التحق «نجيب محفوظ» بكلية الآداب لدراسة الفلسفة عام 1930، عاقدًا العزم على استكمال دراساته إلى مرحلة الدراسات العليا، وفور تخرجه بدأ في إعداد رسالة الماجيستير بعنوان مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف «مصطفى عبد الرازق»، لكنه ظل يعاني من صراع بين ميوله نحو الأدب ودراسته للفلسفة طوال فترة دراسته الجامعية وما بعد الجامعية. حيث كان قد بدأ في كتابة مقالات في الفلسفة والأدب وعلم النفس، وظل ذلك الصراع والتنازع حتى قرر التوقف عن إعداد رسالة الماجيستير في منتصفها، معترفًا بإحساسه أن كل تقدم فيها يزيد من حدة التمزق داخل نفسه.[1]

المزج والانتقال بين الفلسفة والأدب ظل حاضرًا بقوة في معظم أعمال نجيب محفوظ، وهو ما يعد نقطة محورية في تاريخه، ومرحلة أساسية لفهم أعماله.

هذا الانتقال من الفلسفة إلى الأدب يعد نقطة محورية في تاريخ نجيب محفوظ، ومرحلة أساسية لفهم أعماله الأدبية المتعددة، فقد اكتسبت أعمال محفوظ الروح الفلسفية من دراسته، بينما عبَّر حبه للأدب بأسلوب رشيق عن الموضوعات التي انشغل بها، والأزمات الوجودية التي تعرض لها، ولذلك اعتبر البعض أن شخصية «كمال عبد الجواد» في «ثلاثية القاهرة» هي انعكاس لأزمة نجيب محفوظ الوجودية[2]، فرؤية البطل لدور المثقف والفيلسوف في المجتمع وكذلك شكوكه تجاه المعتقدات القديمة وما ينتجه لنا العصر الحديث، تناولها الأديب في مقالاته التي نشرها من قبل في مجلات مثل المعرفة والمجلة الجديدة.

وهكذا فالمزج بين الفلسفة والأدب سواء في الموضوعات أو في المخيلة ظل حاضرًا بقوة في معظم أعمال نجيب محفوظ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فرؤية الكاتب الشخصية تتسلل في الكثير من الأحيان من خلال حوار الأبطال وتفاعل شخصيات رواياته، لتجيب عن أسئلته الخاصة.

تناول الأديب الشهير العديد من المفاهيم التي تناولتها الفلسفة والعلوم الإنسانية على حد سواء، من أهمها السلطة التي ظلت سمة أساسية حاضرة في أعماله الكبرى، كموضوع رئيسي للرواية أو كموضوع رئيسي في بناء الشخصيات، ولا يعد ذلك غريبًا لأحد أبناء جيله الذين تأثروا بدرجة كبيرة بفلسفة الحداثة، التي تمحورت حول التخلص من السلطة، وأحدثت رجّة كبيرة في الشرق والعالم القديم، وفتحت المساحة لنقد الأفكار القديمة.

والسلطة التي حاولت الحداثة أن تنحيها جانبًا هي السلطة الخارجية السابقة للتجربة الإنسانية، وهي الفكرة الأساسية التي أنتجتها مقولة «ديكارت» الشهرة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»[3] حيث بدأ إثبات الوجود من خلال إثبات الذات، وهو ما سيُحتِّم وجود علاقة بين الموجودات وبين الذات الإنسانية، وهكذا تصبح الذات الإنسانية هي المحور، وعليها أن تتغلب أو تستبعد أي حجة سلطة خارجة عن إدراكها. وبذلك يعد العلم والعقل وسيلة أساسية لإدراك الحقائق وتقويض سلطة الميتافيزيقا، بينما سيتم تهميش أو استبعاد وسائل معرفية أخرى.

إذا كانت الفلسفة تطرح الأسئلة، فبإمكاننا أن نقول إن الأدب يحاول طرح إجاباتها، وتشكيل زوايا لرؤية تفاعل الشخصيات مع تلك الأسئلة، وكذلك محاولاتها للحل في المعالجة الفنية.

ففي مقال كتبه نجيب محفوظ تحت عنوان: «احتضار معتقدات وتولد معتقدات»[4] يشير إلى أن المدنيات القديمة قامت على معتقدات ترسخت في وجدان شعوبها، لأنها كانت بمأمن في نفوسهم من النقد والبحث اللذين يولدان الشك والريبة، غير أن الوضع الحالي أصابه تغير بتسليط ضوء العقل على تلك المبادئ التي قامت بها تلك المعتقدات القديمة، ولذلك فإن العصر الحالي يعاني فيه الناس من الاضطراب والتخبط الفكري والمعرفي لأنهم يشهدون عصر احتضار وتولد معتقدات. ولذلك فالمقياس الذي علينا أن نتشبث به هو العقل والتطور العقلي، لأنه سيجعلنا نتوجه إلى الطريق الأصوب.

وإذا كانت الفلسفة تطرح الأسئلة، فبإمكاننا أن نقول إن الأدب يحاول طرح إجاباتها، وتشكيل زوايا لرؤية تفاعل الشخصيات مع تلك الأسئلة، وكذلك محاولاتها للحل في المعالجة الفنية. وهو ما يقوم به الأديب ذو الخلفية الفلسفية على وجه التحديد.

فقد تناول محفوظ السلطة الأبوية التي ظلت حاضرة بلا استبعاد رغم غيابها المادي، وأثر ذلك في شخصية «كامل لاظ» في روايته «السراب»، بينما كانت السلطة الأبوية الغاشمة مؤثرة بقوة في شخصية كمال عبدالجواد، إحدى الشخصيات الرئيسية في ثلاثيته، خصوصًا بعد اكتشافه زيف الشخصية الأبوية الوقورة، وهو ما سيجذبه إلى هاوية الشك، أو موقف اللاموقف الذي عبَّر عنه. وتظل «أولاد حارتنا» هي العمل الأضخم والأبرز في معالجته لمسألة السلطة، خصوصًا أن محفوظ طرح مسألة السلطة من الناحية المجتمعية، وليس من الناحية الذاتية أو النفسية.

ويجسد نجيب محفوظ إيمانه بالعلم والعقل على لسان بعض من أبطاله، بداية من أول أعماله الواقعية في «القاهرة الجديدة»، مرورًا بـ«خان الخليلي» و«بداية ونهاية»، ليتخذ الحديث عن العلم كحل وسبيل في مواجهة الخرافة والإيمان بالميتافيزيقا، موقف تتخذه شخصية من شخصياته في بنائه الواقعي، لكن يصل أوج تجسيده للعلم في شخصيته الشهيرة «عرفة» في روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا»، عرفة الذي أراد الاطلاع على سر «الجبلاوي»، كما أراد «بروميثيوس»، وكان سببًا في موت الجبلاوي، وتلك المقاربات توجهنا بدرجة كبيرة إلى الجزم أن عرفة جسَّد العلم الحديث، وبذلك يكون السرد الذي أراد محفوظ طرحه كنقد للسلطة الدنيوية قبل الميتافيزيقية، هو أن العلم ربما يكون سبيلًا للخلاص من سطوة فتوات الحارة الذين لا تتخلص منهم الحارة بشكل نهائي، حيث كان المحور الأساسي الذي دارت حوله حكايات «أولاد حارتنا» هو مصير أهل الحارة في ظل سطوة الفتوات، واستمداد سلطتهم وبطشهم من وجود الوقف وصاحبه، وتعليماته.

هذه الوثوقية في العقل والعلم تشكل بدرجة كبيرة وعي شريحة كبيرة من كبار مفكري القرن التاسع عشر في أوروبا، والقرن العشرين في الثقافة العربية، ولعل ترميز محفوظ للسلطة بفتوات الحارة، والجبلاوي بأنه صاحب الوقف، ومن رَضاهُ يضمن أبناء الحارة الحق والحصول عليه، مع استدعائه للروايات الدينية الكبرى، والاقتراب مع مساحات تصادمها مع السلطة التي كانت تقع في عصرها، كان تعبيرًا عن أفكار جيل واسع من المثقفين وحركة فكرية مثلتها شريحة من المثقفين في عصره، أو بالتحديد في عصر الاشتراكية، والإيمان بمبادئها.

إن إنتاجات نجيب محفوظ يمكن قراءتها من خلال كونه فيلسوفًا خسرته الفلسفة وكسبته الرواية العربية.

كانت «أولاد حارتنا» أطول روايات محفوظ الرمزية الواقعية، وتقع في منتصف قائمة أعماله يسبقها قائمته الشهيرة ويلحقها تجاربه الأدبية المتعددة والصغيرة نسبيًا من ناحية الحجم، ولعل ذلك يميز روايته بشكل أكبر من شهرتها التي اكتُسبت من الجدل الذي تم تسليطه حولها، خصوصًا عقب حصوله على «نوبل» وإشاعة أنه حصل على الجائزة بسبب روايته تلك، وكذلك عقب محاولة اغتياله، لكنه دافع دائمًا عن فكرته الأساسية التي طرحها من خلال الرواية وهي مفهوم السلطة.[5]

وهذا نموذج بسيط للغاية عن ارتباط الأدب بالفلسفة، وتعبير كل منهما عن المجتمع الذي ينتج ذلك الأدب، أو عقلية الأديب الذي يكتب، وبشكل خاص فإنتاجات نجيب محفوظ يمكن قراءتها من خلال كونه فيلسوفًا خسرته الفلسفة وكسبته الرواية العربية[6]، وهو ما حاول الكاتب تسليط الضوء عليه، ويمكن كذلك قراءة المجتمع المصري من خلالها، بالإضافة لتطور الرواية وأساليب السرد في الرواية، العربية عمومًا والمصرية بشكل خاص، حيث مال الأديب إلى التنويع في أساليب سرده، ما يجعل أعماله كنزًا لا ينضب للدراسات النقدية وإن كثرت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. «الأصوليات» للدكتور محمد صفار
  2. «الأصوليات» للدكتور «محمد صفار»
  3. «أجمل قصة في تاريخ الفلسفة» لـ«لوك فيري»
  4. المجلة الجديدة، عدد أكتوبر 1930
  5. لقاء مرئي نادر يجمع بين نجيب محفوظ والجمعية الفلسفية المصرية في قسم الفلسفة عام 1989
  6. د. حسن طلب: نجيب محفوظ فيلسوفًا (كتيب ملحق بمجلة إبداع)، خريف 2011 عدد 20، ص8.