لا شيء يبقى على حاله في هذه المنطقة من العالم، وفي هذا الزمان تحديدًا. الحلفاء لم يعودوا كذلك بل تنقطع عرى تحالفاتهم يومًا بعد يوم، وتعلو قيمة المصلحة الآنية على قيمة الاتجاهات الاستراتيجية الراسخة. تركيا هي البوابة الشرقية لحلف الناتو، تحمي سماءها بأنظمة مشتراة من العدو الروسي نظريًا، الصديق حاليًا. وبينما تتدهور العلاقات يوما بعد يوم بين تركيا وأمريكا، تشير كافة التقارير الاستراتيجية إلى احتمالية نشوء شراكة ثلاثية بين روسيا – تركيا – إيران. فإلى أي منحدر ستتجه العلاقات التركية الأمريكية؟ وإلى أي مدى سيصعد الحلف الجديد؟


تركيا وأمريكا على طريق الصدام

الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول، و في سابقة جديدة، قالت البعثة الأمريكية في تركيا إنها علقت كل خدمات إصدار التأشيرات باستثناء الهجرة بكل منشآتها الدبلوماسية في تركيا. كان موظف بالقنصلية الأمريكية في إسطنبول قد احتجز قبلها بتهمة ارتباطه بفتح الله غولن، رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة، الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب التي وقعت العام الماضي، وذلك في إجراء نددت به واشنطن ووصفته بأنه لا أساس له ويضر بالعلاقات بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي.

ترى أمريكا أن القوات الكردية هي حصانها الأسود في الحرب الدائرة ضد داعش بينما ترى تركيا فيها خطرًا على أمنها القومي.

ردت تركيا على هذه الإجراءات بخطوات مماثلة، لتشهد العلاقات بين البلدين صدامًا جديدًا على المستوى الدبلوماسي، هذا بينما تتعارض المصالح الأمريكية – التركية على عدة مستويات يمكننا إجمال أبرزها في الآتي:أولا: الدعم الأمريكي اللامحدود للقوات الكردية المحاربة في سوريا. ترى أمريكا أن هذه القوات هي حصانها الأسود في الحرب الدائرة ضد داعش، بينما ترى تركيا فيها خطرًا على أمنها القومي، حيث ترتبط وحدات حماية الشعب الكردي بحزب العمال الكردستاني ارتباطًا عضويًا وتخاف تركيا أيضًا من أن يتمكن الأكراد في سوريا من ربط الكانتونات الواقعة تحت سيطرتهم لإقامة دولة تشكل تهديدًا إضافيًا للوجود التركي.ثانيًا: الرضا الأمريكي عن محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في 15 يوليو/تموز عام 2016، حيث أشارت عدة تقارير إلى وجود تدخل أمريكي استخباراتي لدعم المحاولة ثم لاحقا تأخر الإدانة الأمريكية لعملية الانقلاب، وتستر أمريكا على فتح الله كولن، ورفضها تسليمه، رغم المطالبة الرسمية التركية والشخصية من أردوغان مرة إلى أوباما وأخرى إلى ترامب.ثالثًا: وعلى المستوى الداخلي أدت محاولة الانقلاب إلى ردة تركية عن المسار الديمقراطي بعشرات الآلاف من المعتقلين في السجون أو المفصولين عن وظائفهم، وتلا ذلك الرد الأمريكي والأوروبي الغاضب على قرارات الاعتقال والفصل التي صدرت في تركيا ضد المؤيدين لجماعة كولن. في النهاية، ما تزال كلتا الدولتين على طريق الصدام، لكن أيًا منهما لا تريد لهذا الطريق أن يستمر طويلاً، فمهما كانت المتغيرات التكتيكية على الأرض في سوريا أو في الداخل التركي، فإن هذه المتغيرات لا تساوي في النهاية تغيرًا في التحالف الاستراتيجي بين تركيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة.ومن جهة أخرى، فإن كل تضاد تتشارك فيه الحليفتان تركيا – أمريكا يساوي فرصة تقارب مع الحلف الروسي – الإيراني، فإلى أي مدى سوف تنحرف تركيا بعيدًا عن مجالها الآمن؟


تركيا والاتجاه نحو الشرق: إيران أولاً

الأكراد كلمة السر وراء العلاقة التركية – الإيرانية الآن، فكلتا الدولتين تملكان نفس المشكلة وهي قومية كردية واسعة ذات طموح كبير، طموح كفيل بتهديد الكيان القومي لكلتا الدولتين، وفي حال قيام الدولة الكردية في العراق؛ فما الذي يمنع أكراد تركيا أو إيران من السعي نحو نفس الحلم؟في ظروف إقليمية أخرى، ما كان ممكنًا للأتراك التوجه نحو المحور الإيراني الروسي. لكن الأمور اختلفت بعد محاولة الإنقلاب الأخيرة، وتباعد المسافات بين تركيا وشركائها في حلف الناتو، وما تلا ذلك من أزمات متعددة عبّر عنها على سبيل المثال سحب الحلف بطاريات باتريوت التي تم نقلها من قبل حلف شمال الأطلسي إلى الحدود الجنوبية التركية لمواجهة التهديد الصاروخي القادم من قبل النظام السوري.يمكن الآن لتركيا أن تتجه للشرق بكل أريحية، عسى أن تمنع تهاوي حصن آخر من حصون أمنها الإقليمي على يد دولة الأكراد. بلا شك، يرى كل من الأتراك والإيرانيين خطرًا داهمًا على أمنهم القومي في حال قيام الدولة الكردية. بادرت كلتا الدولتين إلى تصعيد شديد اللهجة تجاه الاستفتاء، وكان لقاء أردوغان وروحاني نقطة فاصلة في مسار الإقليم ليبدأ الحديث عن خطة طريق تركية – إيرانية للتعامل مع الاستفتاء، حيث قال روحاني: «على تركيا وإيران القيام بأي إجراء ممكن لمواجهة استفتاء كردستان العراق».أما التقارب العسكري، فقد بدأ قبل ذلك بزيارة من إيران، حيث التقى قائد أركان الجيش الإيراني اللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان التركية خلوصي آكار، في زيارة رسمية إلى تركيا، تلاها زيارة من خلوصي آكار إلى إيران، ثم حصار جوي وبري على الإقليم، ومقاطعة اقتصادية ودبلوماسية، وتهديد صريح من أردوغان بقطع خطوط تصدير النفط التابعة لإقليم كردستان. وفي النهاية، سيكون التدخل العسكري خيارًا مطروحًا بلا شك. هذا ما تشير إليه التقارير المبدئية عن نتائج مباحثات الجانبين. ولكن هل يمكن أن ينجح التعاون الإيراني التركي دون تسوية قضية سوريا؟!يبدو ذلك ممكنًا، حيث تهاوت فرص الميليشيات الإسلامية المقاتلة في البلاد والمدعومة تركيًا، وبتراجعها تحاول تركيا الحفاظ على ماء وجهها إقليميًا، لذا لن تجد أنقرة غضاضة في التهاون قليلاً فيما يخص الشأن السوري مقابل تسوية القضية الكردية. وفي اللقاء بينهما، اتفق كلا الزعيمين على دعم وحدة الأراضي السورية وسيادتها وضرورة استمرار التعاون في إطار مباحثات آستانا. وقال الرئيس التركي إن البلدين اتفقا على ضرورة العمل لإنجاح مناطق خفض التوتر في سوريا التي تعد كلا من تركيا وإيران وروسيا ضامنين لوجودها واستمرارها.وإذا أضفنا إلى ذلك الأزمة الدبلوماسية في الخليج العربي الناجمة عن حصار قطر ووقوف كلتا الدولتين على أرضية مشتركة، هي دعم الدوحة ومحاولة تخفيف الحصار عنها، فيمكننا أن نقرأ في الأفق أن الشراكة التركية الإيرانية ضرورة تكتيكية لكلتا الدولتين، ومن المرجّح أن تلعب دورًا كبيرًا في حلحلة أزمات الإقليم.


تركيا وروسيا: تقارب تغطيه صواريخ S-400

يمكن الآن لتركيا أن تتجه للشرق بكل أريحية، عسى أن تمنع تهاوي حصن آخر من حصون أمنها الإقليمي على يد دولة الأكراد.

قلنا سابقًا إن الموقف الغربي من محاولة الانقلاب في تركيا، وما تلاه من سحب صواريخ الباتريوت التابعة لحلف الناتو أدى إلى تهاوي الثقة بين تركيا وحلفائها الغربيين. لم تنتظر تركيا كثيرًا قبل أن تتجه إلى روسيا هذه المرة سعيًا وراء واحدة من أكثر أنظمة الدفاع الجوي تطورًا حول العالم. ففي يوليو/تموز الماضي،أعلن وزير الدفاع التركي اكتمال الاتفاق بين موسكو وأنقرة على صفقة شراء نظام الدفاع الصاروخي إس 400.الأمر هنا لا يقف عند مجرد شراء أنظمة من دولة المفترض أنها معادية لحلف الناتو، بل يضرب في صميم عمل الحلف نفسه، فأنظمة S-400 لن تكون متوافقة إطلاقا مع عمل منظومات الدفاع الجوي في الحلف، الأمر الذي يعني عسكريا وعلى الأرض أن مظلة الترصد الجوي والراداري للحلف لن تكون متوافقة مع تلك التركية، وإذا مددنا الخيط على استقامته، ستكون فكرة خروج تركيا من الحلف أمرًا منتظرًا بشكل أو بآخر. يبدو هذا الأمر مستبعدًا على المدى القريب ومنظورًا على المدى الاستراتيجي، ويمكن أن نفسر هذا التقارب العسكري بأنه محاولة لابتزاز حلف الناتو والتهديد بالخطر الروسي في حال ظل الناتو ومن يسيّره على موقفه المتجاهل للدولة التركية.

أدى الموقف الغربي من محاولة الانقلاب في تركيا وما تلاه من سحب صواريخ الباتريوت، إلى تهاوي الثقة بين تركيا وحلفائها الغربيين.

أما على الجانب الأمريكي، فلم تمر أخبار الصفقة التركية الروسية دون ردود فعل غاضبة، الأمر الذي بدا واضحًا من خلال تصريحات رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال جوزيف دانفورد، في 23 يوليو/تموز الماضي، في منتدى أمني في ولاية كولورادو الأميركية، عبر قوله: «لم تأخذ (تركيا) بعد نظام إس 400 الدفاعي الصاروخي من روسيا، ومن شأن ذلك أن يكون مصدر قلق لدينا، لأنهم عازمون على فعل ذلك، لكنهم لم يفعلوا ذلك بعد»، مشيرًا إلى استحالة ربط نظام إس 400 بشبكة حلف شمال الأطلسي.أما على الجانب الروسي فيمكننا أن نقرأ هذه الصفقة كجزء من الاستراتيجية الروسية لتقويض حلف شمال الأطلسي، وخصوصًا أن العقيدة الروسية، التي تم تحديثها في 2014، حددت الحلف كأحد المخاطر العسكرية الخارجية الرئيسية. ويبدو الأمر ذا دلالة خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن إيران مثلا لم تتمكن حتى الآن من توقيع صفقة مماثلة مع روسيا، فأكثر أنظمة دفاعها تطورًا هو S-300 والذي حصلت عليه العام الماضي.إذا أضفنا إلى هذه الأمور الجانب الاقتصادي حيث يصل حجم التبادل التجاري الروسي التركي 28 مليار دولار ومن المتوقع مضاعفته إلى جانب التعاون الروسي التركي في ملفات متعددة أبرزها بناء مفاعل للطاقة النووية بتركيا، وإكمال بناء خط الغاز «ترك ستريم» والذي سينقل الغازمن قلب روسيا إلى وسط أوروبا. كل هذه الأمور تساهم بشدة في تعميق الشراكة الروسية-التركية.

تأتي أخيرًا عملية إدلب التي تتحرك فيها قوات الجيش السوري الحر المدعومة من تركيا بغطاء جوي روسي، لتقول إن المسألة السورية التي كانت تعكر صفو العلاقات التركية مع روسيا وإيران، قد انتهت إلى تسوية ارتضتها الدول الثلاث، بل وأضحت نقطة التقاء جديد بينها. هذا هو المشهد الحالي الذي تنتمي إليه تركيا الجديدة؛ تركيا التي بناها أردوغان وحزب العدالة والتنمية على مدى أكثر من 15 عامًا ببطء وصبر شديد، لكن بجد شديد كذلك.