الأيديولوجيات سجن اختياري، هش كخيوط العنكبوت، ومع ذلك الخلاص منه، والخروج من شرانقه وأحابيله أمر جد عسير. قد يرث الإنسان أيديولوجيته وقد يصنعها بنفسه، لكنها في الحالتين لن تعدو كونها سجنًا وخنقًا للوعي وتكبيل للحرية.

لكن أحكم الناس طرًا من يؤمن أن الأيديولوجيا محض كذب نسجه الآخرون في منتهى البراعة والحبك، ومع ذلك، ولأنه إنسان يريد أن يرغب وأن ينتمي ويحشر في منظومة أفكار ما، فإنه ما يفتأ يخلق لنفسه أوهامه الخاصة.

قد تكون هذه هي الوصفة السرية للإله الإغريقي القديم أبولو للسعادة بأنها «الوهم النافع ذريعة لاحتمال الألم الفاجع»، والحق أن صناعة الوهم الذاتي والإيمان به أكثر أمانًا من المخاطرة بالخروج على الهويات والأيديولوجيات جميعًا؛ فإذاك لا يكون بيننا وبين السقوط في براثن العدم إلا مقدار رمية حجر.

أفول السرديات الكبرى

أفلس العالم اليوم كليًا، ووصلت كل الأفكار والأيديولوجيات والسرديات الكبرى إلى النهاية، ولم يعد في أي من هذه الأفكار عزاء ولم يعد بإمكانها جلب بصيص أمل لسكان هذا الكوكب التعس، ولكي نعيش مطمئنين على الأقل علينا تقبل هذه الحقيقة، وأن نُقيم على جثة السرديات الكبرى حفل عشاء!

هذا العالم، منذ بدايته، مقسوم إلى قسمين، لكن ليس هما القسمان اللذان عناهما كارل ماركس وأقام عليهما أسس فلسفته، بل هو، أي العالم، مقسوم منذ البداية إلى قسمين هما: خادع ومخدوع، ربما هذه القسمة موجودة منذ بدء الخليقة، بل ولم لا تكون أساطير البدايات الأولى إحدى الكذبات الكبرى التي صدقناها وانتشينا بها فرحًا وقت سذاجتنا وطفولتنا الفكرية؟

هناك، إذًا، طرفٌ يُملِي أفكاره، ويتحدث عن تصوراته للكون والوجود، وعن شكل التنظيمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي علينا أن ننخرط فيها، وعلى الجانب الآخر هناك مَن صدّق هذه الأفكار وآمن بها، بل لم يزل هناك حتى يومنا هذا، رغم ما عانته هذه العقائد وتلك السرديات الكبرى من فضائح، من هو مستعد للتضحية بحياته من أجلها! وإلا فبما نبرر كل العمليات الانتحارية التي تحدث في شتى أرجاء العالم يومًا بعد آخر؟!

هؤلاء ضحايا بلا شك، ضحايا جهلهم في المقام الأول، وضحايا هذه الأيديولوجيات المزيفة في المقام الثاني، عذرهم الوحيد أن أصحاب هذه العقائد ومنظروها كانوا ماهرين وما زالوا في نسج خيوط كذبهم بشكل لا لبس فيه.

الأيديولوجيا والموت والفردوس

لدى كل عقيدة دينية، أو أيديولوجيا سياسية، فردوسها الخاص بها، وطرائقها المختلفة في الإغراء؛ فكل ديانة من الديانات السماوية، على الأقل، تعد أتباعها بفردوس ما (لن نتحدث هنا عن شكل هذه الفراديس، ولا عن الاختلافات بينها، ولا عن مكان وجودها)، تختفي فيه كل الأوجاع والأسقام والآلام، بل ويعج بكل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.

وكل أيديولوجيا سياسية أو اجتماعية، وكل سردية فكرية كبرى، لديها أيضًا فردوسها الخاص، وطوباويتها الخاصة، ألم يعدنا التنوير، من كانط إلى هابرماس، بالانتصار للعقل، وتسييد الإنسان على الطبيعة؟! ألم ترفع الحداثة لواء التنوير الذي لا يُقهر؟! ألم يُجهد ماركس نفسه كثيرًا في وضع أسس مجتمعه المتخيل الخالي من الطبقات والفروقات الاجتماعية؟! ألم يقل لنا، حين سَكِر بخمر سرديته حتى الثمالة، إن رئيس الجمهورية، في مجتمعه/ فردوسه المفقود، سيعمل مزارعًا في الصباح، وحاكمًا بعد الظهيرة، وناقدًا أدبيًا في المساء؟!

وعلى الرغم من أن لدى كل أيديولوجيا وعدها الخاص بخلاص ما (جنة عدن أو مجتمع اللاطبقات) لكن تحقيق هذا الوعد مُرجَأ إلى الأبد، حتى عندما يتم تحقيق جزء من هذا الوعد (قيام الاتحاد السوفيتي مثلًا) تدحض الأيديولوجيا كون هذا هو وعدها النهائي، إنها تريد أن يكون وعدها غير منجز أبدًا؛ حتى تتمكن من الجذب والإغراء.

ولسنا بحاجة إلى القول إن وعود الأيديولوجيات المختلفة لم تزد طين العالم إلا بلة، يكفيك فقط أن تُلقي نظرة بانورامية خاطفة على العالم، وستتأكد من دون شك، طالما أن نبيذ الأيديولوجيا والسرديات الكبرى المعتّق لم يُذهب عقلك بعد، أن كل هذا لم يكن سوى محض كذب وهراء.

فالعالم حاليًا غاص في الغائط حتى أذنيه، وما ثمة بقعة آمنة يمكن أن نركن إلينا، العالم، الآن، بالفعل، غير صالح للسُكنى.

وعلى ذلك، يمكن القول بضمير مطمئن، إن الأيديولوجيا تغييب متعمّد للوعي، وإسكار للعقل بالوعود. إنها تجارة في الوهم واستثمار في الألم.

الأساطير والموت والإرهاب

تقدم لك الأيديولوجيا أسباب الحياة ومبررات الموت معًا، وتشرعن القمع والاضهاد، وتستنزف دمًا كثيرًا من قبل الضحية والجلاد معًا (فكلاهما يرضي أيديولجيته الخاصة).. كل الأيديولوجيات حمراء.

وكل أيديولوجيا عنيفة وتدعو لقتل الخصم وسحقه، هي فقط تتحدث عن التسامح حالما تشعر أنها في مأمن وغير مهددة. وكل أيديولوجيا تدّعي أنها تدافع عن الإنسان، لكنها لا تدافع عن إنسانها هي وحدها. كل حظيرة تنافح عن خرافها.

على ماذا يتصارع السياسيون وأصحاب الأيديولوجيات والشعارات الجوفاء، إذًا؟ على عقلك. يبتغون أن يضيفوا للحظيرة خروفًا جديدًا كل يوم. تلك هي اللعبة.

عبث النظرة الجادة إلى التاريخ

جملة صدف قد تفلح واحدة منها في إدخالنا عتبة التاريخ؛ فما جدوى الجدية المفرطة في النظر إلى التاريخ؟!

كل ما بدأ يعود، وكل ما هو موجود يعود، هذا صحيح من جهة انطباقه على اللحظات الصغيرة والأحداث الآنية، فهذه اللحظة التي أكتب فيها هذا الكلام الآن ستعود مجددًا تمامًا كما هي، وربما أكون جالسًا نفس الجلسة، مرتديًا ذات الثياب، وتلعب في رأسي ذات الأفكار، فاللحظة عندما تتكرر تتكرر بحذافيرها ( الزمن أمين من هذه الجهة).

لكن كيف «كل ما بدأ يعود» إذا كنا أصلًا لا نعرف نقطة البدء الأصلية فنحن جنس مجهول النسب أو متنازع على أصله بين الأيديولوجيات والهويات المختلفة.

هل يعود الوجود إلى الانفجار العظيم مثلًا؟! لكن هل الانفجار العظيم حدث مؤكد؟ هل هي نظرية صحيحة؟!

لكن أحدًا من سَدَنة الأيديولوجيات المخلتفة يقول لك قولًا كهذا، ماركس على سبيل المثال يرى أن الكون يسير في خطيّة ميكانيكية ستوصلنا في النهاية إلى المجتمع الشيوعي/ الفردوس المفقود. وليست بنا حاجة، حتى وإن احتج تيري إيجلتون كما شاء، إلى القول إن ماركس لم يكن على حق.

التاريخ هازل، والأيديولوجيا ماهرة جدًا في نسج خيوط كذبها من خلال هذا الهزل. الصدفة منطق التاريخ، والمنتصرون – الذين انتصروا بمحض صدفة تاريخية ما – يملكون زمام هذا التاريخ ويكتبونهم على هواهم. أبعد كل هذا يمكن لإنسان عاقل أن يقتنع إلا بما كان شاهدًا عليه من وقائع وأحداث؟!

الحر صانع أوهامه

تريد أن تحرره؟ أسلبه أوهامه، إذًا، سيموت أو يُجن، لكنه إن عاش سيكون حرًا وسيرقص على حطام الأيديولوجيا.

لكن الانتماءات والأشياء الصغيرة- كأن تختزل امرأةُ ما وجودها في جمالها أو يكرس رجل ما حياته لرعاية كلبه- لا تخذل أصحابها أبدًا؛ فمن اليسير العثور عليها، بخلاف الانتماء للقضايا والأفكار الكبرى التي لا يجني المرء من وراءها سوى العدم، ثم هل العالم يستحق أصلًا أن نؤمن فيه بقضايا كبرى؟!

إن أكبر شيء يجب أن نكرّس وجودنا له هو الحرية، وهذه الحرية أمست مستحيلة، فليصنع كل واحد منا لنفسه وجوده الخاص، أساطيره الخاصة، وليسكر بخمرها حتى الثمالة.

وفي الحقيقة، إن كل الأنماط التي يمكن ذكرها على سبيل المثال كأوهام ذاتية (إيمان امرأة بأنها الأجمل على الإطلاق أو تصور شاعر أنه أفصح العرب أجمعين) آسرة وجميلة، لكن ما يخلب اللب حقًا ذاك الرجل الذي استقال من العالم كليةً، وسحب كرسيًا وجلس على حافة الوجود يتأمل هذا العبث المحيط بنا من كل جانب، لا مفكرًا في ما مضى، ولا آبهًا بما هو قادم، وحتى الحاضر لا يشغله، فالحاضر محض مهزلة، إنه بالضبط نموذج «جوهر أفندي» في رائعة ألبير قصيري «شحاذون ونبلاء».

والدرس الذي يعلمنا إياه «جوهر أفندي»- الذي أدى دوره الفنان صلاح السعدني بمنتهى المهارة- ومن بعده ميلان كونديرا هو التالي: في قلب كل جِد ثمة هزل، تفاهة، عبث، التفت إليها، إلتذ بها، وتأملها جيدًا، ولا تدع مظاهر الجِد تنسيك تفاهة الوجود.

إذا اتبعت هذه الاستراتيجية (محاولة القبض على الهزل في الجد، و تعقب العدم في الوجود) ستعيش مستريح البال تمامًا، خاليًا من القلق، ستُفاجأ بأنك أكثر صفاءً من القديس فرانسيس الإسيزي نفسه، وأشد محبة لأعدائك من يسوع، ستمسي شفوقًا على كل من لم ييأس، على كل من لم يدرك معنى التفاهة الحقة، على كل شخص حزنه «هلفوت»، ستكون خفيفًا كريشة، وحادًا كفأس في نفس الوقت.

فأي شيء يقلقك إذا كنت تعرف أننا ممثلون في مسرحية هزلية، وسينتهي كل شيء الآن أو بعد حين؟!

وصفة لصنع الوهم الذاتي

اختزل ما تعرف فيما جربت ثم تحدث عنه تكن صادقًا أبدًا. سم ذلك ما شئت «اختزال فينومينولوجي»، «إيبوخية»، «تعطيل ساذج للوعي»، «تعطيل الوعي الساذج».. إلخ لكني لا أسميه سوى صدق.

المهم أنه عبر هذه الطريقة، أي قصر الأمر على ما عشناه وجربناه، سنرث أو سنحقق نوعًا من اليقين وسينهزم الشك. ولكن يقيننا سيكون في مسائل جد قليلة، إذ إنه (هذا اليقين) مبني على تجاربنا وحدها، والحياة كما تعلم قصيرة.

الحكم على الأشياء والأشخاص مُعلّق إذًا، مرجأ إلى حين التجربة؛ تجربة هذه الأشياء والأشخاص على حد سواء. فليس حقيقيًا إلا ما تحققناه؛ ما عشناه بأنفسنا وجربناه.

وفي الأخير لا تنسى وضع كل البديهيات برمتها على منضدة النقد والتشريح، وتجاسر لترى ماذا ستكون النتيجة.

جدوى الأيديولوجيا

لا شيء يجعلك معتدلًا مثل الأساطير؛ إنها تأخذ بيدك صوب الأكاذيب والخيالات الأولى.

العداء طابع أصيل ومركوز في البنية النفسية لدى البشر قاطبة بحسب فرويد، وإذا كنا نريد أن نحجّم هذا العداء، وأن نديره في الاتجاه الصحيح فلنتجمع، فالجماعة، الزمرة الاجتماعية الصغيرة ستصب جام غضبها، وتوجه غرائزها العدوانية ضد من هم خارجين عنها، وستعاملهم كأعداء. المهم أن يبقى خارج الجماعة من يتلقى الضربات، هذه أهمية الآخر. وهذا النزوع نحو التفرد، تشكيل الدول، تكوين الأحزاب، المنظمات.. إلخ هدفه أن يكون هناك آخر نتوجه إليه بالعداء، ويحضرني طبعًا كتاب «صناعة العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح».

وطبعًا كل أيديولوجيا أوجدت لنفسها «آخرًا» لتوجه إليه عداءها مثال على ذلك الاشتراكية التي خاصمت الرأسمالية، البروليتاريا في مواجهة البرجوازية.

يذهب لويس ألتوسير، كما أدورنو من قبل، إلى أن الأيديولوجيا هي الترياق الذي يضمن بقاء المجتمع، فكل مجتمع من المجتمعات لا يكف عن إنتاج أيديولوجيته الخاصة؛ لأنها الضامن الوحيد لبقائه، رغم كون الرباط الذي يربطها بالوعي رباط واهٍ جدًا، بحسب ألتوسير أيضًا. باختصار الأيديولوجيا وهم يساعد الناس على تحمل شدائد الحياة، لكن هل بات أحد يصدق هذا الكذب وتلك الوعود؟!