تستعد نابولي لاستقبال لقب الدوري الثالث في تاريخ المدينة، زُينت الشوارع ورُسمت صور اللاعبين على الجدران، وفي كل مباراة تخرج المدينة بأكملها للشوارع في انتظار الفوز رسميًّا باللقب لتبدأ احتفالات يعرف الجميع أنها لن تنتهي لأيام.

هل يبدو لك ذلك نوعًا من المبالغة، مجرد محاولات لإعادة أجواء الاحتفالات الجنونية باللقب الأول رفقة مارادونا عام 87، لماذا تبدو نابولي دومًا، وكأنها مدينة مسها الجنون عندما يتعلق الأمر بكرة القدم. تبدو تلك الأسئلة منطقية إلى حد كبير، لكن دعنا نتفق أن نابولي أكبر من مجرد نادٍ لكرة القدم.

صُممت لهجة نابولي خصوصًا لأجل الحكاية. إن رويتَ بها شيئًا يصدقونك على الفور. لهجة نابولي روائية، تُثير انتباه الآذان والعيون أيضًا.
من رواية «اليوم ما قبل السعادة» للروائي الإيطالي «إنريكو دي لاكا»

تظهر دومًا مدينة نابولي كمدينة متفردة، لهجة روائية وقصور عتيقة وسراديب للموتى وشوارع ضيقة وموسيقى محلية خالدة وجداريات لا تنتهي وبركان يطل على المدينة في هدوء.

وسط كل ذلك نادٍ لكرة القدم يعبر من خلاله سكان المدينة عن هذا التفرد، تذوقوا من خلاله طعم الاستحقاق للمرة الأولى، ونظر لهم العالم بشغف وامتنان عندما تحققت معجزة مارادونا، ومنذ ذلك الوقت تبحث تلك المدينة في عيون ناديها المحبوب عن استعادة المجد.

ربما يفسر لك هذا سر جنون نابولي بكرة القدم، إنها الفرصة المثالية لتنال مدينة الجنوب ما تستحقه فعلًا، لتثبت أنها أفضل من الجميع. يتعلق الأمر بما هو أكبر من كرة القدم؛ لذا يجن جنون الجميع.

فلنعد لتاريخ النادي والمرتبط بتاريخ المدينة نفسها، حتى نفسر مشهد جنون جماهير نابولي بشكل منصف وواضح.

تاريخ يجب عليك معرفته

بدأ الأمر عندما قرر البحار الإنجليزي السيد «ويليام بوس» الذي يعمل لشركة الشحن «كونراد لاين» والمجنون بكرة القدم أن يستقر في جنوب إيطاليا، وبمساعدة أبناء المدينة من محبي الكرة واللاعبين الهواة تم إنشاء نادي نابولي. مر النادي بأشكال من الاندماج والانفصال مع أندية أخرى في المدينة ثم إعادة الهيكلة وصولًا للشكل النهائي للنادي عام 1964.

خلال العام 1926 احتل النادي قاع المسابقة الإيطالية بنقطة وحيدة من ثماني عشرة مباراة، هنا اكتسب الفريق كُنية ستلازمه للأبد، وهي «الحمير الصغيرة»، حتى اللقب الوحيد الذي حصل عليه نابولي ما قبل مارادونا وهو كأس إيطاليا عام 1962 كان الفريق حينها قابعًا في دوري الدرجة الثانية.

يبدو تاريخًا شديد التواضع، وهذا هو بيت القصيد، لم يحمل نادي نابولي للمدينة الفخر منذ بدايته كما هو متوقع، لكنه في المقابل كان جزءًا من هوية المدينة، عشق سكان المدينة فريقهم المحلي لأنه رمز للمدينة حتى قبل أن يعرفوا الألقاب.

في كتابه «مباراة كرة قدم: إثنولوجيا العاطفة» يؤمن الكاتب «كريستيان برومبيرجر» أن تشجيع نادي نابولي هو بمثابة حرب هوية. يزعم برومبيرجر أن نابولي تتمسك بهويتها أكثر من غيرها لأنها مدينة محتقرة، ويبرهن على ذلك باللافتات التي كانت تنتظر دومًا النابوليتانيين عندما يذهبون خلف فريقهم في مدن شمال إيطاليا، والتي كانت تحتوي على جمل مثل «مرحبًا بكم في إيطاليا» أو «من أجل حماية البيئة عليكم بالاستحمام».

هذا ينقلنا لفكرة أخرى، وهي علاقة شمال إيطاليا بمدن الجنوب مثل نابولي.

عنصرية ضد الجنوب

تبدو فكرة ازدراء شمال إيطاليا لجنوبها فكرة مثبتة تاريخيًّا، يمكننا فهم ذلك من خلال رصد ما حدث إبان هجرة الإيطاليين للولايات المتحدة. يشرح الكاتب «ماثيو فراي جاكوبسون» في كتابه «بياض بلون مختلف: المهاجرون الأوروبيون وكيمياء العرق» ما حدث عندما أُعلن في عام 1790 أن الأشخاص البيض الأحرار فقط هم المسموح لهم فقط بالهجرة إلى الولايات المتحدة.

تم تصنيف البعض على أنهم أكثر بياضًا، مما يعني أنهم أكثر جدارة بالمواطنة من البعض الآخر، في حين تم تصنيف البعض على أنه قريب جدًّا من السواد، بحيث يدفعه هذا في قاع السلم الاجتماعي على الفور.

اعتقد دومًا الإيطاليون الشماليون أن الجنوبيين، وخاصة الصقليين، هم أناس غير متحضرين وأقل شأنًا من الناحية العرقية، بل هم أقرب لكونهم أفارقة ولا يستطيعون أن يكونوا جزءًا من أوروبا. وهذا ما عانى منه الإيطاليون الجنوبيون ذوو البشرة الداكنة نسبيًّا، كما كتبت المؤرخة «جينيفر جولييلمو» فإن الوافدين الجدد منهم لأمريكا واجهوا موجات من العنصرية، وفي بعض الأحيان تم إبعادهم عن المدارس ودور السينما والنقابات العمالية.

ما يهمنا هنا هي نظرة مدن الشمال العنصرية لمدينة مثل نابولي وهو ما أثر بالطبع في كرة القدم، حيث عاشت جماهير نابولي في أجواء مناسبة للإقصاء الذي تعاني منه المدينة. فتم تصوير النادي على الدوام كونه ضحية، ليس مجرد فريق خاسر. وبينما توالت الهزائم على أرض الملعب، عزت الجماهير تلك الهزائم إلى مؤامرات الأثرياء والحظ الذي يبتسم دائمًا للخصوم. كذلك لم يتوقفوا أبدًا عن الإشارة إلى أن مقر دوري كرة القدم يقع في ميلانو، وأن الأندية الشمالية تحظى بدعم الصحافة.

لكن كل هذا كان قبل قدوم دييجو أرماندو مارادونا.

نابولي مارادونا: المزيج المثالي

أريد أن أصبح معبودًا للأطفال الفقراء في نابولي لأنهم يشبهونني عندما كنت أعيش في بوينس آيرس.
أولى كلمات مارادونا بعد الانضمام لنابولي

نحن الآن رفقة المدير الرياضي لنابولي آنذاك «أنطونيو جوليانو»، وهو اللاعب السابق في الفريق والرجل الذي ولد في أحياء المدينة الفقيرة، سافر جوليانو إلى برشلونة للتفاوض بشأن توقيع مارادونا، وما إن قابله حتى أوضح له أنه سيصبح إلهًا حيًّا إذا ما انضم لنابولي، إن شعب نابولي سيموت من أجل مارادونا إذا لزم الأمر.

ربما اعتبر مارادونا الأمر نوعًا من المبالغة، لكنه تأكد تمامًا من الأمر بعد أن قرر رئيس برشلونة «جوسيب لويس نونيز» المطالبة بمبلغ إضافي قدره 500 ألف جنيه إسترليني حتى تتم الصفقة. هنا قررت جماهير المدينة الإيطالية تجميع المبلغ من أموالها الخاصة، وتم إبرام الصفقة.

بعيدًا عن الجدل المصاحب لمسيرة مارادونا لكنه كان دومًا ينتمي إلى الجانب الذي يجمعه بالفقراء. خلال عامين قضاهما في برشلونة لم يشعر بهذا الحب، بل تم وصفه أحيانًا بأنه «سوداكا»، وهو مصطلح ازدرائي يعبر عن رجل أمريكي جنوبي ذي بشرة داكنة.

وجد دييجو في نابولي فريقًا ومدينة وجمهورًا عانى من نفس المشاكل التي عانى منها أثناء نشأته. لقد كانت مدينة مضطهدة ومُختلة وظيفيًّا، عانت من الفقر الجماعي والبطالة والجريمة المنظمة، صورها الشمال الصناعي الأرستقراطي على أنها وصمة عار على إيطاليا، لكنها في المقابل تملك مئات الآلاف من سنوات الحضارة، وهي شديدة الحرص على درء تلك التهم، وشديدة الشغف كذلك عندما يتعلق الأمر بكرة القدم.

استطاع نابولي أن يحقق الألقاب بعد قدوم مارادونا، لكن مارادونا لم يحقق السكوديتو وحده، حقق فريق نابولي اللقب الأول عام 1987 رفقة لاعبين دوليين مثل «فرناندو دي نابولي» و«سلفاتوري باني» و«برونو جيوردانو» وأسطورة الدفاع «سيرو فيرارا». أما اللقب الثاني عام 1990 فقد عاون مارادونا لحصده النجمان البرازيليان «أليماو» و«كاريكا» بالإضافة إلى الشاب «جيانفرانكو زولا».

لكن يبرز مارادونا كمصدر إلهام أكثر منه لاعبًا عبقريًّا حقق بطولة الدوري، كانت أولي كلمات مارادونا بعد التتويج أن هذا اللقب يعني له أكثر بكثير من الفوز بكأس العالم، لأنه حتى عندما فاز بكأس العالم لم يكن محاطًا بالأصدقاء، لكنه الآن محاط بالعائلة، شعب نابولي هو العائلة لأنه يعتبر نفسه ابنًا لمدينة نابولي.

هكذا كان مزيج مارادونا نابولي مزيجًا مثاليًّا، لقد استطاع نابولي رفقة مارادونا إجبار الجميع على الاعتراف بأفضلية فريق مدينة الجنوب، لقد امتلكوا أفضل لاعب في العالم، وليس هذا فحسب بل إنه وقع في حبهم وشاركهم شغفهم، واعتبر نفسه ابنًا للمدينة. من يمكنه أن يقلل من نابولي بعد الآن.

الجنون الذي سنراه بعد أيام

بعد اللقب الأول هرعت نابولي إلى الشوارع وتوقفت حركة السير في المدينة بأكملها، حيث احتفل الناس من جميع الأعمار دون توقف، بل إن بعض الأماكن أبقت الاحتفالات لمدة شهر. أطلقت السيارات أبواقها ورقص المشجعون على أسطح الحافلات وارتدى المراهقون شعر مارادونا المستعار المجعد، بينما أقام المتعصبون جنازات وهمية من خلال حمل توابيت عليها علامات يوفنتوس. وعلى جدران أكبر مقبرة في المدينة ظهرت لافتة كتب عليها «أنتم لا تتخيلون ما فاتكم».

تلك هي المشاهد التي سنشاهدها ربما اليوم أو بعد أيام قليلة. وهذا ليس استنساخًا لمظاهر الاحتفالات باللقب الأول، كما أنه ليس ضربًا من المبالغة، خاصة بعد أن قل المستوى الفني للدوري الإيطالي نفسه، لكن الأمر متعلق بالهوية الجنوبية.

لن يخفت جنون أبناء نابولي بمرور الزمن أبدًا، ولن يقل صخب احتفالاتهم برحيل مارادونا. غدًا ستقول نابولي للجميع إنها الحضارة والشغف والحاضر والمستقبل. ألم أقل لك إن الأمر أكبر من كرة القدم.

في نابولي، كرة القدم تتخطى الأبعاد الرياضية؛ فهي تأخذ بُعدًا اجتماعيًّا، وهي نوع من المطالبة باسترجاع الحق.
أوتافيو بيانكي – مدرب نابولي عام 1987