أقدام سمراء رفيعة تداعب كرة بالية ولا تفارقها تمامًا كالمغناطيس في طريقها إلى حجرين وكأنهما مرمى. طفل أفريقي لا يهدأ طوال اليوم في أزقة وشوارع كوناكري بغينيا. ينتهي من تلك المباراة ليذهب إلى الأُخرى، يهزم هذا الفريق فيلعب معه ويعطيه الأفضلية على الفريق الآخر.

والداه لا يستطيعان السيطرة عليه بالرغم من طيبته واحترامه لهما. يخوفهما المستقبل الضبابي لكرة القدم في مقابل المسار العلمي الأكثر استقرارًا إلى حد ما، لا سيما إذا كانت تلك الأسرة لا تمر بظروف مالية مستقرة. فالأم تعمل في بيع الماء البارد والعصائر المثلجة في شوارع كوناكري، والطفل يساعدها في عملها كل يوم.

أثناء العمل لا ينسى كرة القدم. تسقط تلك البرتقالة فيداعبها بقدمه حتى يستعيدها مرة أُخرى. يرمي أحد المارة زجاجة فارغة فيذهب ليركلها نحو هدف حدده في خياله لينطلق بعدها في الاحتفال وهو يرتدي قميص ستيفن جيرارد القائد التاريخي لليفربول الإنجليزي.

تغضب والدته وتخبره أن ركل كل شيء ومداعبته كأنه كرة شيء مجنون. الأمر كان يثير غضبها قليلًا، ولكنها لم تكن تعلم أن تلك الركلات ستكون سبب السعادة لها ولزوجها بعد أقل من 15 عامًا.

تلك المقدمة ليست خيالية ولا بها بعض الزيادات لإضفاء مزيد من الدراما على الأمر، بل هكذا كان الوضع بكل دقة كما جاء على لسان ذلك الطفل في حواره مع موقع «Goal» العالمي. إنه الغيني نابي كيتا لاعب وسط ليفربول الإنجليزي!


لن أرى أصعب من ذلك

كنا نلعب في أي مساحة متاحة في الشارع. نصدم السيارات بالكرة، ونتبارى بأقدام حافية أو بأحذية ممزقة في بعض الوقت؛ لذلك كنت أسعد كثيرًا بالهدايا التي لها علاقة بكرة القدم، سواء كانت أحذية أو قمصان أندية.

يبدو التصريح كلاسيكيًا بعض الشيء. فالصحافة دائمًا تحاول أن تبرز المعاناة في حياة لاعبي كرة القدم من أجل صنع الزخم. لكن المثير في حالة نابي كيتا هو ما أتبعه بعد ذلك التصريح.

يقول كيتا إن تلك الظروف كان لها الأثر الأكبر في جرأته الملحوظة بشدة داخل المستطيل الأخضر. فقد كان قصيرًا وضعيف البنية، وسبيله الوحيد حينها لنيل احترام الآخرين في الملعب كان مجاراة لاعبين أطول وأقوى منه في غينيا. يعتقد نابي أن كم العنف الذي رآه في تلك المباريات لن يجعله يشعر الآن بأي شيء أسوأ من ذلك وهو مهيأ بدنيًا بشكل ممتاز الآن، ويلعب على ملاعب ممهدة مع زملاء لا يفوقونه بدنيًا بشكل كبير.

ذاع صيت نابي في كوناكري، وأصبح الناس يتحدثون مع والديه بشكل شبه يومي عن موهبة ابنهم الفذة، حتى اضطرا إلى تغيير وجهة نظرهما تجاه ابنهما ليخبراه ذات ليلة أنهما أصبحا متأكدين أنه يملك شيئًا مختلفًا؛ لذلك سيدعمانه بكل قوة في هذ المشوار على أمل تحقيق حلمه يومًا ما.

التحق نابي بنادي هوريا الغيني وهو في التاسعة من عمره، وبعدها بسنوات أوشكت الماكينة على الدوران، ولكنها توقفت مرة واحدة بشكل كاد ينهي مسيرة الطفل الذي سخر كامل طاقته لكرة القدم قبل أن تبدأ، فماذا حدث؟


آسف، عليك العودة إلى بلدك

يقول أرسين فينجر في تصريح سابق له إنه من العجيب أن قارة كاملة مثل أفريقيا لا تجد بها سائقين فورمولا وان مميزين إلا في جنوب أفريقيا. فهل افتقرت القارة قاطبة للموهبة في تلك الرياضة، أم أن أبناءها لم يجدوا من يعطيهم الفرصة؟ بالطبع لم يجد أبناؤها من يعطيهم الفرصة ويضعهم على المسار الصحيح في هذه الرياضة كغيرها من عديد الرياضات.

هذا تحديدًا ما انطبق على نابي كيتا حين خرج لأوروبا في أول مرة. حين بلغ الطفل الغيني السادسة عشرة من عمره رآه بعض الكشافين المحليين ذوي العلاقات مع المدربين في القارة العجوز، فأرسلوه للاختبار في فرنسا، وتحديدًا بنادي لوريان، ولكنه فشل في إقناع مسئولي النادي في التعاقد معه!

كل شيء كان مختلفًا عن غينيا، ما عدا اللغة. كنت ألعب مع أصدقائي، وفجأة وجدت نفسي ألعب مع غرباء يريدون إثبات أنفسهم أيضًا. بعد رفضي في تلك المرة اهتزت ثقتي بنفسي وسألت نفسي هل لعبت كرة قدم من قبل؟ شيء قاسٍ أن يكون حلمك على وشك التحقق، ثم تعود مرة أُخرى لنقطة الصفر.

لم يكن كيتا على دراية بأي من أساسيات كرة القدم الاحترافية، ففي فترة الاختبار كان المدربون يطلبون منه أشياء لم يسمع عنها من قبل، ويتناقشون معه بمصطلحات تطرق أذنيه للمرة الأولى. لم ينشأ نابي في أكاديمية، ولم يتعامل مع مدربين يلقنونه تلك الأساسيات كأقرانه الأوروبيين في تلك الاختبارات. حديث أرسين فينجر يثبت صحته يومًا تلو الآخر!

افتقار كيتا لأبسط أدوات التكتيك كان السبب الرئيسي لرحيله عن فرنسا بعد انتهاء فترة الاختبارات. رحل، ولكنه قرر في نفسه أن يعود يومًا ما. هو يريد اللعب في هذا المستوى الاحترافي، ليس فقط لحبه كرة القدم، ولكن لتحقيق حلم والديه ونقلهما إلى مستوى اجتماعي آخر.


العودة المنتظرة

بعد عامين، وحين بلغ عامه الثامن عشر عاد نابي كيتا للاختبار في فرنسا مرة أُخرى، ولكن هذه المرة من خلال بوابة نادي لومان، الذي كان أول نادٍ يقدر إمكانيات نابي الفنية بعيدًا عن بعض العيوب العائدة بالأساس لانعدام فرصه في التأسيس الصحيح.

ولسوء حظه كان نادي لومان على حافة الإفلاس، فلم يستطع التعاقد معه، لكن أحد مسئولي النادي رشح نابي للمدير الفني لنادي إستر الفرنسي، الذي تعاقد معه لثلاثة مواسم في عام 2013. كانت سعادة كيتا غامرة بالطبع بعد هذا العقد فكافأهم بهدف وأسيست في أول مباراة له مع الفريق أمام نيم الفرنسي.

مثّلت تلك المباراة تحديًا خاصًّا بالنسبة لي. أردت أن أثبت أنني أستطيع اللعب هنا، في أوروبا.

لم يمر سوى موسم واحد له مع الفريق، شهد تألقًا كبيرًا من متوسط الميدان الغيني، حتى تعاقد معه نادي ريدبول سالزبورغ النمساوي الذي كان يلعب له النجم السنغالي «ساديو ماني».

في البداية كانت الأمور صعبة، ولم أبدأ أساسيًا في المباريات، وهذا جعل الأمور أصعب. ساديو ماني طلب مني الهدوء، وقال لي إن فرصتي قادمة لا محالة، وحين تأتي فإنني لن أفرّط فيها، وهذا بالفعل ما حدث.

يفسر لك ذلك التصريح العلاقة القوية بين ماني وكيتا في ليفربول. ففي أحد اللقاءات الصحفية مؤخرًا لمحمد صلاح وساديو ماني معًا، قال صلاح إن ماني شخص لا يهتم كثيرًا بتكوين الصداقات، ولا يخرج معهم بعد التمرين حتى أتى نابي إلى ليفربول، فتغير ساديو ماني للأفضل.

لعب كيتا موسمين مع سالزبورغ حتى جاءه عرض من نادي لايبزج الألماني في بداية موسم 2016 / 2017، ومن هنا انطلق الصاروخ الذي كان محط أنظار العديد من الأندية الأوروبية حتى نجح ليفربول في الظفر بخدماته.

كريستيان هايدل المدير الرياضي بنادي شالكة بعد مباراة الفريقين موسم 2017 / 2018.


لست غريبًا عن الأنفيلد

لايبزج لعبوا أمامنا بـ 12 لاعبًا. أنا أعتبر أن نابي كيتا لاعبان وليس لاعبًا واحدًا، المردود البدني والأدوار التي يقدمها غير مفهومة.
حينما أبلغت والدي برغبة ليفربول في ضمي قضى وقتًا طويلًا يحدثني عن نهائي إسطنبول والمشاعر التي شعر بها في تلك الليلة.

جاءت انطلاقة كيتا مع ليفربول في بداية الموسم مبشرة للغاية، ثلاثية «ميلنر-كيتا-فينالدوم» التي اعتمد عليها كلوب في الأربع الجولات الأولى بالبريميرليج حققت نجاحًا كبيرًا ونالت إطراءات عديدة، لكن التعليق الأبرز على أداء كيتا في تلك المباريات كان: «نشعر كأنه يلعب في الأنفيلد منذ سنين».

المفارقة أن نابي كيتا ليس غريبًا عن الأنفيلد منذ أن كان صغيرًا بالفعل. فوالده هو أحد الجماهير «المجنونة» بالنادي الإنجليزي منذ زمن طويل، وفقًا لتعبير اللاعب الغيني. كذلك حين كان صغيرًا كان ليفربول هو النادي الأكثر شعبية في كوناكري في ذلك الوقت، فكان يرتدي قميص النادي ويشجعه تأثرًا بوالده ورفاقه. وبالرغم من أن والده كان يلقبه بـ «ديكو» نظرًا لتشابه أسلوب اللعب بينهما، إلا أنه كان يخبره دائمًا أنه يتمنى أن يراه مثل ستيفن جيرارد.

حينما كنت طفلًا كنت أشاهد دوري الأبطال في التلفزيون، كنت أشاهد تشابي ألونسو يمرر الكرات في الملعب عرضًا وطولًا. وفجأة وجدت نفسي ألعب أمامه في نفس الملعب. في تلك اللحظة شعرت أني قد قطعت مسافة مهمة جدًّا في مسيرتي، ولكنني لم أنسَ هؤلاء الذين ما زالوا يلعبون كرة القدم في شوارع كوناكري بدون أحذية، ولا زالوا يصدمون السيارات بالكرة، لن أنسى أبدًا من أين أتيت.