جاء الإعلان الروسي عن بدء العمل في تهيئة ممر الشمال الملاحي، ليثير القلق والمخاوف في مصر، من الانعكاسات السلبية لهذه الخطوة على مستقبل قناة السويس، لاسيما بعد إنفاق عشرات المليارات على تطويرها، فيما عرف بـمشروع «قناة السويس الجديدة».

وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مشاركته في منتدى الشرق الاقتصادي بمدينة فلاديفوستوك الروسية، في سبتمبر/ أيلول الماضي، دعوته دول العالم لاستخدام الطريق الجديد في تجارتهم، والذي تستغرق الرحلة عبره وقتًا أقل مقارنةً بمسارات أخرى، وفي نهاية الشهر نفسه أعلنت وسائل الإعلام الروسية البدء في مشروع طموح بتكلفة 4 مليارات دولار لبناء ميناء ضخم بالقطب الشمالي.

وبالفعل نجحت أول سفينة كبيرة لشحن الحاويات في رحلتها التجريبية لاجتياز الممر الرابط بين شرق آسيا والشمال الأوروبي عبر المحيط المتجمد الشمالي، والذي أصبح صالحًا للملاحة بشكل أفضل مع تزايد عمل كاسحات الجليد وذوبان الثلوج بفعل ظاهرة الاحتباس الحراري الناتجة عن التلوث الكربوني، والتي أدت لارتفاع حرارة الأرض وبالتالي ذوبان جزء من جليد القطبين المتجمدين.

انطلقت الرحلة التجريبية من ميناء فلاديفوستوك الروسي القريب من الحدود مع الصين، لتؤكد لبكين أن تلك المنطقة التي لم يكن لها أي قيمة ملاحية في السابق بسبب كثافة الجليد، يمكن الاعتماد عليها في نقل بضائعها المصنعة إلى السوق الأوروبية بكميات تجارية.

وكانت إدارة سلامة الملاحة الصينية قد أصدرت في أبريل/ نيسان عام 2016، دليلًا ملاحيًا لسفنها للإبحار عبر المحيط الشمالي المتجمد، وأعلن حينها ليو بينغفي، الناطق باسم وزارة الملاحة البحرية، أنه «عندما تعتاد السفن استخدام هذا الطريق سيغير ذلك وجه الملاحة التجارية العالمية»، وتقدم الصينيون بطلب إلى إدارة قناة السويس، لتخفيض رسوم العبور، وهو ما استجابت له الأخيرة بالفعل، وأعلنت عن تخفيضات هائلة في يونيو/ حزيران 2016، بعد شهرين من صدور الدليل الملاحي المذكور، رغم أن الطلب أتى بعد أقل من عام على افتتاح مشروع توسيع القناة.

وكانت «قناة السويس الجديدة» قد أضافت 72 كيلومترًا للمجرى الملاحي، ضمن مشروع كبير تبلغ تكلفته 8 مليارات دولار، استهدف رفع إيرادات هيئة قناة السويس، لكن الرياح أتت بما تشتهي السفن، التي يشكو مالكوها من ارتفاع رسوم عبور القناة، ومما زاد الطين بلة أن افتتاح التوسعة الجديدة، تزامن مع هبوط أسعار النفط عالميًا، مما جعل استخدام طريق رأس الرجاء الصالح أقل تكلفة، مما أسهم في تقليل عدد السفن المارة بالقناة بشكل كبير وتراكم الديون على الهيئة المصرية، مما استتبع تخفيض رسوم المرور لاجتذاب السفن، مرات عديدة وصل بعضها إلى 75%.


الوقت في صالح الروس

أعلن رئيس المركز القومي لقيادة الدفاعات الروسية ميخائيل ميزينتسيف، مطلع ديسمبر/ كانون الأول الحالي عن استعداد سلطات بلاده تقنين مرور السفن الحربية الأجنبية عبر الممر الشمالي، بدءًا من العام 2019. ويأتي هذا التصريح بعد شهرين من نجاح سفينة تابعة للبحرية الفرنسية في عبور الطريق، في سابقة هي الأولى من نوعها، دون الاستعانة بأي كاسحات للجليد.

يعاني الطريق الشمالي الذي تسميه وسائل الإعلام في موسكو بـ«قناة السويس الروسية»، من عدة معوقات؛ أبرزها نقص الخدمات اللوجيستية وعدم صلاحية كثير من السفن لعبوره، ولذلك بدأت موسكو في تدشين شبكة بنية تحتية ضخمة على السواحل التي من المنتظر أن تمر السفن التجارية قبالتها، تشمل مد سكك حديدية وتجهيز الموانئ، وبناء عدد أكبر من السفن بمواصفات خاصة تستطيع الإبحار عبر هذا الطريق، وتطوير عمل كاسحات الجليد، لجعل الممر صالحًا للمرور به أكبر فترة ممكنة، وفي ميزانية روسيا لعام 2019 جرى تخصيص 9.6 مليار روبل لتنمية الطريق الشمالي، ضمن خطة تستمر لثلاث سنوات، يبلغ إجمالي الإنفاق بها أكثر من 40 مليار روبل (أي ما يعادل تقريبًا 600 مليون دولار).

نجحت موسكو كذلك في زيادة فترة استخدام الممر، فبعد أن كانت صلاحيته للملاحة لا تتعدى شهرين في السنة زادت المدة إلى 4 أشهر، ومن المتوقع أن تزداد بعد التطويرات المقبلة بشكل مطرد، لاسيما مع تعاظم ظاهرة الاحتباس الحراري بمرور الوقت مما يعزز من الحظوظ المستقبلية للقناة.

وأعلنت وزارة النقل الروسية أن حركة البضائع عبر الممر زادت خلال العام الحالي بنحو 3 أضعاف مستواها في العام الماضي، إذ لم تتعد آنذاك من خمسة إلى سبعة ملايين طن، لكن هذا العام شهد منذ بدايته وحتى منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مرور 15 مليون طن من البضائع، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن في وقت سابق، أن بلاده تخطط لزيادة حركة البضائع عبر هذا الممر لتصل إلى 80 مليون طن سنويًا.

وتستغرق الرحلة من آسيا إلى أوروبا عبر الممر الشمالي في المتوسط 23 يومًا، أما عبر قناة السويس فتصل إلى 34 يومًا بعد التوسعات الأخيرة، أي أن الممر الجديد يقلص فترة الشحن لمدة أسبوعين كاملين!

وبسبب التطورات الأخيرة التي شهدتها المسارات الملاحية العالمية، تحدثت بعض التقارير عن مدى إمكانية تخفيض رسوم عبور قناة السويس إلى الصفر، والاكتفاء بتقديم الخدمات اللوجيستية المعتمدة على موقع القناة المتميز بين قارات العالم، لاسيما مع توقع خبراء المناخ أن المحيط المتجمد الشمالي قد يصبح خاليًا من الجليد بحلول عام 2059 بسبب ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.