشرت لوجود قوة سياسية ترعاها؛ ويضربون المثل بما وقع مع صلاح الدين الأيوبي الذي عمل على نشر المذهب السني الأشعري! وقد سمعنا من يقول ذلك من بقايا الباطنية والاثني عشرية، وبعض السلفية، فهل الأمر كذلك بالفعل؟


الحق أن مذهب أهل السنة الذي هو مذهب الصحابة، رضي الله عنهم، والذي هو خلاصة فهوم فحول علماء الأمة على مدار التاريخ، قد حورب في كثير من البقاع عقيدة وفقهًا، حتى ثبت أركانه بقوة الحجة لا بقوة الدعم السياسي.

فقد كان المأمون وهو خليفة المسلمين معتزليًا يعمل على نشر مذهب الاعتزال بقوة الإرهاب والحبس والجلد، حتى وقعت محنة «خلق القرآن» التي كان يستدعي فيها أهل العلم ويمتحنهم، فمن لم يقل بقوله حبس أو جلد، فأين مذهب المعتزلة الآن؟

كما حورب أرباب المذاهب الأربعة وجلد وطورد الكثير منهم، كما وقع مع الإمام مالك الذي جُلد، والإمام أحمد الذي جلد وحبس، والإمام الشافعي الذي طورد وأُتي به للخليفة مصفّدًا في الأغلال، والإمام أبي حنيفة الذي طورد أيضًا لتأييده ثورة محمد ذي النفس الزكية.

كما حورب المذهب المالكي على وجه الخصوص، والمذاهب الأربعة على وجه العموم حتى أحرقت كتبها، في ظل دولة الموحدين التي كان يقول خليفها : «ليس إلا هذا أو هذا» – ويقصد القرآن والسنة- وكان عن يمينه السيف فقال: «أو هذا». فأين المذهب الظاهري الآن في بلاد المغرب التي يضرب بها المثل في شدة التمسك بمذهب مالك عقيدة وفقهًا؟

وقد جاء الفاطميون إلى مصر وشمال أفريقيا، وكانوا شيعة إسماعيلية، وحاولوا تغيير مذهب المصريين بالقوة والإرهاب؛ حتى كان دعاتهم يجهرون بسب أبي بكر وعمر فى المساجد، فضلًا عن نشر كتبهم ككتاب «دعائم الإسلام» الذي يحوي الفقه الإسماعيلي، والذي كان يُدَرّس في الأزهر فترة وقوعه تحت سيطرتهم الثقافية، فأين هذا المذهب الآن في مصر؟

بل إن القرن الرابع الهجرى بأكمله لم يأت على الأمة الإسلامية إلا ويحكمها من يدعي الانتساب لآل البيت، ما بين تشيُّع زيدي أو باطني إسماعيلي أو تشيع ظاهري يخفي انحلالًا وشعوبية كحركة الزنج والقرامطة -كما يؤكد ذلك محمود شاكر المؤرخ- فهل تبقى من مذهب الإسماعيلية الباطنية شيء في مصر أو غيرها، اللهم إلا بقعًا هنا وهناك في العالم الإسلامي الشاسع؟

وفي عصرنا في ظل الدولة الوهابية المعاصرة -والتي كان لها مواقف صارخة من مذاهب أهل السنة الاعتقادية والفقهية حتى احتلت المصطلح وزعمت إعادة الأمة إلى التوحيد! – هل اختفت المذاهب الأربعة من الجزيرة؟ لقد بقيت منطقة الأحساء تدرس كافة المذاهب حتى سُمّيت معاهدها العلمية: أزهر الخليج، وبقيت منطقة الحجاز سنية شافعية صوفية، فهل أفاد إرهاب وتضييق الدولة على العلماء شيئًا حتى اعترفت أخيرًا بها؛ فألحقت بهيئة كبار العلماء هناك علماء من كافة المذاهب.

وفي عصرنا كذلك بعد دعوى اللامذهبية التي استُخدم فيها سلاح الإغراء والدعاية الكاذبة نرى إخواننا من السلفية يعودون إلى دراسة المذاهب، وإن لم يتخلصوا من أوزار الماضي!


إن القول باعتماد المذاهب المتبوعة على قوة السلاح وتأييد الدول، لا يثبت أمام التمحيص العلمي التاريخي، فضلًا عن أن التسليم بصحة الربط بين انتشار الفكرة والقوة السياسية خطير.

أما تمحيصًا: فإن الأديان والمذاهب العلمية والأفكار لا تنتشر بقوة سياسية، وهي إن دُعِّمت فإنها لا تستمر؛ فالإسلام نفسه لم يلق تلك القوة في بداياته، ومذاهب الفقهاء التي انتشرت في الأمة لم تدعم من سياسيين، بل الذى حدث هو العكس تمامًا. فالسلطان يوطد ملكه ويتقرب من رعيته بما يرى له قبولًا في مجتمعه، فيؤكد سلطانه بانتمائه لما ينتمي إليه مجتمعه. أي أن هذه المذاهب قوية بقوة أدلتها، وأن الحُكّام إن دعموها في بعض الفترات، فهم من حاول الاستفادة منها وركوب موجتها. فالحق قوي بنفسه، والسيف قد يفتح أرضًا لكنه لا يفتح قلبًا!

أما خطورة: فإن هذا القول يعد اتهامًا لشعوب الأمة الإسلامية وعلمائها ولمذهب أهل السنة بالذات بالضلال الذي نفاه عنها النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة». وهذا الاتهام يستبطن الضلال لا محالة لتعود الأمة إلى مذاهب مهجورة أو شاذة لفظتها الأمة قبل ذلك ويراد إعادة تدويرها.


ولست أنكر أن يكون للقوة السياسية بعض الأثر، لاسيما إذا تبنت الدولة مذهبًا أو أوقفت عليه أوقافًا أو شيدت مدارسه، لكن هذا الدعم ليس هو الخطوة الأولى بل الثانية. فلولا قوة مذهب أهل السنة الأشاعرة والماتريدية ما كُتب له البقاء أمام مختلف الآراء والأهواء، ولولا إحكام مذاهب الفقهاء لا سيما الأربعة وتنقيح مذاهبهم جيلًا بعد جيل ما بقيت ولا انتشرت، لا سيما مع الحالة النقدية المستمرة داخل هذه المدارس والمذاهب.

نعم: قد تنتشر مذاهب الباطل ودوله حينًا، لكنها لا تبقى كثيرًا، ولا تُعَمِّر طويلًا. هكذا يقول التاريخ.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.