محتوى مترجم
المصدر
Information Philosopher
التاريخ
1977/12/08
الكاتب
كارل بوبر

الانتقاء الطبيعي وظهور العقل (1-3)الانتقاء الطبيعي وظهور العقل (2-3)

3. مشكلة هكسلي

يعد إنكار وجود العقل وجهة نظر أصبحت عصرية جدًا في عصرنا: حيث استبدل العقل بما يُطلق عليه «السلوك اللفظي». عاش داروين ليشهد إحياء وجهة النظر هذه في القرن التاسع عشر. واقترح صديقه المقرب، توماس هنري هكسلي، فرضية أن الحيوانات، وضمنها الإنسان، كائنات آلية. لم يُنكر هكسلي وجود الوعي أو الخبرات الذاتية، مثلما يفعل الآن بعض خلفائه؛ لكنه أنكر أن يكون لهم أي تأثير مهما كان على آلية الإنسان أو جسد الحيوان، بما في ذلك المخ. كتب هكسلي: «ربما يكون مفترضًا13 أن هذه التغيرات الجزيئية في المخ هي أسباب جميع حالات الوعي .. لكن هل هناك أي دليل على أن هذه الحالات من الوعي ربما، عكسيًا، تتسبب في .. تغيرات جزيئية في المخ، ما يتسبب في حركة العضلات؟» هذه هي مشكلة هكسلي. ويجيب عليها كما يلي: «لا أرى دليلًا كهذا … يبدو الوعي مرتبطًا بآلية الجسد كنتيجة ثانوية لعمله … يبدو الوعي دون أي قدرة على تعديل عمل الجسد، تمامًا كعدم امتلاك صافرة البخار لمحرك القاطرة لأي تأثير على آليته».

يقدم هكسلي سؤاله بحدة وبوضوح. كما يجيب عليه بدقة ووضوح. حيث قال إن عمل الجسد قائم على العقل من طرف واحد؛ أي أنه ليس هناك تفاعل مشترك. لقد كان آليًا ومؤمنًا بالحتمية المادية؛ وقد استلزم موقفه تقديم إجابته. عالَم الفيزياء، أو الآلية المادية، مغلق سببيًا. وبالتالي، لا يستطيع الجسد أن يتأثر بفعل حالات الوعي. والحيوانات، كحال الإنسان، يجب أن تكون آلية، حتى وإن كانت واعية. بينما كانت رؤية داروين للمادة مختلفة تمامًا. ففي كتابه «التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوانات»، أوضح بتفصيل شديد كيف أن مشاعر الإنسان والحيوان يمكنها، وتعبر عن نفسها بالفعل، بحركات عضلية.

يعد أحد ردود داروين المباشرة على صديقه هكسلي، الذي أعجب به وأحبه بشدة، أكثر تميزًا. انتهت رسالة ساحرة إلى هكسلي قبل موت داروين بثلاثة أسابيع، بمزيج مميز بين الرقة، السخرية وخفة الدم، حيث قال: «… صديقي القديم العزيز، أتمنى من الله لو كان هناك آلات أكثر في العالم مثلك»14.

في الواقع، لا يجب أن يقبل أي دارويني برؤية هكسلي كحل لما يطلق عليه مشكلة العقل والجسد. حيث ناقش داروين في مقاله 1844، في كتابه «أصل الأنواع»، بل وأكثر من ذلك في مخطوطته الأكبر عن الانتقاء الطبيعي، القوى العقلية للحيوانات والبشر؛ وقال إن هناك منتج للانتقاء الطبيعي.

والآن إن كان هذا صحيحًا، يجب على القوى العقلية أن تساعد الحيوان والإنسان في النضال من أجل الحياة، من أجل البقاء المادي. يستنتج من هذا أن القوى العقلية يجب أن تكون قادرة بدورها على ممارسة تأثير هام على الأفعال المادية للحيوان والإنسان. وبالتالي، لا يمكن للحيوان والإنسان أن يكونا آليين على طريقة هكسلي. إن كانت الخبرات الذاتية، حالات الوعي، موجودة – واعترف هكسلي بوجودها – فعلينا، وفق الداروينية، أن نبحث عن فائدتها، وعن وظيفتها التكيفية. فمثلما هي مفيدة للحياة، يجب أن يكون لها توابع في العالم المادي.

وبالتالي تشكل نظرية الانتقاء الطبيعي حجة قوية ضد نظرية هكسلي لعمل الجسد من جهة واحدة على العقل وللتفاعل المتبادل بين العقل والجسد. لا يتصرف الجسد وفقًا للعقل فقط – على سبيل المثال، في الإدراك أو في المرض – لكن أفكارنا، توقعاتنا، ومشاعرنا قد تؤدي إلى أفعال مفيدة في العالم المادي. إن كان هكسلي على حق، فإن العقل سيكون عديم الفائدة. لكن عند ذلك، ما كان له أن يتطور، مثلما فعل، وفق الانتقاء الطبيعي.

تقول فرضيتي الأساسية هنا أن نظرية الانتقاء الطبيعي تقدم حجة قوية لعقيدة التفاعل المتبادل بين العقل والجسد أو، ربما الأفضل، بين الحالات العقلية والحالات الجسدية.

بالتأكيد، أنا مدرك تمامًا لحقيقة أن عقيدة «التفاعل المتبادل» قديمة الطراز تمامًا. ومع ذلك، أقترح الدفاع عن التفاعل، والثنائية قديمة الطراز (باستثناء أنني أرفض وجود ما يطلق عليه «المواد»)؛ حتى أنني أدافع عن التعددية، لدرجة أنني أقول إن هناك ثلاثة (أو ربما أكثر) من مستويات أو مناطق أو عوالم التفاعل: العالم الأول للأمور: الأحداث أو الحالات المادية، بما في ذلك أجساد وأدمغة الحيوانات، العالم الثاني: خاص بالحالات العقلية، والعالم الثالث: يتكون من منتجات العقل البشري، خصوصًا الأعمال الفنية والنظريات العلمية.

أخشى أنني ليس لدي الوقت لأسهب في الحديث عن العالم الثالث. بل يجب أن أقتصر على صياغة الظن بأن العالم الأول للأشياء المادية، والعالم الثاني للحالات والتفاعلات العقلية، وأن العالم الثالث للنظريات العلمية، على سبيل المثال للنظريات الطبية، ويتفاعل بقوة أيضًا مع عالم الأشياء المادية، عبر العالم الثاني النفسي.

ينطوي الشكل الحالي إما على إنكار وجود أي شيء كالخبرة العقلية، أو التأكيد على أن الخبرات العقلية تعد بطريقة أو بأخرى متطابقة مع الحالات العقلية للجهاز العصبي المركزي.

لا أظن أن أول هذه الأشكال – اقتراح أننا ليس لدينا خبرات – مثير للاهتمام للغاية. لدينا اختبارات ذاتية جيدة للفرضية القائلة بأن لدينا مثل هذه الخبرات. وكل ما يبدو أنه قد قيل ضد فرضياتنا هو أن الكون سيكون مكانًا أبسط إلى حد كبير إن لم يكن لدينا خبرات – أو بما أنها لدينا بالفعل، فقط إن أمكننا التزام الصمت بشأنها.

ومع ذلك، هناك ما يبدو كموقف أكثر جدية من مجرد الحرمان من العقل. إنها النظرية الأكثر عصريةً حاليًا القائلة بأن الحالات العقلية تعد بشكل ما متطابقة مع الحالات المادية: إنها ما يطلق عليها نظرية الهوية للجسد والعقل.

في مواجهة نظرية الهوية، أظن أنني يمكنني استخدام نفس الحجة من الانتقاء الطبيعي التي استخدمتها ضد هكسلي: تبدو لي نظرية الهوية متعارضة مع نظرية الانتقاء الطبيعي. وفقًا لنظرية الهوية، يعتبر عالم الأشياء والحالات المادية مغلقًا. كل السببية هي سببية مادية. وبالتالي حتى مُنظِّر الهوية الذي يعترف بالوعي لا يستطيع أن ينسب لها أي وظيفة سببية مستقلة في العالم المادي15. لا يمكن أن تكون قد تطورت وفق الانتقاء الطبيعي. وموقف مُنظري الهوية هو نفسه موقف هكسلي.


4. ملاحظات على ظهور العقل

القوى العقلية تساعد الحيوان والإنسان في النضال من أجل الحياة بكونها قادرة على ممارسة تاثير هام على الأفعال المادية وبالتالي لا يمكن أن يكونا آليان على طريقة هكسلي.
بينما نظن أننا نعرف بعض الشروط المسبقة للحياة، وبعض أساسات الكائنات البدائية، ليس لدينا أدنى فكرة حول أي مرحلة تطورية ظهر فيها العقل

أظن أن الحياة، ولاحقًا أيضًا العقل، قد تطورت أو ظهرت في كون كان، حتى فترة محددة، دون حياة ولا عقل. ظهرت الحياة، أو المادة الحية، بشكل ما من المادة غير الحية، ولا يبدو الأمر مستحيلًا تمامًا، بل سنعرف في يوم ما كيف حدث ذلك.

تبدو الأمور أصعب كثيرًا مع ظهور العقل. فبينما نظن أننا نعرف بعض الشروط المسبقة للحياة، وبعض أساسات الكائنات البدائية، ليس لدينا أدنى فكرة حول أي مرحلة تطورية ظهر فيها العقل. قال إتش إس جينينجز في عام 1906 في كتابه العظيم «سلوك الكائنات الدنيا»، إنه عند ملاحظة سلوك الأميبا، تمكّن بالكاد من نّسْبِ الوعي إليها. وعلى الجانب الآخر، بعض دارسي الأحياء وبعض دارسي اللغة الإنسانية لا يريدون نسب العقل أو الوعي إلى أي حيوان سوى الإنسان. ومثلما ذكرت آنفًا، هناك فلاسفة ينكرون وجود العقل تمامًا؛ وهم الذين يعتبرون حديث العقل أو حالات الوعي محض ثرثرة: كالعادة اللفظية التي لابد لها أن تندثر، كالحديث عن الساحرات، مع تقدم العلم، وخصوصًا تقدم أبحاث المخ.

على النقيض من هؤلاء الفلاسفة، اُعتبر ظهور العقل حدثًا جللًا في تطور الحياة. فالعقل ينير الكون، واعتبر عمل عالمٌ عظيمٌ مثل داروين على نفس القدر من الأهمية فقط لأنه يساهم كثيرًا في هذا التنوير. يذكر هربرت فيجل أن أينشتاين قال له: «لولا هذا التنوير الداخلي، لكان الكون مجرد كومة من القمامة»16.

مثلما قلت مسبقًا، أظن أننا يجب أن نعترف بأن الكون مبدِع، أو خلّاق. على أي حال، إنه خلّاق مثلما نقول إن الشعراء، الفنانون العظماء، والعلماء الرائعون خلاقون. في يوم ما لم يكن هناك أي شعر في الكون، ولا موسيقى. لكن لاحقًا، أصبحت موجودة. بالتأكيد، لن يكون هناك أي تفسير لنسبها إلى الذرات، أو إلى الجزيئات، أو حتى إلى الحيوانات الدنيا، القدرة على صنع سابقة من الشعر (أو ربما صنع نموذج بدائي)، تدعى «الشعر البدائي». أظن أنه ليس هناك تفسير أفضل من نسب نموذج بدائي من الروح إلى الذرات أو الجزيئات، مثلما يفعل المؤمنون بالروح الشاملة. لكن لا، فحالة الشعر العظيم تُظهر بوضوح أن الكون لديه القدرة على خلق شيء جديد. مثلما قال إرنست ماير من قبل، ظهور الحداثة الحقيقية في سياق التطور يجب أن تعتبر حقيقة.

نظرًا لصعوبة، إن لم تكن استحالة، اختبار النسبة التخمينية للقوى العقلية للحيوانات، لن تنمو الشكوك بشأن أصل العقل في الحيوانات على الأرجح أبدًا إلى نظرية علمية يمكن اختبارها. ومع ذلك، سأقدم سريعًا بعض التخمينات التأملية. وعلى أي حال، هذه التخمينات عرضة للانتقاد، إن لم يكن للاختبار.

سأبدأ بالفكرة، التي شدد عليها أخصائيو السلوك مثل ثورب، القائلة بأن سلوك الحيوانات، كسلوك الحواسب، تتم برمجته، لكن على خلاف الحواسب، الحيوانات ذاتية البرمجة. البرنامج الذاتي الجيني الأساسي، حسبما نفترض، مكتوب في شريط الحمض النووي المشفر، هناك أيضًا برامج مكتسبة، برامج تعزى إلى التنشئة، لكن ما يمكن اكتسابه وما لا يمكن اكتسابه – مجموعة المكتسبات الممكنة – منصوص عليها في صورة برنامج ذاتي جيني أساسي، والذي قد يحدد حتى الاحتمالية أو الميل إلى الاكتساب.

نظرًا لصعوبة اختبار النسبة التخمينية للقوى العقلية للحيوانات، لن تنمو الشكوك بشأن أصل العقل في الحيوانات أبدًا إلى نظرية علمية يمكن اختبارها.

قد نميز نوعين من البرامج السلوكية: البرامج السلوكية المغلقة والبرامج السلوكية المفتوحة، مثلما يطلق عليهما ماير17. البرنامج السلوكي المغلق هو الذي يحدد سلوك الحيوان بتفصيل شديد. البرنامج السلوكي المفتوح هو الذي لا يحدد جميع الخطوات السلوكية، بل يترك المجال مفتوحًا لبدائل محددة، خيارات محددة، رغم أنها ربما قد تحدد الاحتمالية أو الميل لاختيار طريق أو آخر. كما يجب أن نفترض أن البرامج المفتوحة تتطور وفق الانتقاء الطبيعي، بسبب ضغوط الانتقاء الخاصة بالأوضاع البيئية المعقدة والمتغيرة بشكل غير منتظم.

يمكنني الآن أن أعلن ظني كما يلي:

الظروف البيئية كهذه التي تدعم تطور البرامج السلوكية المفتوحة تدعم أحيانًا أيضًا تطور بدايات الوعي، عبر دعم الخيارات الواعية. أو بعبارة أخرى، ينشأ الوعي مع الخيارات التي تبقى متاحة من قبل البرامج السلوكية المفتوحة.

فلنلق نظرة على المراحل المتنوعة المختلفة لظهور الوعي.

كمرحلة أولى محتملة، قد يظهر شيء ما يعمل كتحذير مركزي، كالتهيج أو الانزعاج أو الألم، يحث الكائن الحي على وقف الحركة غير الملائمة وتبني سلوك بديل مكانها قبل فوات الأوان، قبل أن يحدث ضرر بالغ. وسيؤدي غياب تحذيرٍ كالألم في حالات عديدة إلى الدمار. وبالتالي سيدعم الانتقاء الطبيعي هؤلاء الأفراد الذين يتراجعون عندما يتلقون إشارة تدل على حركة غير ملائمة، أي توقع الخطر الكامن في الحركة. أتوقع أن الألم قد يتطور كإشارة مشابهة، وربما أيضًا الخوف.

كمرحلة ثانية، ربما نعتبر أن الانتقاء الطبيعي سيدعم هذه الكائنات التي تجرّب، بطريقة أو بأخرى، الحركات الممكنة التي قد يمكن تبنيها قبل تنفيذها. بهذه الطريقة، قد يُستبدل سلوك التجريب والخطأ الحقيقي، أو يُسبق، بسلوك التجربة والخطا المتخيل أو غير المباشر. ربما يتكون التخيل مبدأيًا من إشارات ابتدائية عصبية صادرة، تعمل كشكل من التمثيل الرمزي للسلوك الفعلي، ومن نتائجه الممكنة.

وضع ريتشارد دوكينز ببراعة بعض هذه التكهنات بشأن بدايات العقل بقدر كبير من التفصيل18. هناك نقطان رئيسيتان بشأنها. إحداهما أن هذه البدايات للعقل أو الوعي يجب أن تُدعم من قبل الانتقاء الطبيعي، فقط لأنها تعني أن استبدال السلوك المُتخيل أو الرمزي أو غير المباشر بالتجارب الحقيقية التي، إن كانت خاطئة، قد يكون لها عواقب وخيمة. الثانية هي أننا يمكننا هنا تطبيق أفكار الانتقاء والسببية النازلة على ما يبدو واضحًا أنه حالة اختيار: البرنامج المفتوح يسمح لاحتمالات أن تتحقق بشكل مؤقت – على شاشة، مثلما كانت – من أجل إجراء الانتقاء من بين هذه الاحتمالات.

وكمرحلة ثالثة، ربما نضع في اعتبارنا تطور غايات أكثر أو أقل وعيًا، أو أهداف، لأعمال حيوانية هادفة، مثل الصيد. ربما كان الفعل الغريزي غير الواعي موجه الغرض من قبل، لكن بمجرد بدء سلوك التجربة والخطأ المُتخيل أو غير المباشر، يصبح ضروريًا، في حالات الاختيار، تقييم الحالة النهائية للسلوك المتخيل. قد يؤدي هذا إلى الشعور بالتجاهل أو الرفض – إلى توقعات للألم – أو إلى الشعور بالقبول الحريص للحالة النهائية، والمشاعر الأخيرة قد تأتي لتميز وعيًا بالغاية أو الهدف أو الغرض. وفيما يتعلق بالخيارات المفتوحة، قد يتطور شعور بالتفضيل لاحتمالية واحدة بدلًا من الأخرى، تفضيل نوع واحد من الطعام، وبالتالي نوع واحد من المكانة البيئية، بدلًا من الأخرى.

يسمح تطور اللغة، ومعها، العالم الثالث من منتجات العقل البشري، بخطوة إضافية: الخطوة الإنسانية. أنها تسمح لنا بتبرئة أنفسنا من فرضياتنا، وأن ننظر إليها بعين ناقدة. فبينما قد يُنبذ الحيوان غير الناقد مع فرضياته التي يطرحها بشكل عقائدي، ربما نصيغ فرضياتنا، وننتقدها. فلندع ظنوننا، نظرياتنا، تموت بدلًا منا! ربما لا زلنا نتعلم قتل نظرياتنا بدلًا من قتل بعضًا البعض. إن دعم الانتقاء الطبيعي تطور العقل للسبب المشار إليه، فإنه ربما أكثر من مجرد حلم طوباوي أن نشهد انتصارًا لموقف (الموقف العقلاني أو العلمي) القائل بالتخلص من نظرياتنا، آرائنا، عبر النقد العقلاني، بدلًا من التخلص من بعضنا البعض.

ظني بشأن أصل العقل وعلاقة العقل بالجسد، علاقة الوعي بالمستوى السابق من السلوك غير الواعي، هو أن فائدته – قيمة بقائه – مشابهة لتلك الخاصة بالمستويات السابقة. وعلى جميع الأصعدة، يسبق الصنع المطابقة؛ أي، قبل الانتقاء. ويسبق صنع التوقع، الترقب، أو التصور (الذي هو فرضية) اختباره.

إن كان هناك أي ملاحظات بشأن هذا التفسير، فإن عملية الاختلاف، يليها الانتقاء الذي اكتشفه داروين، لا تقدم مجرد تفسير للتطور البيولوجي من الناحية الميكانيكية، أو من ناحية ما وُصف باستخفاف وعن طريق الخطأ بأنه ناحية ميكانيكية، ولكنها بالفعل تسلط الضوء على السببية النازلة؛ على صنع الأعمال الفنية والعلمية؛ وعلى تطور الحرية لصنعها. وبالتالي فإنها مجموعة كاملة من الظواهر المتصلة بتطور الحياة والعقل، وأيضًا منتجات العقل البشري، المضاءة بواسطة الفكرة العظيمة والملهمة التي ندين بها لداروين.


13. اطلع على كتابة تي إتش هكسلي، «فرضية أن الحيوانات كائنات آلية وتاريخها» (1874)، الفصل الخامس من كتابه «أسلوب ونتائج» (لندن: ماكميلان، 1893)، صفحة 239-40. بينما المقطع المقتبس في النص يشير إلى الحيوانات، حيث يستطرد هكسلي، بعد بضع صفحات، بقوله: «… وفق أفضل تقديراتي، الجدال الذي ينطبق على الحيوانات ينطبق جيدًا على الإنسان، وبالتالي .. جميع حالات الوعي لدينا، كحالهم، تعد نتيجة مباشرة للتغيرات الجزيئية لمادة المخ. يبدو لي أنه لدى الإنسان، مثلما لدى الحيوانات، ليس هناك دليل على أن أي حالة للوعي هي سبب التغيير في حركة الكائن الحي … نحن آليي الوعي…» (المرجع نفسه، صفحة 243-44). لقد ناقشت هذه الرؤى لهكسلي في ورقتي البحثية بعنوان «بعض الملاحظات على الروحية الشاملة والظاهراتية المُصاحبة»، في الجدلية، الجزء 31، أرقام 1-2، 1977، صفحات 177-86، وفي مساهمتي في «النفس ودماغها» (اطلع على الملاحظة 12 في الأعلى).

14. إل إل، الجزء الثالث، صفحة 358.

15. مثلما قال سبينوزا، ترتيب واتصال الأشياء هو نفسه ترتيب واتصال الأفكار، وبالتالي فإن ترتيب واتصال الأفكار هو، من وجهة نظر تطورية أو داروينية، تكرار واضح لحديث مُنظّر الهوية.

16. أطلع على كتاب هربرت فيجل، العقلي والجسدي (مينيابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا، 1967)، صفحة 138. أجريت بعض التغييرات على المقولة.

17. اطلع على كتاب إرنست ماير، التطور وتنوع الحياة (كامبريدج، ماساشوستس: مطبعة وبلكناب، مطبعة جامعة هارفارد، 1976) صفحة 23.

18. اطلع على كتاب ريتشارد دوكينز، الجين الأناني (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 1976) صفحة 62.