جاء الكشف الذي وصلت إليه الأقمار الصناعية الأمريكية بأن بكين تبني صوامع لصواريخ نووية جديدة عابرة للقارات ليحيي المخاوف من اشتعال سباق نووي بين الولايات المتحدة الأمريكية التي تتشبث بمقعد الزعامة والقوة الصينية الصاعدة.

فقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست في يونيو/حزيران الماضي تقريرًا يفيد برصد 120 صومعة للصواريخ في موقع بمنطقة صحراوية في مقاطعة قانسو، وتلا ذلك إعلان اتحاد العلماء الأمريكيين الذي ينشط في مجال مراقبة الأسلحة النووية في تقرير له أن صور أقمار صناعية أخرى التقطت من مقاطعة شينجيانغ بينت أعمال تشييد مشابهة لحوالي 110 صومعات من المتوقع أن تخصص لصواريخ تحمل رءوسًا نووية.

وتقع المقاطعتان المذكورتان في شمال غرب البلاد، أي في أقصى العمق الصيني بالقرب من الحدود المنغولية، مما يجعل هذه المواقع بعيدة عن مرمى معظم الصواريخ الأمريكية.

التعلم من الدرس السوفيتي

وبينما لم يرد الصينيون بشكل مباشر على هذه التقارير الأمريكية، سواء بالتأكيد أو بالنفي، حاولت وسائل إعلامهم الزعم بأن هذه المواقع عبارة عن طواحين هواء لتوليد الطاقة من الرياح، لكن هذه التطورات أثارت قلقًا بالغًا في الغرب، واعتبر وزير الخارجية الأمريكي أن «النمو السريع للترسانة النووية للصين يظهر انحراف بكين الحاد عن استراتيجيتها النووية القائمة منذ عقود على سياسة الحد الأدنى من الردع».

وحذرت تقارير غربية من أن بكين تسعى لتعظيم قدراتها النووية للحفاظ على رادع يمكنه الصمود في وجه ضربة نووية أولى، بل توجيه الضربة الثانية بكل قوة، لكن الصينيين في الحقيقة يتطلعون لما هو أبعد من ذلك؛ فهم يقولون إن هدفهم ليس فقط ضمان القدرة على توجيه ضربة انتقامية على أي استهداف نووي أمريكي، بل لمنع تفكير واشنطن في الضربة الأولى من الأساس، وهذا أعلى درجات الردع. فهم يرون أن بلادهم بعدما قطعت أشواطًا هائلة فيما يخص القدرات العسكرية التقليدية، تبدو في حاجة ملحة لتعزيز الردع النووي، وأن خطوتهم التالية هي ضمان ألا تجرؤ الولايات المتحدة على فرض رادع نووي عليهم كحل أخير إذا فقدت قدرتها على التدخل العسكري التقليدي في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وهما ساحتا المواجهة المحتملة بين بكين وواشنطن.

مؤخرًا، حذر قائد القيادة الاستراتيجية بالولايات المتحدة، الأدميرال تشارلز ريتشارد، المسئول عن ترسانة الأسلحة النووية الأمريكية، من أنه على الرغم من أن بلاده لديها الآن صواريخ باليستية عابرة للقارات أكثر من الصين، فإن الفارق بينهما يتضاءل بسرعة، وقال أمام جلسة استماع في الكونجرس، في أبريل/نيسان الماضي، إن الصينيين لا يطورون فقط الصواريخ الباليستية العابرة القارات، بل أيضًا منصات إطلاق صواريخ متنقلة لا ترصدها الأقمار الصناعية، وغواصات مزودة بأسلحة نووية.

وقد ذكر البنتاجون، في «التقرير العسكري الصيني لعام 2020»، أن بكين ستضاعف حجم مخزونها النووي خلال العقد المقبل على الأرجح.

ولم تكن الصين خلال العقود الماضية تستثمر في تطوير إمكاناتها النووية؛ لأن قادتها كانوا يعتقدون أن لديهم أولويات أخرى أكثر أهمية، خاصة أن بلادهم لم تكن عرضة لأي تهديد خارجي، لكن يبدو أنه تم التخلي عن هذه الرؤية في ظل القيادة الحالية التي انخرطت في نزاعات متزايدة مع الدول الغربية، ما دفع بكين إلى مواكبة الواقع الجيوسياسي الجديد الذي يسعى فيه خصومها إلى احتواء صعودها، وترى أن الحل الوحيد هو زيادة تعزيز قوتها حتى تعترف الدول الغربية بوضعها المستجد، وبالتالي فإن امتلاك ترسانة أكبر من شأنه أن يجعل الخصوم يحترمونها بالشكل المطلوب ويمارسون المزيد من ضبط النفس عند التعامل معها.

وقد أعطى الرئيس شي جين بينج أوامره إلى الجيش، في مارس/آذار 2021، بـ«تسريع بناء قدرات الردع الاستراتيجي المتقدمة»، والتي كانت أقوى وأوضح تعليمات بهذا الشأن، لتبدأ بعدها التقارير الغربية ترصد طفرة في بناء صوامع الصواريخ المخصصة لحمل رءوس نووية.

وقد تعلم الصينيون الدرس السوفيتي الذي مفاده أن الدولة قد تنهار وهي في أوج قوتها العسكرية بسبب الضعف الاقتصادي، واليوم يأتي الاهتمام بالجانب العسكري بعد عقود من التنمية الاقتصادية المتسارعة التي تمنح البلاد القدرة على ضخ الأموال في القدرات النووية دون أن تتسبب بعملية استنزاف لمواردها.

عودة سباق التسلح النووي

حظيت الصين بنصيب الأسد في وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي، التي نشرها البيت الأبيض في مارس/آذار بعد 45 يومًا من تقلد بايدن الحكم، وظهر فيها توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة التي تعتبر أن الاختبار الجيوسياسي الأهم لواشنطن في القرن الحادي والعشرين هو علاقتها كقوة عظمى مع الصين التي وُصفت بأنها صارت «أكثر ثقة بالنفس»، وأكدت الوثيقة على ضرورة التعامل معها من موضع قوة.

ورغم أنه من الناحية الرسمية تؤكد الصين دائمًا أنها لن تكون البادئ بأي ضربة نووية، لكن عمليًّا لا يوجد أي ضمانة لهذا الالتزام النظري، وقد حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن من زيادة احتمال نشوب حرب عرضية بسبب ظهور «أسلحة جديدة وخطيرة ومتطورة تأتي على الساحة الآن تقلل من أوقات الاستجابة».

وتبرز الصين كقوة نووية غير مقيدة بمعاهدات الحد من التسلح، وتبرر إحجامها التقليدي عن الدخول في هذه الاتفاقات مع روسيا والولايات المتحدة بحجة أن ترسانتها أصغر مما لديهما؛ فروسيا والولايات المتحدة تملكان أكثر من 90٪ من الرءوس النووية، إذ تحوز كل منهما نحو 6 آلاف رأس نووي (يقدر البنتاجون مخزون الصين النووي بما يزيد عن 200 رأس حربي في 2020)، وتعمل التحسينات في القدرات الأمريكية باستمرار على تذكير بكين بالضعف المحتمل لردعها النووي وضرورة مواكبة هذا السباق، وتسببت هذه المساعي الصينية في تعقيد جهود الحد من التسلح.

فلا يتحقق التوازن والاستقرار في هذه المنافسة إلا بثقة كل طرف من قدرة الآخر على تدميره، ولهذا شكل نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي تهديدًا للأمن القومي لروسيا والصين، رغم أنه دفاعي الطابع، ولكن لأنه يخرج الأراضي الأمريكية من دائرة الاستهداف؛ وبذلك يخل بتوازن الردع، مما دفع الآخرين إلى البحث عن أسلحة جديدة يمكن أن تتجنب تلك الدفاعات، لاستعادة التوازن.

ويبدو الموقف اليوم مشابهًا لبداية دخول الأسلحة النووية إلى الساحة في بداية الحرب الباردة، إذ كان العالم يقف على أطراف أصابعه خشية اندلاع حرب نووية عالمية بين موسكو وواشنطن قد تفني الحياة على كوكب الأرض، وكان لدى الأمريكيين 3500 سلاح نووي، ولدى السوفيت ما لا يزيد على 500 في عام 1962، إبان أزمة الصواريخ الكوبية حين وصلت الخطورة إلى أعلى درجاتها، لكن بعد هذه الأزمة بدأت القوتان في رسم ملامح معادلة التوازن بينهما، حتى تم الوصول إلى مرحلة الحد من التسلح حين أدرك الطرفان استحالة مواصلة السباق الخطر إلى ما لا نهاية، واعترف كل منهما بقوة الآخر، وهي النقطة التي تهدف الصين اليوم إلى بلوغها.