كانت غزة هدفًا رئيسًا للحملة الفرنسية بعد هزيمة المماليك في مصر وفرارهم إليها، إذ نظر إليها نابليون بونابرت باعتبارها بوابة ينفذ منها لاحتلال الشام وتأمين وجوده في مصر، لذا توجه إليها وسُرَّ باقتحامها، لكن الرياح في نهاية الأمر لم تأتِ بما اشتهته سفنه. 

ويذكر عارف العارف، في كتابه «تاريخ غزة»، أنه عندما وطد نابليون أقدامه في مصر، أخذ يفكر في الاستيلاء على فلسطين وسوريا، فغادر مصر في ربيع 1799، واجتاز الصحراء، ثم توجه إلى غزة بصفتها أهم مركز حربي واقتصادي في نظر الجيوش في هذه المنطقة، إذ كان يعتقد أنها ذات قيمة حربية من حيث الدفاع عن مصر، لدرجة أنه قال عنها: «إنها المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا».

خطاب نابليون لأهالي غزة

قبل أن يشتبك نابليون بقتال في غزة، أو حولها، أذاع منشورًا جاء فيه: «من طرف بونابرتة أمير الجيوش الفرنسية إلى كافة المفتين والعلماء، وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله … إننا حضرنا بقصد طرد المماليك وعسكر الجزار (يقصد أحمد باشا الجزار والي عكا) عنكم».

وتساءل بونابرت: «إلى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت في حكمه؟ إلى أي سبب أرسل عسكره على قلعة العريش؟ بذلك هجم على أرض مصر، ولا شك أن كل مراده إجراء الحروب معنا، ونحن حضرنا لنحاربه».

وبعد أن أمَّن نابليون أهالي غزة على أرواحهم وعيالهم قال: «وقصدنا أن القضاة لا يتركون وظائفهم، وأن دين الإسلام لا يزال معتزًا ومعتبرًا، والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين، والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح، والذي يتظاهر لنا بالغدر يهلك».

ويذكر العارف أن نابليون قال في البيان الذي أذاعه على السكان إنه ما جاء إلى هذ البلاد إلا ليقهر الجزار الذي استولى على غزة والعريش، إلا أن الغاية التي كان يرمي إليها هي الحيولة دون رجوع مصر إلى أحضان الدولة العثمانية، وعقد محالفات دفاعية مع الطوائف والأقوام المنتشرة في سوريا ضد الأتراك، وكان نابليون يعتقد أيضًا أن من يحتل مصر لا يكون آمنًا إلا إذا احتل سوريا، لذا عزم على ذلك خاصة في ظل الضعف الذي كان ظاهرًا في إدارة البلاد العثمانية كلها من أولها إلى آخرها، إذ كانت البلاد مُفَّتحة الأبواب خالية من أسباب الدفاع.

وكانت حملة نابليون مؤلفة من 13 ألف مقاتل، وكان هو على رأسها، ومعه كل من الجنرالات «مرات» و«مينو» و«كليبر» و«دوكوا» و«لان».

وعندما بلغ أحمد باشا الجزار قدوم الجيش الفرنسي من مصر، أسرع بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار، وتحصن في يافا، ثم امتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشائره ووصلت جيوشه العريش، ولكن الفرنسيين احتلوا العريش بعد حصار دام ثمانية أيام، ثم ساروا إلى خان يونس، وفي طريقهم إلى غزة التقوا مع الجيش العثماني التي كان بقيادة عبد الله باشا الجزار، واضطروه للانسحاب فتحصن في غزة، حسب ما روى العارف.

أراضٍ خصبة ومياه عذبة

كانت غزة محاطة بمتاريس واستحكامات ترابية، وحولها خندق، ولكن هذه جميعها لم تكن صالحة للدفاع، مع أنها كانت تبدو قوية للناظر إليها من بعيد، إلا أنها في الحقيقة كانت بحاجة إلى تقوية وتدعيم، كما أن الخندق كان ضيقًا وغير عميق، مما جعل عبد الله باشا يفكر في إخلائها والذهاب إلى يافا للدفاع عنها، حسب ما ذكر مصطفى مراد الدباغ، في القسم الثاني من موسوعته «بلادنا فلسطين».

على كلٍّ، ابتدأ الجيش الفرنسي بإحاطة غزة والهجوم على تحصيناتها، وفي أثناء ذلك هرب عبد الله باشا إلى يافا، وفي نفس الوقت اخترقت جيوش القائد الفرنسي كليبر الحصون ودخلت غزة، وإثر هروب الباشا رفعت الحامية العثمانية العلم الأبيض وسلَّمت غزة في 24 فبراير لنابليون بونابرت، وفي وسط الأمطار الغزيرة والرياح الشديدة، وكان قد فر قسم كبير من سكانها.

وسُرَّ الفرنسيون سرورًا عظيمًا لاستيلائهم على غزة، إذ اتصلوا بالأراضي الخصبة والمياه العذبة، وانتهوا من الصحراء القاحلة، لذا سماها نابليون «مقدمة جيش أفريقيا وباب آسيا».

وفي هذا الشأن، كتب نابليون في أحد مكاتبيه ما يأتي: «قطعنا 170 ميلًا في الصحراء، أكلنا في أثناء سيرنا لحوم الكلاب والحمير والجمال، وشربنا المياه التي كنا لا نعثر على غيرها في طريقنا … وكثيرًا ما كانت تمر علينا أوقات لم يكن لدينا فيها قطرة ماء … ولكن في غزة اختلف الطقس وتغير كل شيء، وفي الأيام الثلاثة التي قضيناها فيها كانت الرياح عاصفة والأمطار منهمرة والسماء مكفهرة، مما ذكرني بطقس باريس»، حسب ما روى الدباغ.

ومما زاد من اغتباط الجيش الفرنسي باستيلائه على غزة، ما غنمه فيها من مؤن غذائية ومواد حربية، إذ عثروا في مخازن الجيش العثماني على كثير من البقسماط (الخبز المجفف)، والشعير، وغيرها من الزاد والميرة، و400 قنطار بارود، وخيام وقنابل واثني عشر مدفعًا وغيرها من العتاد الحربي.

ويقال إن نابليون بونابرت أقام في القلعة، في حين أقام جنوده فوق تل المنطار «جبل شمشون كما جاء في خريطة الحملة» في شمال غزة.

وبحسب الدباغ، اتخذ الفرنسيون غزة قاعدة لتقدمهم الحربي المقبل، فأنشئوا فيها مستشفيين، في كل منهما 150 سريرًا ومعسكرًا كبيرًا، ثم غادرها في 28 فبراير 1799، بعد أن مكثوا فيها أربعة أيام.

وبعد يومين احتلوا اللد والرملة، وغنموا فيها مقدارًا كبيرًا من البقسماط والشعير ونحو 1500 قربة، ثم انهزم الفرنسيون أمام عكا وفروا منسحبين، وفي شهر مايو من عام 1799 مروا بغزة في طريق عودتهم إلى مصر.

دمار وخراب غزة

ما إن وصل الجنود الفرنسيون غزة حتى دمروا ما تبقى من سورها، كما هدموا جامع البيمارستان الجاولي، ومدرسة قايتباي، والمدرسة الكمالية، وجامع القلعة، وزاوية الشيخ محمد شمس الدين أبي العزم، مُحدثين بذلك الخراب والدمار في وسط المدينة، حسب ما ذكر سليم عرفات المبيض، في كتابه «غزة وقطاعها. دراسة خلود المكان وحضارة السكان من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى».

وبينما كانت القوات الفرنسية منسحبة جنوبًا باتجاه خان يونس تطاردها قوات الجيش العثماني، تعرضت لها قبائل «الترابين» لتنقض على القوافل المحلمة بالمؤن.

وعادت الحملة الفرنسية إلى مصر ومعها عدد من أبناء المدن الفلسطينية ليزجوا بهم في سجن القلعة بمصر، بحجة تسديد ما عليهم من ضرائب، رغم عدم تواجد الفرنسيين لأكثر من سبعة أشهر في فلسطين، ولم تفرج عنهم إلا في نهاية شهر أغسطس سنة 1799.

كما أعدم الفرنسيون أربعة شباب من أبناء غزة المقيمين بالأزهر الشريف للتعليم، بتهمة إيواء ومعرفة سليمان الحلبي الذي قتل القائد الفرنسي كليبر، وهم عبد الله الغزي، ومحمد الغزي، وأحمد الوالي الغزي، وعبد القادر الغزي، حيث أفتت محكمة فرنسية بموت عبد القادر على الخازوق، وبأن يئُول ماله إلى الفرنسيين، وحكموا بقطع رءوس الثلاثة الآخرين ووضعها على نبابيت، وأما أجسامهم فتُحرق في النار، وأن يكون ذلك أمام سليمان الحلبي قبل إعدامه، حسب ما روى المبيض.

أحوال غزة في هذا العصر

والواضح أن جهود الحملة الفرنسية على غزة والساحل الفلسطيني لم تكن كلها عسكرية، إذ درس علماؤها أحوال السكان في الساحل الفلسطيني، خاصة ما يتعلق بالقبائل العربية في غزة وما حولها، ووفقًا لما جاء في كتاب «وصف مصر»، فإنه حول خان يونس وفي جنوبها كانت تقطن عرب التياها والترابين وعرب بن البرانق، وبلغ عدد فرسانها ما بين 2000 و3000 فارس، ولم تستطع الحملة أن تقدر عدد فرسان عرب الحناجرة، في حين قدَّرت عدد فرسان عرب الترابين القاطنين حول مدينة غزة في منطقة دير اللاتين بنحو خمسمائة فارس، بحسب المبيض.

أما عرب الوحيدات فامتدت مضاربها بين البحر المتوسط والبحر الميت، لتشمل شمال النقب وشرق غزة حتى العريش، وعدد فرسانها وفق تقديرات علماء الحملة الفرنسية ثلاثة آلاف فارس.

وشملت دراسة الحملة الفرنسية جميع القبائل العربية الفلسطينية من خان يونس حتى أقصى الشمال، وقدرت أيضًا عدد سكان فلسطين بنحو 400 ألف نسمة يعيش 20% منهم في المدن.

وأفادت الحملة الفرنسية بأن غزة، مثل يافا وعكا ونابلس والقدس، كانت تصدر الصابون وزيت الزيتون والقطن والوبر وبذور النيلة والسمسم والأقمشة القطنية وكمية قليلة من الشمع، وتُشحن جميعها من مينائي يافا وعكا إلى ميناء دمياط عبر البحر المتوسط، في حين يُصدر جزء منها عبر الطريق البري تحملها القوافل التي تقودها القبائل البدوية، وبلغت كمية ما صُدر من خلال الطريق البري نحو ألف إلى ألفي صندوق من الصابون، زنة كل واحد منها 700 إلى 800 رطل.

كما قامت الحملة الفرنسية برسم خريطة للساحل الفلسطيني أشرف عليها الكولونيل «جاكوتين»، وتضمنت جميع المدن والقرى التي مرت بها، وهذه هي أول خريطة لفلسطين بالمعنى الكارتوجرافي الحديث، حيث تميزت بدقتها بدرجة لا تحتلف كثيرًا عن الخرائط الحديثة.

ومن خلال هذه الخريطة يتضح عدم وجود قرية رفح، وأن خان يونس هي بداية قرية بني سهيلا وقرية الدير «دير البلح» ووادي غزة ثم مدينة غزة وميوما، ومن القرى الشمالية لم تظهر على الخريطة سوى قرية بيت حانون.

وبحسب المبيض، تركت الحملة الفرنسية بصمات عميقة رغم قصر فترة احتلالها لغزة وبقية مدن الساحل الفلسطيني، فقد أعاد نابليون انتباه معظم القوى الأوروبية إلى الشرق الأوسط عامة، وإلى فلسطين بوجه خاص، فبدأت أوروبا في تكثيف إرسالياتها التبشيرية للبلاد، ودعم قناصلها وزيادتهم، بحجة تنمية التجارة، فضلًا عن إيفاد البعثات العلمية المتزايدة لتسبر غور إمكانات البلاد الجغرافية والديمغرافية، وبحجة البحث والاستطلاع أيضًا، ولكن جميعها سُخرت كوسيلة للغزو العسكري في الشرق الأوسط قاطبة.