بعد لحظات من التوتر والقلق، ومرور 9 أشهر من الجلد والصبر على آلامٍ متعددة، تأتي اللحظة الحاسمة ويخرج الطفل إلى النور أخيرًا.

ما هي إلا لحظات بسيطة من انعكاس النور على وجهه الطفولي البريء، قبل أن يصدم أحدهم الجميع ليؤكد أن هذا الطفل يُشبهُ شخصًا ما من أقاربه، في الغالب ما يكون أباه أو أحد أجداده المتوفى حديثًا. تتكرر تلك المجاملة بشكل دوري عند كل لحظة ولادة في مجتمعاتنا العربية.

وبالرغم من أن تغيير الملامح يتم في أغلب الأطفال بعد شهور بسيطة من الولادة، إن لم يكن جميعها، ولا تصدق هذه النبوءة إلا في نسبة ضئيلة جدًا. لكن تلك الرغبة في إعادة إنتاج نفس الشخص الذي نُحبه، بنفس الملامح والصفات إن أمكن، تظل مربوطة بوجداننا.


بيليه الذي لا يتكرر

لا يقتصر ارتباط هذه الرغبة في وجداننا على لحظات الولادة فقط، حيث يرتبط الوعي البشري بالتكرار في الغالب. فطالما كانت لحظات الماضي بها شيء من السعادة، فتجد أن تكرارها هو ما يطلبه العقل دومًا لعدم وجود ضمانة حقيقية على الاحتفاظ بذلك القدر من السعادة في المستقبل.

عند انتهاء أسطورة «بيليه»، ظن الجميع أن أعظم ما سيُعرف في كرة القدم قد انتهى، تمنوا لو استمر العمر المهني للبرازيلي لعقود، أو أن يكون القدر رحيمًا، ويعطي بعضًا من جيناته إلى أحد الشباب الصغار ليعيد نفس التجربة من جديد. تكرر الشيء ذاته مع «دييجو مارادونا». بلغ حب الأرجنتيني مرحلة لم تعرف قبله في تاريخ اللعبة، ربما كان بالنسبة لبلاده ومواطنيه أكبر من مجرد لاعب. يقول أحد محبيه إ نهم يعتبرون دييجو كإله وأن الحياة قد بدأت من لحظة ولادته فقط.

تمكن الأرجنتيني من محو كل الدعوات بتكرار بيليه، بعد أن عرف العالم أن هناك من يستطيع التفوق على البرازيلي في كل شيء تقريبًا، بل ومناسبًا للعصر الحديث أكثر، لكن سرعان ما انتهت أسطورة دييجو هو الآخر. ولسوء الحظ، لم يخرج من ظهر أحدهما أبناءٌ يعيدون نفس التجربة بنفس الروح، كما كان الحال مع «مالديني» مثلًا، لكن بتتابع الأجيال ثَبُت أن التكرار في كرة القدم ليس هو الحال الأفضل، لكنه، وعكس المتوقع، ربما يُعد تأخرًا ونقصًا في المتطلبات الخاصة بكل فترة.

فمثلًا، لو جاء بيليه بنفس الإمكانيات من جديد ولكن في عصر التكتلات الدفاعية، ربما لم يكن ليحصل على نفس القدر من الأهداف التي صنعت شعبيته أصلًا.

تتغير متطلبات اللعبة بمرور السنين وبين كل جيل آخر يظهر لاعب يُتقن جزءًا من المطلوب أكثر من سابقيه، أو هكذا نظن بسبب ذلك التغيُر، حتى جاء «ليونيل ميسي» و«كريستيانو رونالو» ليتقنا كل شيء -تقريبًا- تحتاجه اللعبة في أحدث عصورها. حطما سويًا كل شيء كان ثابتًا لعقود. ولم نكد نهنأ حتى مرت السنون أسرع مما ظننا، وتخطى رونالدو حقبة الثلاثينيات واقترب ميسي من تخطيها. ظهرت التجاعيد على وجه كل منهما وبدأنا نشعر بأن العجز يأكل في مواهبهما من الداخل.

وكلما أشرفت أسطورة جديدة على الانتهاء، كلما كان الوقت مناسبًا لميلاد الرغبة في التكرار.


صراع قرن جديد

لو كنت تملك قميصًا يحمل اسم «رونالدو» فلا تقلق، لن يبلى أبدًا، ضع فقط حرفي «JR» اللذين يعنيان «الصغير» وسيمر الأمر بسلام. فإن أكاديمية يوفنتوس تؤكد أن «جونيور رونالدو» يبلي بلاءً حسنًا، ربما أحسن مما بلاه رونالدو الكبير في نفس السن. مبالغة؟ ربما. حقيقة رآها صحفيون بأعينهم؟ ربما أيضًا.

سجل رونالدو الصغير 4 أهداف في مشاركته الأولى مع فريق يوفنتوس تحت 9 سنوات. حصل في عام 2017 على جائزة «بيتشيتشي» وهي جائزة الهداف في فئته السنية، ومنذ هذه اللحظة ضرب موعدًا مع تكرار أسطورة أبيه بل بشكلٍ أفضل ربما. نال التركيز الإعلامي والشهرة اللازمة لصنع أسطورة لم تبلغ من العمر الـ10 أعوام حتى.

يمكن اعتبار الفتى الصغير، الذي نشأ في بيئة أفضل آلاف المرات من التي نشأ فيها والده، هو امتداد لسلاسل طويلة من أبناء اللاعبين الذين يكملون مسيرات آبائهم، وهو كذلك أحد أفراد النسبة الضئيلة التي قد تصدق فيهم نبوءة الشبه التي تصدر فور خروجهم للنور. لكن هل ينتظر رونالدو الصغير أن يظهر ميسي من جديد حتى يعود صراع القرن للتكرار؟ بالطبع سيناريو سينمائي يخشى أي كاتب من وضعه حتى لا يتم اتهامه بالخبل!


إشارة «ميسي» في سماء كاتالونيا

أنتجت أكاديمية برشلونة جيلًا عظيمًا خلال بداية الألفية الجديدة ومنذ نهاية التسعينيات، نتاج ذلك العمل، سواء من المدربين أو من اللاعبين، نجح في خلق طابع جديد ومختلف للـ«بلوجرانا» ولكرة القدم في المطلق. كانوا جميعًا أشباهًا لـ«يوهان كرويف» باختلاف الملامح. لكن لم يختلف اثنان على أن أعظم ما أنتجته تلك الأكاديمية عبر التاريخ، كان القصير الأرجنتيني: «ليونيل ميسي».

برحيل «جوارديولا»، الذي كان المولود الأكثر حظًا في حمل الكم الأكبر من جينات الأب الروحي التدريبية، وفشل الإدارة في تعويضه بنفس الصفات، بالرغم من تحسس الشبه في مواطنه «لويس إنريكي». ظهر للجميع أن المشكلة الأكبر لا تكمن في رحيل بيب أو في رحيل أحد أبنائه المخلصين مثل «تشافي» أو «إنييستا» أو «بويول»، بل برحيل «ليو» نفسه.

تفهمت إدارة النادي ذلك سريعًا، وبطول العالم وعرضه، وضعت مقرات لأكاديميتها من أجل اكتشاف عنصر جديد يحمل نفس الصفات الخاصة. بين حين وآخر، داعبت عدة عناصر مشاعر الجماهير، وأقحمت الظن في قلوبهم بأن ميسي ليس فضائيًا كما يرددون، وأن قدمه اليسرى المميزة قد توزعت موهبتها على عديد الأطفال، فشرعوا أن أحدهم سيعدو «ميسي» الجديد يومًا ما.

اعتقدوا ذلك في «بويان كريكتش»، «جاي أسولين»، «آلين خاليلوفيتش» وحتى الكوري الجنوبي «لي سيونج هوو»، ناهيك عن العناصر التي لم ترتدِ قميص النادي الكتالوني لكنها لاحت في أفق «تكرار ميسي» ولكن من بعيد. تحول ذلك إلى هاجس يخبط العقول بين حين وآخر.

في فبراير/شباط من عام 2019، نشر الحساب الرسمي لأكاديمية «لاماسيا» صورة لصغير يشبه ميسي فعلًا، لا مجاملة هذه المرة. يحتفل بنفس الطريقة ويرتدي نفس الشعار ونفس قصة الشعر أيضًا. نشرت هذه التدوينة بعنوان: «يذكرنا هذا بأحد ما، ماذا عنكم؟» كان ذلك كافيًا لنشر حالة جديدة من تمني التكرار، بل أن ترى التكرار حق الرؤية متجسدًا أمام عينيك. إنه ميسي تُعاد صياغته في نفس المكان مرة أخرى، لكن للأسف هذه ليست المرة الأولى.


البحث الخاطئ عن «ميسي» الصحيح

تعاني محركات البحث من الإجابة عن كلمات مثل: «ميسي الطفل» أو «ميسي الصغير» أو «ميسي القادم»، كل طفل رزقه الخالق بموهبة في قدمه اليسرى، يشعر أهله أنهم يملكون ميسي المستقبل، وتبدأ رحلة من الاعتناء بالموهبة الصغيرة حتى تندثر وتوضع في كتاب يغمره التراب.

في الواقع، فإن عائلة ميسي الحقيقي لو كانت تعرف أنها تملك هذه الموهبة بين أفرادها، لربما قتلتها من كثرة الاعتناء بها. لكن يؤكد التاريخ أن أغلب اللاعبين الكبار، خاصة من طينة «ليو»، لا يظهرون في ظروفٍ طبيعية أبدًا.

كان «كارلز ريكساك»، المدرب الإسباني الذي قضى 44 عامًا في خدمة برشلونة بين لاعب ومدرب،أول مسئول شاهد الطفل ميسي، وللمفاجأة، فإنه لم يقتنع بالطفل وقتها، لكنه أعطاه في النهاية فرصة التواجد في النادي بعد محاولات عديدة لإقناعه عن طريق أقارب ميسي الذين يعيشون في غرب إقليم كتالونيا.

في هذه الأيام، كان من الصعب أن تؤَمّن رحلة طيران تعبر نصف العالم تقريبًا -من الأرجنتين إلى إسبانيا- من أجل طفل يبلغ من العمر 13 عامًا فقط. فتخيل لو تمسك «ريكساك» برأيه مثلما فعل نظيره الإسكتلندي «أليكس ماكليش»، نحن نتحدث عن اختلال في ميزان كرة القدم، وميزان الأحلام حتى، الذي دائمًا ما تميل أحد كفاته بفضل أمنيات تكرار ميسي المتزايدة.

يحكي «جون ماكليش» ابن المدير الفني الذي خرج من عباءة «السير أليكس فيرجسون»، أثناء حديثه في فيلم وثائقي عن لعبة «فوتبول مانجر-Football Manager» أنه كان دائمًا ما يلعب بفريق برشلونة، وقد اكتشف ذات مرة، لاعبًا صغير السن اسمه ليونيل ميسي يبلغ من العمر 14 عامًا، ضمه للفريق الأول للنادي ونجح في أن يحرز هدفًا أو اثنين خلال الموسم في أحيان كثيرة.

لم يتردد جون في نصح أبيه بضم تلك الموهبة الخارقة، حيث إن لهذه اللعبة قدرًا من المصداقية في تحديد إمكانيات اللاعبين والمدربين بما يجعلها مصدرًا حقيقيًا للبحث بالنسبة لعدة فرق وإدارات، لكن والده أهمل نصيحته بالطبع. فمن سيعتقد في لاعب عن طريق لعبة فيديو؟ والأدهى أنه يملك 14 عامًا فقط!

يعطينا ذلك تخيلًا عن أن ميسي القادم ربما يعاني أحد أقاربه الآن في إقناع المدرب بضمه للفريق، وليس واحدًا من هؤلاء الأطفال الشُقر الذين نتهافت عليهم في أكاديمية برشلونة. يرتدون القميص رقم 10 ويحتفلون بنفس الطريقة، ربما يكون هؤلاء كومبارسات لليو، وليسوا تكرارًا له.