استسلمت القوات الأرمنية في إقليم ناجورنو كاراباخ لجيش أذربيجان، وتم وقف إطلاق النار، الأربعاء، بعد يوم من القتال، وأعلنت باكو استعادة السيادة على الإقليم ودخلت قواتها المسلحة إلى المنطقة.

وعلى الرغم من أن الإقليم معترف به دوليًا كجزء من دولة أذربيجان، فإنه ظل في أيدي الأرمن منذ توقيع هدنة عام 1994، وتم تهجير أكثر من مليون شخص من سكانه المسلمين الأذريين بعد مجازر خوجالي عام 1992 التي ارتكبها الأرمن وراح ضحيتها مئات القتلى وشهدت فظائع إنسانية مروعة.

لكن بعد هزيمة الأرمن الأسبوع الماضي، أعلن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، أن بلاده مستعدة لاستضافة النازحين من ناجورنو كاراباخ في أماكن أعدت لاستقبال 40 ألف أسرة، لكنه أشار إلى عدم وجود «أي تهديد مباشر» للأرمن هناك، داعيًا لإبقاء 120 ألف أرمني «في منازلهم في ظروف كريمة وآمنة».

وأضاف أن أكثر من 10 آلاف شخص توجهوا إلى مطار ستيباناكيرت، منذ يوم الأربعاء، في انتظار ترحيلهم.

وأعلنت موسكو أن قواتها التي تحتفظ بقاعدة عسكرية مجاورة للمطار نجحت في إجلاء 5 آلاف شخص.

السر في زانجيزور

يُعزى اندلاع المعارك الأخيرة إلى فشل المفاوضات بين أرمينيا وأذربيجان حول ممر زانجيزور، وهو ممر نقل مقترح يمر عبر وادي نهر آراس في مقاطعة سيونيك وهو شريط حدودي في أقصى جنوب أرمينيا على الحدود مع إيران، ليربط بين شطر جمهورية أذربيجان الشرقي الذي يشمل معظم البلاد والغربي الملاصق لتركيا ويسمى إقليم «ناختشيفان» أو «نخجوان».

لكن أرمينيا رفضت التنازل عن سيادتها على هذا الشريط الحدودي فظلت أذربيجان تحافظ على اتصالها بنخجوان عن طريق إيران، واتصالها مع حليفتها تركيا عن طريق أراضي جورجيا.

وبسبب اختلاف باكو ويريفان حول مفهوم الممر وتعريفه ووجود نقاط المراقبة وجنسية الحراس الذين سيسيطرون على تلك النقاط،

لم يتم فتحه أبدًا، فهددت باكو بفتحه من خلال التدخل العسكري واحتلال جنوب أرمينيا.

وقد نجحت باكو في تحرير معظم أراضيها المحتلة عام 2020 باستثناء منطقة ناجورنو كاراباخ في قلب أذربيجان، فتم الاتفاق على فتح طريق يربطها بأرمينيا اسمه ممر «لاتشين».

ولم ينص اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب بين أرمينيا وأذربيجان على مساحة محددة لأي ممر، حيث دعت النقطة 9 فقط إلى فتح خطوط النقل المحجوبة سابقًا، ففسرت الدولتان هذه النقطة بطرق مختلفة، فرأت باكو أن معنى ذلك تسليمها ممر زانجيزور، بينما فسرته يريفان برفع الحظر عن خطوط الطرق والسكك الحديدية القائمة بالفعل.

ولما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، أغلقت أذربيجان ممر لاتشين الذي يربط إقليم ناجورنو كاراباخ بأرمينيا، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، ومنذ ذلك الوقت تصاعدت التوترات، وحشد الجانبان قواتهما على الحدود منذ أسابيع، وانتشرت التكهنات بقرب نشوب نزاع عسكري بسبب إغلاق ممري لاتشين وزانجيزور.

وسبق أن حشدت إيران قواتها أكثر من مرة لتهديد أذربيجان ومساندة موقف أرمينيا الرافض لتسليم ممر زانجيزور، وأعلنت طهران مرارًا أنها لن تتسامح مع أي تغييرات جيوسياسية في المنطقة ورفضها لأي مساس بخريطة الحدود، لأن من شأن ذلك أن يغلق تواصلها البري مع حليفتها أرمينيا، ويمنح تركيا نفوذًا كبيرًا في المنطقة.

وبحسب وكالة إرنا الإيرانية الحكومية، فإنه بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في موسكو عام 2020، سعت باكو بالتنسيق مع تركيا إلى فتح معبر زانجيزور لكن بسبب التوترات الإقليمية وموقف إيران ضد تغيير الحدود الدولية، تم التخلي عن هذه الخطة لصالح التركيز على تحرير كاراباخ.

ثمن خسارة روسيا

بعد ظهر الثلاثاء الماضي، أطلقت أذربيجان ما سمته «عملية مكافحة الإرهاب» في كاراباخ، وقالت إنها أبلغت روسيا وتركيا بذلك مما أحدث صدمة كبيرة في جميع أنحاء المنطقة.

فقد لعبت روسيا منذ فترة طويلة دور الضامن الأمني لأرمينيا، بما في ذلك إدارة التوترات حول ناغورنو كاراباخ، لكن في الأشهر الأخيرة، تدهورت العلاقات التي كانت ودية بين أرمينيا وروسيا بشكل حاد، حيث شكك رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، علناً في مصداقية حماية روسيا بسبب انشغالها بغزوها لأوكرانيا، وقرر إجراء تدريبات عسكرية مع الولايات المتحدة، ووعد بتنويع شركاء يريفان الأمنيين، واتهم قوات حفظ السلام الروسية بالفشل، مما أثار استياء روسيا التي اتهمته بجحود الجميل، وأتاح لأذربيجان الفرصة لممارسة مزيد من الضغوط من أجل تحرير ناجورنو كاراباخ بعد أن أسهم الانحياز الأرميني للغرب في تراجع دعم روسيا لأرمينيا؛ فقبل أيام من تصعيد يوم الثلاثاء، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ردًا على سؤال أحد الصحفيين حول التوترات المتزايدة في القوقاز: «إذا اعترفت أرمينيا نفسها بكاراباخ كجزء من أذربيجان، فما دخلنا بذلك؟».

وقد أشار غونتر فيلينغر، رئيس اللجنة الأوروبية لتوسيع حلف شمال الأطلسي، إلى أن انضمام أرمينيا المحتمل إلى الحلف يعكس رغبة أمريكا وأوروبا في عزل روسيا في القوقاز وربما تكرار موقف مماثل لما حدث في أوكرانيا، وقد اشتعلت حرب كاراباخ الأخيرة بعد أيام من مطالبة فليلينغر بانضمام يريفان للناتو.

وفي وقت سابق من هذا الشهر، قررت أرمينيا، التي كانت حليفاً وثيقاً لموسكو، إرسال مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا للمرة الأولى منذ بداية الغزو الروسي، وكتب المحلل السياسي الموالي للكرملين سيرجي ماركوف على تيليغرام: «لقد خانت القيادة الأرمنية روسيا منذ فترة طويلة، أصدقاء أرمينيا الرئيسيون الآن هم أعداء روسيا: فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة».

وفي أوائل سبتمبر/أيلول الجاري، قبل التدريبات مع الولايات المتحدة، سحبت أرمينيا ممثلها لدى منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، وهو تحالف يضم ست دول سوفيتية سابقة برئاسة روسيا، بعد اتهام الكتلة بعدم القيام بدورها.

وشيئًا فشيئًا بدا أن مصالح روسيا باتت أكثر توافقاً مع أذربيجان مقارنة بأرمينيا المتطلعة للغرب؛ كما أن روسيا تشترك في الحدود مع أذربيجان وتحتاج إليها لإنشاء ممر تجاري بين الشمال والجنوب إلى الخليج العربي، بسبب العقوبات الغربية بسبب غزو أوكرانيا.

لكن الأمور لم تسر على وتيرة واحدة، بل أعلنت موسكو، الأربعاء، أن مركبة عسكرية تقل قواتها احفظ السلام تعرضت لإطلاق نار وقتل طاقمها خلال الهجوم الأذربيجاني، فتفاقم الغضب لدى بعض الدوائر الروسية، وأظهرت صور نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي الزجاج الخلفي للمركبة التي كان يستقلها الجنود الروس مليئاً بثقوب الرصاص.

وكتب زيفوف زد، وهو واحد من عديد من المدونين العسكريين الروس الذين برزوا كمعلقين على الحرب الأوكرانية: «هزمت أذربيجان كاراباخ بطعم واضح للدماء الروسية على شفتيها»، ووعدت باكو بالتحقيق في الأمر.

أزمة أرمينيا

مثلما حدث بعد هزيمة 2020، اندلعت من جديد اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين في العاصمة الأرمينية، يريفان، الأربعاء، طالبوا باستقالة رئيس الوزراء نيكول باشينيان.

وسادت المشاعر المناهضة لروسيا في أرمينيا، التي كانت تعد تقليدياً واحدة من أقرب حلفائها، وتجمع المتظاهرون خارج السفارة الروسية في يريفان، وقالوا إنهم يشعرون بالخيانة بسبب عدم إيقاف موسكو لأذربيجان، ورددوا شعارات مناهضة لموسكو، وانتقد سيرجي ماركوف، مستشار الكرملين السابق، الوضع قائلاً: «هذا اتجاه خطير.. يتم تأجيج الهستيريا المناهضة لروسيا».

وفي تلميح إلى الخيانة، قال مسؤولون أرمن، الثلاثاء، إن موسكو لم تحذرهم من خطط أذربيجان بعد أن قالت باكو إنها أعطت روسيا إشعاراً مسبقاً، لكن ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، قال إنه لا يستطيع تأكيد مزاعم باكو بشأن الإخطار المسبق عن الهجوم، وأعربت وزارة الخارجية الروسية عن «قلقها العميق» ودعت الجانبين إلى وقف القتال والعودة إلى الحل الدبلوماسي.

وأشار بعض المسؤولين الروس، مثل ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن، إلى أنهم سيكونون سعداء بإطاحة باشينيان، الذي يواجه الآن دعوات من منافسيه للاستقالة، وكتب ميدفيديف، الثلاثاء، الذي أرسلت فيه أذربيجان قواتها إلى قره باغ، «خمن ما هو المصير الذي ينتظره؟»، بعد أن نشر قائمة بما اعتبرها أخطاء باشينيان، بما في ذلك «مغازلة الناتو»، وقالت مارجريتا سيمونيان، أحد أبرز مديري وسائل الإعلام الحكومية في روسيا وهي من أصل أرمني، إنه لا ينبغي على موسكو أن تشرح تصرفاتها في كاراباخ لباشينيان، الذي اتهمته ببيع شعبه.

وقد بدأت العلاقات الأرمنية الروسية تتدهور بشكل جدي في ربيع عام 2018 عندما أطاحت ما يسمى «الثورة المخملية» بالحرس القديم الفاسد المتحالف مع روسيا وأتت بالإصلاحي الشاب نيكول باشينيان إلى السلطة.

وبذل باشينيان قصارى جهده لطمأنة موسكو بشأن ميوله السياسية، وتعهد ببقاء أرمينيا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي واحتفاظها بالقاعدة العسكرية الروسية على أراضيها.

وقبلت روسيا باشينيان لكنها لم تثق به قط، حيث رأت صعوده إلى السلطة عام 2018 في سياق «الثورات الملونة» في الفناء الخلفي لها الذي أوصل الأنظمة الموالية للغرب إلى السلطة.

وتُكِن موسكو كراهية شخصية لباشينيان كزعيم وصل إلى السلطة بثورة شعبية، وقال فلاديمير باستوخوف من جامعة كوليدج لندن: «تأمل موسكو في حدوث ثورة مضادة سريعة في يريفان وتفترض أن الهزيمة في كاراباخ ستعجل بها».

وفي عام 2020، عندما شنت أذربيجان هجومها لاستعادة الأراضي التي خسرتها في حرب كاراباخ الأولى في أوائل التسعينيات، لم تدافع روسيا عن أرمينيا، ولم تتدخل إلا للتوسط في وقف إطلاق النار الذي شهد استعادة باكو لمعظم الأراضي التي كانت تسيطر عليها القوات الأرمينية، ونشر الروس قوة لحفظ السلام قوامها 2000 جندي في ناجورنو كاراباخ لمدة خمس سنوات.

واستمر الوضع الراهن الهش على الأرض طوال الفترة التالية، وانخرطت أرمينيا وأذربيجان في محادثات سلام دورية على مسارين منفصلين لم يتم التنسيق بينهما؛ أحدهما بوساطة روسيا والآخر بوساطة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن لم يحدث تقدم ملموس في القضية.

لكن قبل يومين فقط من غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، أضفت باكو وموسكو الطابع الرسمي على «التحالف» الذي قال أحد المراقبين إنه يهدف إلى «ضمان عدم تورط أذربيجان في أي تدخل غربي مناهضة لروسيا».

ووقعت اشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا في سبتمبر/أيلول 2022، وناشد باشينيان روسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي المساعدة، لكن لم يتلق أي شيء.

ونمت المشاعر المعادية لروسيا في أرمينيا، مما دفع يريفان إلى طلب أي مساعدة ممكنة من الغرب. وبناءً على ذلك، تحولت روايات وسائل الإعلام الروسية بشكل حاد ضد أرمينيا، وعلى مدار الأشهر التالية، رفضت أرمينيا استضافة تدريبات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ثم خفضت رسميًا في وقت لاحق مشاركتها في الحلف.

وفي مايو/أيار، أثناء محادثات السلام، أعلن رئيس الوزراء الأرميني باشينيان صراحة أن يريفان مستعدة للاعتراف بناجورنو كاراباخ كجزء من أذربيجان بشرط توفير ضمانات أمنية «دولية» للسكان الأرمن في المنطقة، وفي يوليو/تموز، أعلنت روسيا للمرة الأولى أن الأرمن في كاراباخ لا بد أن يقبلوا الحكم الأذربيجاني، في تجاهل مقصود للضمانات الدولية التي تعني تدخلاً غربياً في المنطقة.

وبحلول أوائل سبتمبر/أيلول، بدأ القادة الأرمن يتساءلون بصوت عالٍ عن فعالية الشراكة مع روسيا، وقال باشينيان إن الرهان على روسيا من أجل أمنها «خطأ استراتيجي»، وأعقب ذلك زيارة زوجته آنا هاكوبيان، إلى كييف، وتسليم أول مساعدات إنسانية أرمينية إلى أوكرانيا منذ بدء الحرب، وبعد ذلك بأسبوعين، جاء الهجوم الأذربيجاني الشامل على ناجورنو كاراباخ.

والآن يبدو أن خسارة أرمينيا للإقليم من شأنها أن تسمح لها بالتخلي عن روسيا لتتحالف مع الغرب، لكن الحقيقة أن موسكو لا تزال تملك أدوات مهمة؛ فهي الوسيط الخارجي الوحيد في عملية محادثات السلام، وسواء كانت بالفعل تنسق مع أذربيجان أم لا، يمكن لموسكو التهديد بمزيد من التوغلات الأذربيجانية ضد يريفان؛ فباكو تطمح لإنشاء «ممر زانجيزور»، ومن السهل أن نرى سيناريو تتبنى فيه روسيا تفسير أذربيجان لشروط وقف إطلاق النار وتضغط على أرمينيا لقبول ممر يمر عبر أراضيها ولا تتمتع بالسيادة عليه.