يمكن القول إن المكان الوحيد في العالم الذي قد يستقبل – في الشهر نفسه – مسؤولين من إسرائيل وإيران وحزب الله، فضلًا عن الملوك والأمراء الخليجيين، ثم يخرج المتحدث الرسمي ليشيد بالضيوف، ويصف الزوار بالأصدقاء والحلفاء، هو مبنى الكرملين، في قلب موسكو، حيث يدير قيصر روسيا الجديد علاقاته المعقدة التي يجمع فيها بين المتناقضات، ويستقبل حجيج الساسة الذين يقصدونه في كل موسم؛ طلبًا للدعم والحماية، أو استجابة لطلب التعاون والتنسيق.

كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو آخر زوار الكرملين، حيث زار العاصمة الروسية على رأس وفد إسرائيلي رفيع المستوى والتقى ببوتين على مدار ثلاث ساعات، وبطبيعة الحال، فقد تصدرت المسألة السورية النقاش بين الرجلين.


بوتين وإسرائيل: الصداقة القديمة تتجدد

منذ جاء بوتين إلى السلطة عام 2000، وضع نصب عينيه إعادة تعزيز علاقاته مع الإسرائيليين. كان الاتحاد السوفيتي أول من بادر بالاعتراف بدولة إسرائيل فور قيامها عام 1948، قبل الولايات المتحدة نفسها، غير أن موسكو قد تراجعت عن سياسة الدعم هذه منذ عهد ستالين لما رأى من تحالف الإسرائيليين مع الغرب. حاول بوتين- الذي بدا منفتحًا على الجميع في المنطقة- منذ مجيئه إلى السلطة أن يعدل تلك السياسة، فكوّن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون علاقة شخصية، ووصفه عام 2003 بالصديق الحقيقي لإسرائيل، تلك الصداقة التي توارثها رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وصولًا إلى رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو. ونشير هنا مثلا إلى أن بوتين قد قام بزيارة إسرائيل في يونيو 2012؛ أي قبل 9 أشهر من أول زيارة لأوباما كرئيس للولايات المتحدة.

أعاد بوتين الدفء للعلاقات الروسية الإسرائيلية بعد أن شابها البرود لعقود طويلة.

حكمت سياسة بوتين تجاه إسرائيل عوامل عدة؛ داخلية وخارجية. مثلت الحرب في الشيشان التحدي الداخلي الأبرز لبوتين، فقام بدراسة التشابهات بينها وبين الصراعات الإسرائيلية مع المنظمات الفلسطينية. وكما يفعل الإسرائيليون، كان بوتين يشير إلى معارك جيشه في القوقاز بوصفها حربًا على الإرهاب، وأشار أكثر من مرة إلى التشابهات بين الحالتين في لقاءاته مع مسؤولين إسرائيليين كبار. وفيما كان العالم يضج بالتصريحات المنددة بانتهاكات حقوق الإنسان في الشيشان، كانت إسرائيل من الدول القليلة التي لم تنتقد بوتين بسبب أفعاله. سعى الجانبان كذلك إلى تطوير روابط اقتصادية قوية، فعملا على تعزيز التبادل في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، خاصة تقنية النانو تكنولوجي، كما أن بوتين قد حاول لعب دور في عملية السلام في الشرق الأوسط، آملاً أن يستعيد جزءًا من النفوذ السوفييتي المنهار، كان بوتين ببساطة يحاول أن يبدو مهمًا.وتجدر الإشارة إلى أن التقارب الروسي الإسرائيلي لم يكن يعني أن موسكو تبنت أجندة تل أبيب في كل الملفات، أو أنها صارت تعرف الصديق من العدو وفقًا للقاموس الإسرائيلي، فقد احتفظت موسكو بعلاقات متميزة مع حليفها التاريخي في دمشق؛ نظام الأسد، عدو إسرائيل وصديق إيران والعمود الفقري لخصم تل أبيب الأبرز؛ حزب الله، كما استقبل الروس قادة حماس بناء على دعوة من بوتين. إن بوتين يسعى إلى أن يكون صديقًا للجميع، بما فيهم إسرائيل، صداقة تعززت حين قرر الروس التدخل بشكل مباشر في الحرب السورية أواخر العام 2015.


المسألة السورية بعيون تل أبيب

من الأفضل لإسرائيل أن يكون في سوريا خصم سياسي متلاحم، نعرف نقاط ضعفه، بدل خطر تكرار النموذج العراقي في سوريا؛ أي تفكك سوريا وتحولها إلى دولة فاشلة، كما أن أي نظام جديد في سوريا يكون مواليًا لتركيا سياسيًا لن يكون بالضرورة مفيداً لإسرائيل.
رون طيرا، مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي

وبغض النظر عن المعارك الدائرة في البلد الجارة، حددت إسرائيل خطوطًا حمراء لا يُسمح بتجاوزها؛ أولها هو عدم نقل أسلحة نوعية من سورية إلى حزب الله، أو من إيران مرورًا بسوريا، ويشمل ذلك السلاح الكيماوي ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة وصواريخ أرض- بحر متطورة وصواريخ أرض – أرض بعيدة المدى. وقد شنت إسرائيل أكثر من مرة غارات على أهداف سورية لهذا الغرض، من بينها غارات على ما قالت إنها مخازن صواريخ تابعة للحزب داخل الأراضي السورية.

كان الجولان هو الخط الأحمر الثاني، في حين قبلت إسرائيل بمشاركة قوات من حزب الله و إيران في القتال إلى جانب قوات النظام في كافة أنحاء التراب السوري؛ وهو ما من شأنه أن يطيل أمد الحرب، ويستنزف حزب الله وإيران. كان الجولان استثناءً من هذا السماح، كان من الصعب على القادة الإسرائيليين القبول بموطئ قدم جديد للحزب في الجولان السوري، يوسع من نقاط تماسه مع إسرائيل. وفي يناير 2015، قصفت المقاتلات الإسرائيلية قافلة عسكرية في منطقة القنيطرة الحدودية، قتل على إثرها ستة من مقاتلي حزب الله، وضابط إيراني يرافقهم. رد الحزب بقصف دورية إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا على الحدود اللبنانية. أرسى هذا القصف والقصف المقابل قواعد اشتباك ضمنية في المنطقة، وأشار إحجام القادة الإسرائيليين عن الرد إلى عدم رغبتهم في التورط بشكل أكبر في المستنقع أو توسيع نطاق الاشتباكات وصولاً إلى حرب شاملة. لقد أكدوا على خطوطهم الحمراء وانتهى الأمر.

http://gty.im/502171816


كيف نظرت إسرائيل للتدخل العسكري الروسي في سوريا؟ نظر الإسرائيليون للدور الروسي في الحرب بعين الرضا، كان من الطبيعي أن يشعر الإسرائيليون بالامتنان لموسكو التي لعبت دور الوسيط بين النظام والمجتمع الدولي فيما عرف بـ «صفقة الكيماوي»، والتي تعهد بموجبها الأسد بتسليم مخزونه من الأسلحة الكيماوية في مقابل تفاديه ضربات جوية أمريكية محتملة. أخيرًا وبرعاية روسية، زال التحدي الإستراتيجي الأكبر لإسرائيل، وصار النظام منزوع الأنياب مقلم الأظافر، ولعل لقاءات المسؤولين الإسرائيليين والروس صارت أكثر دفئًا منذ تلك اللحظة. ما إن أعلن الروس نيتهم توسيع تدخلهم العسكري في الحلبة السورية في سبتمبر 2015، حتى كان الإسرائيليون أول من سعى إلى التنسيق معهم، وأول من سعى الروس للتنسيق معهم. زار نتياهو الكرملين على رأس وفد عسكري رفيع المستوى، سعى الروس في البداية إلى ضمان تنسيق ميداني مع إسرائيل، بما يضمن أقصى قدر من الأمان لطائراتها العاملة في الأجواء السورية، ويمنع تكرار حادث الطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا على الجبهة الجنوبية، كما أن من شأن التنسيق العسكري مع تل أبيب أن يعمق من الروابط على خط موسكو – تل أبيب، في مقابل العلاقات المتوترة لكليهما مع واشنطن وأنقرة، بدا البلدان في حاجة لبعضهما البعض أكثر من أي وقت مضى. كان من شأن التدخل الروسي كذلك أن يحد من التأثير المتزايد لحزب الله وإيران في البلد الجار، وهو ما أضاف سببًا هامًا للترحيب الإسرائيلي بهكذا تدخل.

رأى الإسرائيليون في التدخل الروسي وسيلة لضمان خطوطهم الحمراء في سوريا بدون الحاجة لتدخل مباشر من إسرائيل.

يرى الإسرائيليون في الروس وسيلة لضمان «خطوطهم الحمراء» بدون تدخل مباشر، وتخفيفًا للأعباء عن كاهل قواتهم. وفي زيارته الأخيرة إلى موسكو، أعلن نتنياهو أنه تلقى تأكيدات من القيادة الروسية بمنع وصول السلاح إلى حزب الله، كما أعاد التأكيد على ثابته القديم؛ وهو رفضه التنازل عن الجولان طوعًا أو كرهًا، «سواء كان هناك اتفاق – مع السوريين – أو لم يكن، فإن مرتفعات الجولان ستظل تحت السيادة الإسرائيلية»، يقول نتنياهو.دام الاجتماع بين الرجلين ثلاث ساعات، وبحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، فقد كان أحد أسباب الزيارة هو تعرض طائرات إسرائيلية لإطلاق نار في أجواء سوريا مرتين من قبل قوات روسية وسورية. وكان نتنياهو قد ألمح إلى ذلك بقوله إنه جاء للكرملين من أجل منع «حوادث ومصادمات زائدة». وتابع في تلميحه: «أعتقد أن المشاكل التي ثارت في الآونة الأخيرة قد حلت وهذا إنجاز كبير جدًا لنا أن نحتفظ بحرية الحركة لطائراتنا في سماء سوريا وأن تصان مصالحنا الأمنية بهدف الدفاع الذاتي». حين يزور نتنياهو موسكو مرة أخرى في السابع من يونيو؛ تلبية للدعوة التي تلقاها من بوتين بمناسبة مرور 25 عامًا على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ستكون هذه هي المرة الرابعة التي يلتقي فيها الرجلان خلال أقل من عام، وسيجري خلال تلك الزيارة اتفاقًا لتحويل رواتب التقاعد إلى الإسرائيليين من أصل روسي الذين هاجروا إلى إسرائيل في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. تبدو موسكو وتل أبيب حريصتيْن على تعزيز التعاون اليوم أكثر من أي وقت مضى. وما لم تفاجئنا الأقدار بمعجزاتها، فإن الاجتماع الرابع، كما في الاجتماعات الثلاثة السابقة، سيكون الملف السوري فيه هو الحاضر الأكبر، فوحدها سوريا، حليف بوتين، وعدو إسرائيل المفترض، أكسبت العلاقات بين البلدين كل هذا الدفء، ظاهريا علي الأقل.