ربما نعتقد أن فيروس كورونا أفسد حياتنا، وأجبرنا على الالتزام بالمنازل، ويضيق صدرنا بالملل من العزل الصحي وحظر التجوال، وتتوقف الحياة ولا يكاد يمر الزمن، فالأيام متماثلة ولا جديد في الروتين اليومي، لكن لبعض الناس مثل إسحاق نيوتن (مكتشف الجاذبية الأرضية) كان فرصة، ولوليام شكسبير كان إلهاماً.

يدّعي المتدينون أنه غضب من الله على الناس، لضياع الدين وانتشار الانحلال، بينما يؤمن عشاق نظرية المؤامرة، أن انتشار الفيروس ما هو إلا مؤامرة دولية، تقودها الولايات المتحدة أو الصين. لكن، ربما هو فقط فصل آخر في عشوائية الحياة، وإشارة إلى ضعف الإنسان مهما زادت قوته، ودعوة إلى استثمار الوقت، والاستمتاع بالحياة دائماً، فهي زائلة، وإن كان مخلوقاً ضئيلاً مثل فيروس خفي، قد نجح في شل الحياة ونشر الرعب وإثارة الذعر، فالحياة أقصر من أن نقضيها في قلق وخوف. هذا ما أدركه المفكرون قديماً، وأحسن ليوناردو دافنشي استغلاله كما سنرى.

لا جديد يُذكر بخصوص الأحداث الحالية، فالعالم أُصيب بعدد لا بأس به من الأوبئة والأمراض من قبل، وعاش الناس فترات طويلة من الرعب والعزل، حيث اضطر الجميع لقضاء أوقاتهم بالمنازل، ومات أصدقاؤهم وأفراد عائلتهم.

فقَدَ ويليام شكسبير ابنه الوحيد وبعض شقيقاته وأصدقاءه خلال فترة انتشار الطاعون، لكنه فطن إلى استغلال هذا الوقت وأفرغ عبقريته في كتاباته.

العزل المنزلي يمثل فرصة مثالية، للغارقين في زحمة الحياة، ويوفر الوقت المطلوب لإنجاز المشاريع المتوقفة، الرواية التي انشغلت عنها لسنوات، أو الكتب التي دائماً ما أردت قراءتها، ربما تتجه للرياضة بعد الكسل وحجة ضيق الوقت، أو تتعلم شيئاً جديداً كالطبخ، والأفضل لو تعيد مشاهدة أفلامك المفضلة، أو تسبح في مسلسلات جديدة، أو حتى تهتم بغرفتك وتعيد تصميم ديكور المنزل، وهناك الفرصة دائماً في اللعب أون لاين مع الأصدقاء، وقضاء بعض الوقت مع العائلة.

والآن نستعرض كيف استغل ثلاثة من عظماء البشرية، فترة العزل الصحي في وقت الطاعون.

إسحاق نيوتن

في عام 1666 مع انتشار «طاعون لندن الكبير»، أخذ الوباء يحصد الأرواح بالآلاف، وروّع الشعب الإنجليزي، حتى أن الملك «تشارلز الثاني» هرب من المدينة، لينجو بنفسه من الوباء القاتل، الذي كان يفتك بـألف شخص أسبوعياً، وانتهى بقتل ما يزيد على 100 ألف شخص، أي 15-20% من سكان لندن.

خلال فترة الوباء، ظل الناس في منازلهم بلا خروج، وقضوا معظم فترة المصيبة في العزل، وأُغلقت الجامعات وغادر الطلاب والأستاذة، ومن بينهم شاب في الـ23 يُسمى إسحاق نيوتن، يدرس في جامعة كمبردج، أجبرته الظروف على الانتقال إلى مزرعة عائلته، ليكون بمسافة آمنة عن شوارع لندن المنكوبة، ويتجنب العدوى قدر الإمكان، مما جاء عليه بالخير والفائدة، ووفر له بيئة هادئة ونظيفة، تمكن فيها من التفرغ لأفكاره وأبحاثه، بعيداً عن صخب المدينة، وانشغال الدراسة.

خلال فترة العزل دفعته دراسة الجاذبية إلى استكمال عمله على نظريات «ديكارت» في الرياضيات، ومحاولة خلق معادلة عامة للوصل بين الجبر والهندسة، حيث لاحظ أنه عند وصف حركة جسم ساقط، سرعته تتزايد ملي ثانية، ولا يوجد أي معادلة رياضية يمكنها حساب ذلك، فقبل نيوتن، كانت الرياضيات شبه متوقفة عند ابتكار فيثاغورس وإقليدس وأرشميدس، مستخدمين العمليات الحسابية العادية: جمع وطرح وقسمة باستخدام الرموز الرومانية، ثم جاء الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وحاول الربط بينهما، ونجح في ربط الجبر ببعض الأشكال الهندسية، ومن هنا وُلدت معادلات الأشكال الهندسية، لحساب محيط أو حجم أو مساحة شكل هندسي، ثم جاء نيوتن وبنهاية عام 1666، نجح بحل مشكلة المعادلات، وانتهى باختراع علم التفاضل والتكامل.

لكن أهم أعماله وهو اكتشاف الجاذبية، كان أيضاً الجزء الاكبر منه أثناء العزل، وأسطورة سقوط التفاحة على رأسه شهيرة جداً، وبغض النظر عن صحتها من عدمها، فالتفاح بالفعل هو ما قاده لطريق الجاذبية، فبدأ في دراسة مبادئ القصور الذاتي، وكيف لأي جسم أن يسقط لأسفل لا لأعلى مثلاً، وقاده ذلك لاستنتاج أن القوة التي تمنع التفاحة من الطيران للأعلى وتجذبها للأسفل، هي نفس القوة التي تجذب القمر إلى الأرض، وقاد ذلك لقانون الجاذبية العام.

وبالرغم من أن نيوتن لم ينتهِ من دراسات الجاذبية في فترة العزل، فإن تلك الفترة مهّدت الطريق للفصل الأكبر من أبحاثه، حيث نشر مبدأ الجاذبية أخيراً عام 1667.

ليوناردو دافنشي

هو أحد أهم الفنانين والمفكرين في تاريخ الإنسانية، بلوحاته أنار العقول وطيّب القلوب، وكفنان روّض الخيال، فالموناليزا ما زالت لغز تفوقه، ولوحة العشاء الأخير هي مرجع لتاريخ المسيحية، وكمهندس تحدى المستحيل، وتخطى عقبات زمنه، حيث ظهر تفوقه في أول تصور لطائرات الهليكوبتر، ونموذج لعربات مدرعة، كذلك استخدام الطاقة الشمسية، وفكرة الآلة الحاسبة، لكن أحد أفضل وأهم أعماله المنسية، قام به أثناء فترة العزل الصحي في ميلان بإيطاليا.

مُنيت مدينة ميلان الإيطالية بسلسلة من أوبئة الطاعون، مرات عديدة في القرون الوسطى، عاصرها دافنشي بين عامي 1484 و1485، قضت تقريباً على نصف سكان المدينة، وخلال تلك الفترة لزم السكان بيوتهم، وخلت الشوارع، بينما وجد ليوناردو دافنشي الوقت المناسب لإطلاق العنان لعقله وعبقريته، وبدأ في وضع أول تصور لمدينة حديثة متكاملة، لتفادي انتشار الأوبئة ودمار البشر، التصميم ما زال موجوداً في Paris Manuscript B.، والتي هي عبارة عن قصاصات ورقية و«سكتشات» كتبها بخط يده.

رأى دافنشي أن المدن الأوروبية وخاصة ميلان في تلك الفترة، ضيقة وغير مناسبة لعدد السكان المتزايد، وكذلك يصعب التنقل خلال المدينة بسبب الزحام، مما يؤدي إلى تراكم القاذورات وإفساد المدينة، وجعلها عرضة لانتشار الطاعون. رأى دافنشي ضرورة تقسيم المدينة إلى ثلاثة أقسام عمودية، للتجارة والتنقل والعيش، مع سلالم تصل بين الطبقات، على أن تكون الطبقة السفلى للتجارة والعربات والحيوانات، والطبقة العليا للمشاة والسكان، وطبقة تحت الأرض عبارة عن قنوات صناعية، وتحيط بالمدينة أسوار عالية محمية بأبراج وتحصينات لحمايتها.

قام دافنشي بعمل تصميم أوليّ لمولدات هيدروليكية لإنشاء قنوات المياه، وأيضاً اقترح أن عرض الطرق يجب أن يتناسب مع ارتفاعات المنازل حوله، قاعدة يتم العمل بها حتى الآن في المدن الإيطالية، لتفادي خطر الزلازل والسماح بمرور أكبر قدر من أشعة الشمس للمنازل.

بهذا صنع دافنشي ثورة هندسية، وبدأ ما يُطلق عليه Urbanism أو حياة الحضر والمدينة، بالرغم من أن أفكاره لم يتم تنفيذها في وقتها، لصعوبة تغيير وقع الحياة وزيادة التكلفة، حيث إن تصميماته كانت تتطلب بناء مدن جديدة تماماً أو ببساطة إعادة تصميم المدن القائمة بالكامل، وهو ما استحال في وقتها.

ولكن جاء أول استخدام لتصميمات دافنشي في القرن التاسع عشر، حيث بدأ تقسيم المدن في عهد نابليون، والآن تعتبر البنايات العالية الموصولة بالسلالم امتداد لتصور دافنشي.

وليام شكسبير

طوال فترة حياة وليام شكسبير، ازدحمت لندن بانتشار الطاعون المتعدد، حيث لم يكن هناك أي فكرة عن كيفية انتقال المرض، ولا عن الطفيليات الموجودة على فراء الفئران، الذي عُرف بعد ذلك كمصدر للعدوى.

مثّل الطاعون ضربة قاصية لمجتمع المثقفين والفنانين في لندن، كالمسارح وبيوت اللهو المُلحقة بها، والتي أُغلقت لفترات طويلة، مما مثّل تدميراً لحياة مُلّاك هذه الأعمال ومنهم وليام شكسبير، الذي توقف عرض مسرحياته خلال بدايات القرن السابع عشر، واضطر لقضاء الوقت في العزل الصحي.

يُعتقد أنه خلال فترة العزل تمكن شكسبير من كتابة أفضل أعماله، فخرج بـ «الملك لير» و«ماكبيث»، ويمكن أن تكون مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» أيضاً وليدة نفس الفترة، إلا أن بعض المؤرخين يعتقدون أنها كُتبت قبلها بسنوات. يستدل على أعمال فترة العزل، بأن مسرحية الملك لير عُرضت لأول مرة أمام الملك «جيمس الأول» في 26 ديسمبر/كانون الأول 1606، بعد انتهاء العزل والوباء بفترة قليلة، وعُرضت ماكبيث بعدها بشهور.

تأثر شكسبير بالطاعون والأوبئة طوال حياته، ففي شبابه شهد انتشار عدوى قاتلة أيضاً، أثّرت عليه وجعلته يتجه للشعر، وأهدت إلى العالم عرّاب كتابها، ثم في الكبر أثّر عليه الطاعون أيضاً، وفتك بابنه وشقيقاته، لكنه أيضاً مكّنه من كتابة بعض من أفضل أعماله. فالعزل الصحي هو فرصة لإنهاء الأعمال المتوقفة، والجانب الإيجابي منها، هو الوقت والهدوء النسبي بعيداً عن الناس.