يتوقف التاريخ كثيرًا عند معركة عين جالوت وما ترتب عليها من نتائج كان لها الأثر الكبير في صد الهجمة المغولية ووقف زحفها في المشرق الإسلامي. لكن الذي لا يعلمه كثيرون أن هذه المعركة سبقتها معارك أشد ضراوة وبسالة مهدت لنصر عين جالوت.

لكن المفاجأة في أن تلك المعارك لم تكن حربية على الإطلاق، بل كانت معارك ثقافية وحضارية، لولاها ما كان ذلك النصر.

قاد تلك المعارك إمام عصره وأعجوبة زمانه الإمام المتصوف «نجم الدين الكبرى»، الذي أدرك ما غفل عنه الناس وفهم ما أغلق عليهم، فوضع يده على الداء وعرف الدواء.


البداية في خوارزم

ولد في خوارزم سنة 540 هجرية، أُطلق عليه لقب «الكبرى» لنابغته ونباهته، فكان في صغره إذا عرضت مسألة ما على الطلبة بادر بالإجابة بطلاقة وسعة علم، فقالوا عليه «الطامة الكبرى»، ثم حذفوا الطامة ونادوه بالكبرى، فاشتهر بها وكان له من لقبه حظًا كبيرًا.[1]

وصفه الذهبي بقوله: «طاف البلاد، وسمع، واستوطن خوارزم، وصار شيخ تلك الناحية، وكان صاحب حديث وسنة، ملجأ للغرباء، عظيم الجاه، لا يخاف في الله لومة لائم».[2]

درس الحديث والفقه والتفسير، وعني بمذهب الشافعي وارتحل في طلاب العلم وطاف بالكثير من البلاد فنزل مصر وبغداد ودمشق، وجالس علماءهم ونهل من علمهم، ثم عاد إلى خوارزم، وقد عظم أمره وذاع صيته، وعُرف عنه تصوفه وزهده، فأقبل عليه الناس، وأصبح له طلاب ومريدون، وصار مقصد الملوك والعوام. وفي تلك الأثناء حلت على العالم الإسلامي نكبة ما شهد مثلها قبل، حتى أن عوام الناس تنادوا فيما بينهم أن يوم القيامة قد حان.[3]

لما وقع الخلاف والقتال بين جنكيز خان ومحمد بن خوارزم شاه بسبب حماقة الأخير وتهوره، واجتاحت جيوش المغول بلاد خوارزم، فرت من أمامهم الجيوش وانهدمت أمامهم الحصون، حتى كانوا كالنار لا تأتي على شيء إلا أكلته ولا حيا إلا أهلكته، واستقر في أذهان الناس أنه لا يقوم لهؤلاء قائم إلا كسروه، ولا عسكر إلا أبادوه، حتى قال المؤرخون إنه لم تكن طامة على المسلمين أعظم من طامة المغول.

في ذلك الوقت كان العالم الإسلامي يعاني من انحطاط سياسي وعسكري مخجل، وقد تمزقت الخلافة العباسية إلى عدة دويلات دب بينهم الخلاف والاقتتال، حتى الخليفة العباسي لم يعد له من سلطة فعلية إلا على بغداد ونواحيها، وكانت مصر والشام تحت حكم الأيوبيين الذين تنازعوا أيضًا الحكم فيما بينهم، بينما كانت دولة الأتراك السلاجقة في آسيا تقترب من نهايتها.


سقوط خوارزم

ضرب المغول حصارهم على خوارزم وتجهزوا لإبادة أهلها، وفي ظل تلك الأحداث المؤلمة الرهيبة، هرع الناس إلى إمام عصره وفقيه زمانه نجم الدين الكبرى، يقولون له: لقد حلت بالمسلمين نكبة ما سمعنا بمثلها قط، فلو دعوت الله يرفعها. فوعظهم الرجل وعظًا شديدًا، وأمرهم بالجهاد والحركة وعدم الاستكانة، وقال كلمته الخالدة:

إن هذا بلاء لا ينفع فيه دعاء ولكن قوموا فقاتلوا.

كان نجم الدين الكبرى يدرك أن الهزيمة العسكرية حتمية أمام المغول، وأن موت أهل تلك البلدان لا مفر منه حتى لو سلموا بلادهم، لذا أمرهم بالجهاد والقتال وطلب الموت الكريم في ساحة المعركة، بدلاً من التنكيل والذبح في الأسر.

جمع نجم الدين الكبرى تلامذته وخواصه، ثم اختار منهم فئة بعينها، علم من خلال صحبتهم له علمهم وحماسهم وسعة بصيرتهم وعلو همتهم، وأعطاهم مهمة ووظيفة لا يمكن لعقل أن يتصورها في ذلك الوقت.


الكنز الإسلامي

في حالات الضعف والانكسار تلجأ الأمم والحضارات لإزالة الصدأ عن جواهرها وكنوزها الفكرية والثقافية، فإن نجحت في ذلك واستطاعت تقديم مشروع حضاري يلامس همومها ويعالج موطن الداء، كانت إلى الاستفاقة والنهضة أقرب، وكان نجم الدين مدركًا وعارفًا بأهمية الجواهر التي كانت بين يديه.

أمر نجم الدين الكبرى تلامذته بالتفرق في البلاد بعيدًا عن خوارزم وأن يعملوا على نشر الإسلام ونقل الحضارة الإسلامية إلى المغول، كانت المهمة مستحيلة تمامًا ومحفوفة بالمخاطر، فمن ذا الذي يجرؤ على دخول بلاد المغول والدعوة إلى دين يحارب المغول أهله ويفتكون به، لكن تلامذة نجم الدين أطاعوا أمره وتفرقوا في البلاد كما أمر.


فقه العصر

إن ما فعله نجم الدين الكبرى يدل على مدى فهمه للواقع والظروف المحيطة به، فالعالم الإسلامي في ذلك الوقت كان مهلهلًا وممزقًا على المستوى السياسي والعسكري، فالخلافة العباسية تمزقت دولها وأراضيها إلى دويلات متناحرة، لا تقوى أي منهم على مجابهة المغول والتصدي لهم، فتفوق المغول العددي والعسكري كفيلان بحسم أي معركة لصالحهم.

لكن كان هناك ميدان انفرد به المسلمون في تلك الحقبة وأجادوا فيه أيما إجادة، كان ذلك الميدان هو ميدان العلم والثقافة والنبوغ الحضاري، فعلى الرغم من كل مصاعب ونكسات الأمة في ذلك التوقيت إلا أن النهضة الثقافية الحضارية كانت تسير بعيدًا بمنأى عن ويلات السياسة وهزائم العسكر، حتى أنه في ظل تلك الانتكاسة والهزائم العسكرية ظهر علمان من أعلام الدعوة الإسلامية وكان لهما التأثير الكبير في حركة التاريخ الإسلامي؛ أولهما نجم الدين الكبرى، والثاني العز بن عبد السلام. وقد أكمل الثاني ما بدأه الأول، فكانت حركة نجم الدين دعوية – ثقافية، وكانت حركة العز بن عبد السلام دعوية – سياسية.

أدرك نجم الدين مصدر قوة الأمة وعرف سلاحها البتار، فوجّه جهوده لاستخدام ذلك السلاح واستثماره. فقرر القيام بمعركة إستراتيجية هامة، ألا وهي اختراق المغول ثقافيًا وفكريًا، من خلال نشر الإسلام والحضارة الإسلامية داخل المغول أنفسهم، مستغلًا بذلك أمرين في غاية الأهمية؛ أولهما التسامح الديني عند المغول. فعلى الرغم من قسوة المغول وفظاعتهم في حروبهم إلا أنهم اتسموا بتسامح ديني نوعًا ما، وانتشر بين قادتهم عدة ديانات كالمسيحية والبوذية، وثانيهما رغبتهم الهائلة في طلب المعرفة والتعرف على ثقافات جديدة. ولذلك السببين كان البلاط المغولي يعج بالكثير من المسلمين والنصارى، وعمل الكثير منهم في خدمة المغول.


استشهاد نجم الدين الكبرى

أحاط المغول بخوارزم، فتقدم الشيخ الصفوف بنفسه، ضاربًا للناس أسمى آيات البطولة والتضحية، واقتحم آتون المعركة وهو يقاتل المغول حتى أصابه سهم في صدره، فنزعه ورمى به نحو السماء، وفار الدم وهو يقول:

إن أردت فاقتلني بالوصال أو بالفراق» [4]

وهكذا استشهد الإمام الكبرى وقد تجاوز عمره الثمانين عامًا بعد أن أدى رسالته الجهادية والدعوية. بينما انطلق تلامذته النجباء في تنفيذ مهمتهم، وكان أكبرهم جهدًا وأكثرهم تأثيرًا سيف الدين الباخرزي.


التلميذ النجيب

وصل سيف الدين الباخرزي – شيخ زاهد عارف، كبير القدر، إمام في السنة والتصوف – إلى مدينة بخارى بعد أن صارت حطامًا، فأقام هناك والتحق به الناس من كل مكان، وأخذ في الدعوة إلى الله، فكثر أتباعه ومريدوه، حتى سمع به أحد قادة المغول ويسمى «بايقوا» فانزعج من سيف الدين وخشي من تزايد والتفاف الناس حوله, فأراد قتله، وأرسل إليه جنده فحملوه إليه مقيدًا، فجزع الناس لحال شيخهم، فقال الرجل مطمئنًا لهم:

وشاء الله أن يصنع للباخرزي «كرامة»، فمات بايقوا بينما الشيخ في طريقه إليه، فخافه المغول وأطلقوا سراحه، وانتشرت قصة «الكرامة» بين المغول حتى عظم بينهم أمر الشيخ الباخرزي فلم يجرؤ أحدهم على النيل منه أو إيذائه، بل قصدوه بالهدايا والعطايا وتوددوا إليه، وانطلق الرجل في إكمال مهمته المقدسة.[6]

وصلت أنباء سيف الدين وأخباره إلى كل مكان، وسمع به أحد أحفاد جينكز خان واسمه بركة خان وكان أحد ملوك المغول – بركة خان وهولاكو أبناء عمومة – فارتحل الرجل في طلب الشيخ ولقائه.

ملك الباخرزي لب بركة خان، فلم يقم من مكانه إلا وقد شرح الله صدره للإسلام ونطق بالشهادتين. وعاهد الشيخ على إظهار الدين وتعظيمه، وأنجز بركة وعده وحمل سائر قومه على الإسلام فأسلموا جميعًا، واتخذ المساجد والمدارس في جميع بلاده، وقرّب العلماء والفقهاء ووصلهم، وكان يحملهم إليه من أقطار العالم الإسلامي ويبالغ بالإحسان إليهم وبذل جهوده لحماية العالم الإسلام من شر بني جلدته.[7]


التحول التاريخي

كانت نية المغول متجهة نحو بغداد، عاصمة الخلافة، وكان هولاكو يتحين الفرصة المناسبة لينقض عليها، ومن أجل حماية بغداد نصح الباخرزي بركة خان بأن يدخل في تحالف مع الخليفة العباسي وأن تكون بينهم مراسلات وسفارات، حتى يشعر باقي المغول بوجود ظهير قوي للخلافة داخل البيت المغولي نفسه.

ولم يدخر بركة خان جهدًا في سبيل ذلك، وأخذ يعظم الخليفة في عيون المغول ويخوفهم من اجتياح بغداد، حتى استطاع أن يجبر هولاكو على تأخير غزوه لبغداد فترة طويلة. وبدلًا من أن يستثمر الخليفة العباسي ذلك الوقت ويعيد ترميم دولته وتجهيز جيشه، انغمس الرجل في الملذات واللهو غير عابئ بالخطر الذي يتهدده، كذلك لم يستغل العالم الإسلامي تلك الفرصة ويحاول التعافي من جراحه ونكباته.

كان هولاكو مصرًا على اجتياح بغداد، وكان يتحين الفرصة المناسبة لذلك، حتى تسنى له فعل ذلك فدمر بغداد سنة 656 هـ 1258م. وكان قد حاصرها بجيش رهيب يفوق تعداده 200 ألف مقاتل، ثم توجه الجيش بعد ذلك نحو مصر والشام، وكان سقوطهما أمرًا حتميًا، لما كان يسودهما من انحلال وتفكك سياسي.


بركة خان يتحرك

إني سأرى بعد هذا الذل عزًا. [5]

لكن فجأة وصلت الأخبار من الصين بوفاة الخان الأعظم للمغول «مونكو خان»، واشتدت المنافسة على خلافته ما بين ورثته.

وكان بركة خان ينقم على هولاكو فعلته وتدميره لعاصمة الخلافة وقتل الخليفة، يقول الذهبي في ذلك: «ومن أعظم الأسباب لوقوع الحرب بين بركة خان وبين هولاكو كونه قتل الخليفة»[8]، فوجد الفرصة سانحة للتدخل لحماية المسلمين فتحركت قواته وأعلن الحرب على هولاكو، مما اضطر الأخير للعودة مسرعًا مصطحبًا معه غالبية الجيش الذي شارك في تدمير بغداد، ولم يترك لنائبه «كتبغا» غير حوالي 20 ألف مقاتل فقط من بين 200 ألف.

كانت فعلة بركة خان تلك من أعظم حسناته، فأشعل حربًا طاحنة ضد هولاكو شغله بها عن المسلمين، وكسرهم كسرات شنيعة. ولولا هذه الكسرة لكان هولاكو استولى على سائر بلاد الشام ومصر وغيرها وأباد العالم الإسلامي عن آخره.[9]

وفي عين جالوت، لم يستطع الجيش المغولي، ضعيف العدد والعتاد، مواجهة المماليك الذين استنفروا من حولهم من البلاد لإيقاف تلك الهجمة الشرسة على المشرق، وتكللت جهودهم بالنصر الذي خطط له ووضع نبتته الأولى الشيخ نجم الدين الكبرى.

وأكمل بركة خان مهمته التي تعاهد بها مع الشيخ سيف الدين الباخرزي فنشر الإسلام ووطد له، وعظم أمره، وكان بينه وبين سلطان مصر «بيبرس» مراسلات وتحالفات، واللافت في إحدى رسائله لبيبرس تلك الهزة العنيفة التي أحدثها الإسلام فيه، وغيرته من النقيض إلى النقيض، فلم يعد ذلك البدوي الجاف القاسي، الذي يطمح في السلب والنهب، بل أصبح يقاتل أقرب الأقربين له من لحمه ودمه كفًا لعدوانه عن الناس وحماية للإسلام وأهله، فقال في رسالته:

فليعلم السلطان أني حاربت هولاكو الذي هو من لحمي ودمي لإعلاء كلمة الله العليا تعصبًا لدين الإسلام لأنه باغٍ والباغي كافر بالله ورسوله. [10]

لم يكن ذلك التغيير الذي حدث للمغول وتحولهم من أعداء للإسلام إلى قلاع تحميه وتنصره وليد صدفة أو حظ عابر، بل كان طريقًا شاقًا تكبد فيه نجم الدين الكبرى وتلامذته المصاعب والآلام حتى نجحوا في تحقيق هدفهم.

لقد كانت حركة الكبرى الدعوية إثباتًا وتأكيدًا أن الثقافة والحضارة قادرتان على الانتصار والصمود مهما طال الوقت، فمكاسب المعارك الحربية وقتية لها زوال، لكن مكاسب الحرب الثقافية والحضارية طويلة الأمد عصية على الانكسار، لتكون تلك المعركة الحضارية وبحق من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، «44/393».
  2. الذهبي، العبر في خبر من غبر «3/177».
  3. ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، «7/142».
  4. الصفدي، الوافي بالوفيات، «15/163».
  5. الذهبي، سير أعلام النبلاء، «16/ 489».
  6. نهر الذهب في تاريخ حلب للغزي، «3/115».
  7. الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، «15/111».
  8. الغزي، نهر الذهب في تاريخ حلب، «3/116».
  9. المرجع السابق.