سيواصل الملعب الجديد كونه مسرحاً للمشاعر التي سترسم مستقبل ريال مدريد، سيكون أفضل ملعب في العالم ليُكرَّم من جديد في نهاية القرن كأفضل ملعب في القرن الـ 21. نريده ملعباً جديداً، إرثاً وفخراً لأعضائنا ومشجعينا.
فلورنتينو بيريز، رئيس ريال مدريد

يسعى ريال مدريد العصر الحديث إلى صناعة صورة ذهنية تضعه في مكانة مختلفة عن بقية الأندية حول العالم. تبرز كرة القدم كجزء من التخطيط نحو هذا الهدف، لكن هناك بعض الجوانب التي لا علاقة لها بكرة القدم على الإطلاق.

أدى هذا أحياناً إلى بعض  القرارات الرياضية الكارثية، مثل تلك التي  تناولها تقرير خلال العام 2015 نُسب لأحد المصادر المقربة من بيريز عن كواليس التعاقد مع الإنجليزي ديفيد بيكهام بدلاً من البرازيلي رونالدينيو. 

كان رونالدينيو أكثر جاذبية كلاعب كرة قدم دون شك، لكن هذا لم يكن المعيار لدى إدارة الميرينجي، حيث تم رفض النجم البرازيلي لأن ملامحه قبيحة كما وصفوه، بعد أن تم تحذير بيريز من جانب شركائه بأن التعاقد معه سيغرق العلامة التجارية لريال مدريد.

غرق  ريال مدريد رياضياً بعدها لسنوات، لكنه لم يغرق أبداً في بورصة الأندية، حققت مبيعات قمصان بيكهام الهدف المرجو منها، وكان للنادي الريادة في استغلال حقوق صور اللاعب حول العالم.

اتخذ ريال مدريد بعض القرارات الكروية التي كان بعضها صحيحاً والآخر خاطئاً، ولكن سياسته الاقتصادية بشكل عام ظلت تسير في اتجاه إيجابي، الأمر الذي جعله قادراً على شراء كريستيانو رونالدو عام 2009، ومكَّنه من صناعة الجيل الذهبي الذي حقق بطولة دوري أبطال أوروبا العاشرة بجيل يمكن اعتباره ذهبياً لريال مدريد.

انطلاقاً من الدافع نفسه أنشأ ريال مدريد سلسلة مطاعم تحمل علامته التجارية، على أن يكون أول الفروع في المكسيك وليس إسبانيا بناءً على دراسات داخلية أفادت أن ذلك سيكون أكثر إفادة للنادي. كذلك فكرة تجديد ملعب سانتياجو بيرنابيو الذي لطالما حلم بها بيريز لسنوات ليكون عاصمة إمبراطورية ريال مدريد، والتي يريدها بيريز أن تكون الأهم والأغلى دائمًا في عالم كرة القدم.

هنا يظهر لنا سؤال واضح؛ هل تلك هي طريقة ريال مدريد  منذ الأبد أم أنها طريقة مستحدثة في عهد بيريز؟ يمكننا العودة بالزمن لسنوات وعقود، قبل حتى أن يكون لهذا النادي العظيم ملعب باسمه.

إعادة الحياة بعد الحرب العالمية

انتهت الحرب الأهلية في إسبانيا عام 1936 تاركة وراءها غالبية المدن ومعالمها في حالة خراب، ولم تسلم العاصمة من خراب الحرب هذا بالطبع، كان ملعب تشامارتين معقل ريال مدريد حينها واحداً من المنشآت التي نالتها أيدي الخراب، فقرر النادي إنفاق مبلغ ضخم لصيانته ليكون جاهزاً لاستقبال المباريات من جديد.

وعلى الرغم من أن التوقعات كانت تشير إلى عزوف الجماهير عن المدرجات بسبب الحالة الاقتصادية التي أصابت الجميع جراء الحرب، فإن عودة الريال في مباراة الديربي أمام جاره أتلتيكو أثبتت أن لا شيء يمنع مجاذيب كرة القدم من متابعتها.

 بعد سنوات أصبح سانتياجو بيرنابيو رئيساً للنادي الذي كان حطاماً لا أكثر، فبالرغم من التجديدات التي طرأت على الملعب، فإن آثار الدمار لا زالت تظهر عليه، بالإضافة إلى أن العديد من الكوادر في النادي فُقدوا خلال الحرب، علاوة على ذلك اختفى عدد لا بأس به من الكئوس والأوسمة التي حصل عليها النادي. شعر سانتياجو حينئذٍ أن النادي يسير إلى الهاوية إذا بقيت الأمور على حالها.

تسلم بيرنابيو زمام الأمور، وكان نادي ريال مدريد متهالكاً وشبه مُدمر، ليتخذ قراراً كان هو الأهم في تاريخ ريال مدريد، بناء ملعب تشامارتين الجديد، والذي سُمي باسمه لاحقاً، وهو الملعب نفسه الذي نعرفه الآن، ساهم  الملعب في إحياء النادي بعدما أصبح الدجاجة التي تبيض ذهباً دائماً. 

يعتقد الجميع أن إحياء النادي تم على أيدي العديد من الأساطير الذين تألقوا في عهد بيرنابيو، مثل ألفريدو دي ستيفانو، لكن الملعب كان المشروع الأهم في تاريخ النادي. كان حب بيرنابيو خالصاً للنادي دون الالتفات للمصالح الشخصية أبداً، لدرجة جعلته يعارض بشدة إطلاق اسمه على الملعب الجديد، ولكنه استسلم أخيراً أمام ضغوط من أحبوه.

بيريز.. سانتياجو بيرنابيو القرن؟

كان سرد الخلفية التاريخية للصرح الكبير لريال مدريد ضرورياً في هذا السياق، لأنه يكشف الهدف الأهم لـ «فلورنتينو بيريز» رئيس ريال مدريد الحالي بقراره تجديد الملعب الذي بدأ عام 2019، ولم تنتهِ مراحل التجديد النهائية بعد.

في الحقيقة، فكرة التطوير الهائل للملعب بدأت تراود بيريز عام 2009، وكشف عنها بشكل رسمي عام 2010، لكن بعض الأمور الإدارية حالت دون البدء في التنفيذ حتى عام 2019.

وعلى الرغم من أن 900 مليار يورو يعد مبلغاً ضخماً لبناء ملعب جديد، وذلك بحسب صحيفة ماركا، فإن بيريز يعرف جيداً أن أثر هذا التطوير ومدى استفادة النادي مادياً في المستقبل، كما أنه سيخلد اسمه في تاريخ الريال تماماً مثل بيرنابيو.

من المؤكد أن ذهن رئيس النادي لا يخلو من أفكار كتلك، فهو يعي جيداً ما يفعل، لذا اشتُهر بالدهاء. صرح بيريز عام 2017 أن كريستيانو رونالدو هو خليفة دي ستيفانو. وإن كان رونالدو هو دي ستيفانو، فمنطقي أن يتحول بيريز إلى سانتيجو بيرنابيو على الفور. اختيار الأسماء لا يكون صدفة عند بيريز.

لاحظ أيضاً أن رونالدو انضم للريال في العام نفسه الذي بدأت فيه فكرة التطوير الهائل للملعب. فهل هناك محاكاة حرفية لسيرة ريال مدريد في الخمسينيات؟ لا تستبعد ذلك.

على صعيد الشخصية، فمن المؤكد أن بيريز وبيرنابيو يختلفان كثيرًا، فالرئيس السابق لم يهتم بإبراز إنجازه الشخصي كما ذكرنا، أما الحالي فعُرف عنه الغرور وحب الظهور والسيطرة، خاصة أنه واحد من أهم رجال الأعمال بثروة تزيد قيمتها على ملياري يورو، ونتج عن ذلك عداوته مع كثير من النجوم الذين ربما خطفوا منه الأضواء.

عاصمة إمبراطورية الميرينجي

إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، لا تكفي بطولات كرة القدم لوصف ريال مدريد بهذا الوصف، إذ إن هناك فترات صعود وهبوط وابتعاد منطقي عن البطولات، أما اقتصادياً، فالمقولة صحيحة بنسبة 100%.

لم تنتهِ أعمال التجديد بعد، ولكن من المقرر أن تتم كلياً في ديسمبر المقبل. ومع التحسينات الكبيرة التي طرأت في الملعب، من المتوقع أن تصل المداخيل المالية بداية من عام 2024 إلى 150 مليون دولار.

لن تكون مباريات ريال مدريد هي المصدر الوحيد لجلب الأموال بالطبع، فالملعب متعدد الاستخدامات كحال عدد من الملاعب حول العالم، لكنه سيكون الأفضل من بين كل تلك الملاعب.  

بدأ فعلياً تحديد موعد الحفلات الموسيقية التي ستكون عاملاً ضخماً في إنعاش خزينة النادي بشكل مستمر. في مايو/أيار المقبل ستحيي المغنية الأمريكية «سويفت تايلور» أولى الحفلات الغنائية، ثم مغني الراب الشهير «روكي» في  يونيو/حزيران، بالإضافة إلى العديد من السهرات التي أعلن عنها النادي بالفعل.

ولكن، ألن يؤثر ذلك على العشب؟ ريال مدريد لا يترك شيئاً للصدفة.

التعلم من الماضي

ربما تعتقد أن كثرة الحفلات هو الذي سيؤثر على كفاءة العشب، وربما سمعت أيضًا أن أرضية الملعب قابلة للطي واستبدالها بأخرى بطبيعة مختلفة. ولكن الحفلات ليست السبب الرئيسي لاستخدام خاصية الأرض المتحركة.

هندسياً، زيادة حجم المدرجات أمر غير جيد بالنسبة لأرضية الملعب التي تضعف من وصول الضوء مهما بلغت درجة ميل المدرج، وهذا ما حدث في حقبة التسعينيات عندما زاد ارتفاع الملعب من ٢٢ متراً إلى ٤٥ متر تقريباً، مما تسبب في هلاك العشب الأخضر سريعًا، واضطرار النادي لتحمل تكلفة الصيانة بعد فترة قصيرة من تجديد الملعب.

أما في الحقبة الحالية، فلن يضطر النادي إلى تكرار الأمر نفسه، الملعب يتحرك بشكل محسوب ويتعرض للإضاءة بشكل كافٍ، ولن كون هناك حاجة  للتجديد أو الصيانة بعد كل هذه التكلفة.

يعتبر باريس سان جيرمان الفرنسي هو الأعلى حصولاً على إيرادات من الملعب بين كل أندية أوروبا في العام الماضي، وتصل قيمة العوائد إلى نحو ١٢٦ مليون يورو، يليه ليفربول بـ 112 مليون، أما ريال مدريد فيحتل المركز السادس بقيمة  ٨٨ مليون يورو. 

أكثر من 70 مليون يورو على أقل تقدير هي قفزة من عوائد الملعب فقط، دون حساب بقية العوائد التي تضخ أموالاً للنادي، وعلى الرغم من النجاحات الساحقة في السنوات الماضية مادياً، فإن بيريز لم يتردد في المشروع الذي سيزيد من قوة مدريد الاقتصادية مستقبلاً لتخليد اسمه لفترة ليست بالقصيرة تماماً كما حدث مع سانتياجو بيرنابيو.

لن يكون سانتياجو بيرنابيو بعد التجديد ملعباً عادياً، سيتفوق على الجميع بالإيرادات، ويجذب الزائرين كونه تحفة فنية تشبه المركبة الفضائية التي تعبر عن المستقبل، وسيسعى كثير من كبار أوروبا إلى أن يسلكوا طريقه، ولكن هذا سيكون أمراً شاقاً يتطلب الكثير من الأدوات التي يمتلكها هذا النادي وتميزه عن غيره، منهم الشعبية الواسعة حول العالم، وشخصية عبقرية مثل بيريز.