إن كل نص يطرح مجموعة من المفاهيم عن نفسه، كما أن الثقافة التي تحتضن النص، أو التي يحتضنها النص تطرح بدورها مجموعة من الحقائق حوله. يذهب أبو زيد إلى نهاية هذه العلاقة الجدلية بين النص والثقافة ليقول جملته التي أصبحت سبة عليه وبابا لرميه بأنه ينكر المصدر الإلهي للنص. يقول: «إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي». وهذه الحقيقة مصدرها هو أن النص «تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على عشرين عاما». ثم يقول: «إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثم لامكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة، أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها».

هكذا تصل جدلية النص/الواقع إلى ذروتها في خطاب أبو زيد، دون أن يتعارض ذلك، برأيه، مع الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، بل ينفي التعارض حتى مع الوجود السابق للوجود العيني، وإن كان يرى في الوقت نفسه أن «الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه البديهية [بديهية تشكل النص من خلال الثقافة] ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص». فهل يناقض أبو زيد نفسه هنا عندما ينتقد الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص، ثم يقرر عدم تناقض هذا الإيمان مع تشكل النص في الثقافة؟ في الحالة الأولى يبدو أبو زيد متسقا مع منهجه، أما في الحالة الثانية فيبدو أنه وقع تحت ضغط الخطاب الإسلامي السائد والمؤمن بذلك الوجود الميتافيزيقي للنص، فاضطر لتقديم هذه الـ «ترضية»، والدليل أن الإيمان بذلك الوجود الميتافيزيقي كان له دائما موضع انتقاد من قبل أبو زيد في كل مناسبة يتطرق له فيها – وسيأتي شاهد هذا القول، ومن جهة الأخرى، لا معنى أساسا للحديث عن ثقافة وتشكل وإنتاج (المفاهيم التي يستخدمها أبو زيد) إذا آمنّا أن النص كان له وجود سابق على الثقافة والواقع.

تمثل اللغة بطبيعة الحال أول مظهر من مظاهر تشكل النص في الثقافة، «وليس اختيار اللغة اختيارًا لوعاء فارغ وإن كان ذلك ما يؤكده الخطاب الديني المعاصر، ذلك أن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه. وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يمكن من ثم أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع أيضا طالما أنه نص داخل اطار النظام اللغوي للثقافة».

إن كون القرآن رسالة كما يصف نفسه، «والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة، أو نظام لغوي. ولما كان المرسل في حالة القرآن [=الله] لا يمكن أن يكون موضعا للدرس العلمي، فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة، الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة».

ثم يبين أبو زيد الوجه الآخر للعلاقة الجدلية بين النص والواقع، فكون النص منتَج ثقافي فهذا «يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكوين والاكتمال» ولكن بعد هذه المرحلة صار النص منتِجا للثقافة، «بمعنى أنه صار هو النص المهيمن المسيطر الذي تقاس عليه النصوص الأخرى وتحدد به مشروعيتها». و«الفارق بين المرحلتين في تأريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها وبين إمداده للثقافة وتغييره لها».

ولكن هاتين المرحلتين ليستا متقابلتين ومتعارضتين، فالنص في مرحلته الأولى ليس مجرد حامل سلبي للثقافة، فقد كانت له فعاليته الخاصة في تجسيد الثقافة والواقع، حيث يجسدهما «تجسيدا يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد». وفي المرحلة الثانية، تكون للثقافة «آلياتها الخاصة في التعامل مع النص وذلك بإعادة قراءته وتأويله».


في المنهج

يعتمد أبو زيد في دراسته هذه «بصفة أساسية المدخل اللغوي». وللنصوص اللغوية وظيفتان أساسيتان:

الأولى: أنها ليست إلا طرائق لتمثيل الواقع والكشف عنه بفعالية خاصة.

الثانية: وظيفتها الإتصالية التي تفترض علاقة بين متكلم ومخاطَب وبين مرسل ومستقبل.

وبرأي أبو زيد فإن المنهج اللغوي هو «المنهج الوحيد الممكن من حيث تلاؤمه مع موضوع الدرس ومادته». وهو ينطلق هنا من حقيقتين مسلمتين:

الأولى: أن الإسلام يقوم على أصلين هما القرآن والحديث النبوي الصحيح.

الثانية: أن هذه النصوص [=نصوص القرآن والحديث] لم تُلْق كاملة ونهائية في لحظة واحدة، بل هي نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على العشرن عاما.


الديالكتيك الهابط والديالكتيك الصاعد

الديالكتيك الهابط- تمثله المناهج التي تعطي الأولوية عند مناقشة النصوص الدينية «للحديث عن الله عز وجل (قائل النص) ثم يلي ذلك الحديث عن النبي (ص) (المستقبل الأول للنص)، ثم يلي ذلك الحديث عن الواقع تحت عناوين «أسباب النزول» و«المكي والمدني» و«الناسخ والمنسوخ». وهذه (برأي أبو زيد دائما) هي المناهج «التي يتبناها الخطاب الديني المعاصر».

الديالكتيك الصاعد – يمثله المنهج الذي «يبدأ بالحسي والعيني صعودا، يبدأ من الحقائق والبديهيات ليصل إلى المجهول ويكشف عما هو خفي» وهذا ما يراه أبو زيد لمنهجه.

ويأمل أبو زيد أن يتجاوز بمنهجه معضلتين يقع فيهما المنهج الأول:

الأولى: أن معضلة المنهج الأول أنه يعتمد على التأمل، ومن ثم يكون عرضة للانغماس في الأقاويل الخطابية.

الثانية: خطر الوقوع في شبكة «الإجابات الجاهزة» والانسياق في دوامة «التشويش الأيديولوجي».


مفهوم الوحي

إن ظاهرة الوحي لم تكن ظاهرة مفارقة لواقع الثقافة العربية. وبالرغم من أن «الحديث عن الوحي في القرآن ينقلنا إلى مجال أكثر تعقيدا حيث تكون عملية الاتصال/الوحي بين طرفين لا ينتميان إلى نفس المرتبة الوجودية. ومع ذلك فقد كان هذا المفهوم أيضا – مفهوم الاتصال بين مراتب وجودية مختلفة- مفهوما مألوفا في الثقافة العربية قبل الإسلام». من هنا يرى أبو زيد أنه «كان ارتباط ظاهرتي «الشعر والكهانة» بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بامكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي ذاتها».

بل إننا «لو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من الوجهة الثقافية». من هنا فنحن «لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضاً على ظاهرة الوحي ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحي أو على شخص الموحى إليه».

يحاول أبو زيد أن يطبق ما تحدث عنه حول مفهوم التشكل والتشكيل (المرحلة الأولى والثانية) من خلال قراءة ظاهرة الجن واتصال البشر بها، حيث يمثل هذا المرحلة الأولى، ثم من خلال توظيف النص لهذه الظاهرة في المرحلة الثانية حيث النص هو المسيطر. فيلاحظ من خلال قراءة الآيات الأولى من سورة «الجن»، «أن النص هنا وهو يصوغ الواقع يصوغه بطريقة بنائية خاصة تعيد تركيبه في نسق جديد». و«إن النص هنا وإن كان يمثل الواقع الذي ينتمي إليه يعيد تشكيل هذا الواقع من خلال آلياته اللغوية الخاصة» وهكذا فقد صار الجن في النص جنا مؤمنا مسلما يدين سلوكه السابق ويدين البشر الذين كانوا يعوذون به «رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا».

ثم يعقد أبو زيد مقارنة سريعة بين مفهوم الجن في سورة «الناس» والمفهوم ذاته في سورة «الجن» على أساس أن الأولى سابقة على الثانية في ترتيب النزول. فيميز بين صورتين: «صورة الجن الخناس الموسوس الذي يستعاذ بالله منه، وصورة الجن الذي يشبه البشر في انقسامه إلى مؤمنين وكافرين». «ولا شك أن الصورة الصورة الثانية تعد نوعا من التطوير القرآني النابع من التوافق مع معطيات الثقافة من جهة والهادف إلى تطويرها لمصلحة الإسلام من جهة أخرى».


الوحي بالقرآن

هناك ثلاث طرائق لاتصال الله بالبشر:

الأولى: الوحي؛ وهو ما يطلق عليه العلماء «الإلهام» مثل الوحي لأم موسى وإلى النحل وإلى الملائكة وكل وحي يتميز بالخصوصية والسرية.

الثانية: الكلام من وراء حجاب؛ وذلك كلامه لموسى من وراء حجاب الشجرة والنار والجبل.

الثالثة: الوحي غير المباشر عن طريق الرسول الملك الذي يوحي للمستَقبِل بإذن الله ما يشاء؛ ومعلوم أن «هذه الطريقة كانت هي الطريقة التي تم بها القاء القرآن وتنزيله».

ثم يناقش أبو زيد بعض القضايا المرتبطة بالوحي:

القضية الأولى: كيف كان الاتصال على المستوى الرأسي بين الله وجبريل وأي شفرة استخدمت في هذا الإتصال؟

الرأي الأول: ما يقرره الزركشي في البرهان في علوم القرآن وهو «أن الله أفهم كلامه جبريل، وهو عال في السماء، وهو عال من المكان، وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان».

وهذا الرأي «يتصور للنص وجوداً خطياً سابقاً في اللوح المحفوظ» وهذا الرأي يؤدي إلى نتيجتين:

الأولى: إهدار لجدلية العلاقة بين النص والواقع الثقافي.

الثانية: الإيمان بعمق دلالته [القرآن] وتعدد مستوياتها. […] لكن ربط تعدد مستويات الدلالة بالأصل الإلهي والوجود الأزلي أدى إلى استغلاق معنى النص نتيجة استحالة النفاذ إلى مستويات معانيه في نهاية الأمر.

الرأي الثاني: يجعل الصياغة اللغوية مهمة جبريل مرة، ويجعلها مهمة محمد مرة أخرى. «ويفترض هذا الرأي أن للملائكة نظاما لغويا، ويفترض علاوة على ذلك أن هذا النظام اللغوي هو اللغة العربية».

القضية الثانية: كيف أمكن هذا الإتصال مع التغاير في الطبيعة الناتج عن اختلاف مراتب الوجود؟

«وكانت الإجابة [استنادا إلى الزركشي] أن ثمة تحولا يحدث في أحد طرفي الاتصال حتى يمكنه الاتصال بالطرف الآخر: أحدهما أن الرسول (ص) انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملائكة وأخذه من جبريل، والثاني، أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذ الرسول منه. والأول، أصعب الحالين». ويذهب أبو زيد إلى أن «الحالة الأولى، يمكن أن تكون حالة الوحي بالسنة، بينما تكون الحالة الثانية، خاصة بالوحي بالقرآن».

ومهم أن نلاحظ «أن مفهوم «الانسلاخ عن البشرية» والتحول إلى الملكية في حالة الوحي الأولى ليس مقصودا معناه الحرفي بالتحول الفيزيقي كما يفهم من منطوقه، فالتغير الذي كان يلاحظ على النبي تغير طارئ طفيف وليس تحولاً بالمعنى الذي تنبئ به لفظة الانسلاخ أو الانخلاع».

ثم يستدعي أبو زيد نظرية «الخيال» عند الفلاسفة والمتصوفة والتي يفسرون بها «النبوة». وهذا معناه «أن ذلك الانتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتم من خلال فاعلية «المخيلة» الإنسانية التي تكون في «الأنبياء» – بحكم الاصطفاء والفطرة – أقوى منها عند من سواهم من البشر». فيكون النبي في مصاف «الشعراء» و«العارفين» القادرين «دون غيرهم على استخدام فاعلية «المخيلة» في اليقظة والنوم على السواء» وإن كانت هذه المستويات غير متساوية من حيث قدرة «المخيلة» وفاعليتها، «فالنبي يأتي دون شك على قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب».

ويذهب أيضا إلى أن المرحلة الأولى من مراحل الوحي كانت «مرحلة أشبه بالرؤيا» ثم بعد «التعود والإلفة -مع توالي عملية الاتصال- جعلت الوحي ممكناً في حالة اليقظة بالكلام اللغوي العادي». وأبو زيد وإن كان يقول هذا في سياق السؤال «هل يمكن أن نقول إن …؟» فهو يؤكد بعدها مباشرة أن الحقائق تتضافر لتجيب بالإيجاب.

ثم يقرر أبو زيد النتيجة المنطقية لتلك المقدمات وهي أنه «في ظل هذا التصور لا تكون «النبوة» ظاهرة فوقية مفارقة. بل تصبح قابلة للفهم والاستيعاب».


القرآن والكتاب

يرى أبو زيد أن كلمة «قرآن» هي مصدر من «قرأ» بمعنى الترديد (ردَّدَ) لا الجمع (جَمَعَ). وهذا الاسم «قرآن» هو اسم مخالف «لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل، سمى [الله] جملته قرآنا كما سموا ديوانا وبعضه سورة كقصيدة، وبعضه آية كالبيت وآخرها فاصلة كقافية». وهكذا يفرض النص تميزه على الثقافة التي تشكل من خلالها.

ولفظ «الكتاب» الذي يطلقه النص على نفسه له دلالة الحلقة الفاصلة بين مرحلتين: مرحلة الشفاهية ومرحلة التدوين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النص كان «يميز نفسه عن ثقافة الأميين بأنه كتاب، وكان يميز نفسه أيضا عن ثقافة أهل الكتاب بأنه كتاب عربي أو بلسان عربي».

«وحين نقول إن النص قد ساهم في تحويل الثقافة من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين عن طريق اضفاء اسم الكتاب على نفسه وعن طريق نفي دلالة الوحي بما يرتبط به من سرية وغموض عن معنى الكتابة فإننا لا نقصد بالنص مجرد المعطى اللغوي، بل نقصد فعالية النص من خلال مجموعة البشر الذين اعتبروه نصهم الأساسي».


الرسالة والبلاغ

إن الرسالة المتضمنة في عملية الاتصال/الوحي ليست خاصة بالمتلقي الأول، ولكنها رسالة مطلوب تبليغها للناس وإعلامهم بها. و«كون النص بلاغا معناه أن المخاطبين به هم الناس جميعا». «إن مفهوم «التنزيل» هنا لابد أن يفهم بوصفه تنزيلا إلى الناس عبر وسيطين: الأول المَلَك، والوسيط الثاني محمد البشر». «إنها رسالة السماء إلى الأرض، ولكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين الواقع بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية وأهمها البناء الثقافي».

«إن «الناس» هم هدف الوحي وغايته» و«في مثل هذا التصور الذي يطرحه النص عن نفسه، من خلال الثقافة ونظامها اللغوي، يصبح التركيز على مصدر النص وقائله فقط إهداراً لطبيعة النص ذاته، وإهداراً لوظيفته في الواقع، وهو ما حدث في الفكر الديني الذي سيطر على التراث والذي ما زال فاعلا في ثقافتنا إلى اليوم».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.