كان جان «جاك روسو» من أول من قالوا بأفضلية الطبيعة والحياة البدائية للإنسان، فالحضارة في نظره شر مطلق لأنها سلبت الإنسان حريته وجعلته ينخرط في الكثير من الأمور التي تلغي إنسانيته، فهو يعطي الأفضلية لإنسان الطبيعة كونه حرًّا دائمًا وغير مرتبط بشيء، لا قانون ولا مجتمع ولا حتى أسرة[1]. ويُعد كتابه «العقد الاجتماعي» بالكامل محاولة للتوفيق بين حرية الإنسان المطلقة وفقد جزء منها في المجتمع.


في تطور الحضارة موتها!

يقول «ديورانت» في كتابه «نشأة الحضارة»:

إن الإنسان تحول من الحيوانية إلى المدنية في ثلاث خطوات: حين عرف الكلام والزراعة والكتابة.

بدأت الإنسانية حين تطورت حياة الإنسان من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، وما لبث أن اكتشف الزراعة، ثم تعلّم ادخار الطعام، ومن وقتها تدرج الإنسان تدريجيًا من بداية الصناعة واكتشافه للنار، إلى باقي الضرورات المدنية الاقتصادية: آلات النقل وعمليات التجارة ووسائل التبادل. ثم حلت الرأسمالية التنافسية بدلًا من الشيوعية البدائية، فأدى هذا إلى تكوين الطبقات وجعل من إنسان سيِّدًا وآخر عبدًا. ثم نشأت النُظُم السياسية وتم وضع القوانين، وأصبح الإنسان مستعدًا للحضارة بمسيرته الكبيرة للتطور بوضعه للآداب والعلوم والفنون. ولم يتوقف التطور الحضاري إلى اليوم، كل بضع سنوات نجد الكثير من الاكتشافات العلمية التي كانت بالنسبة للسابقين ضرب من الخيال، لكن هذا التطور أضر أكثر مما أفاد، فأصبحت الأرض في خطر بسبب الآلات التي اخترعها الإنسان، وأصبح الإنسان أشر على أخيه الإنسان أكثر من أي شيء، فالبشرية بما جلبته لنفسها تسير في طريقها نحو الآلية أو الانقراض.[2]


آثار الحضارة في أعمال «زوسكيند»

تُعد أعمال باتريك زوسكند في جوهرها تجسيدًا للبشاعة التي خلفتها تطورات الحضارة في الحياة وما فعلته بالإنسان، فنجد روايته «العطر» تمثل جانب دفاع الإنسان عن ذاته بالقتل، و«الحمامة» عن اضطرار الإنسان لمجاراة رأسمالية ورتابة الحياة، ومسرحيته «الكونتراباص» صرخة في وجه التطور الهائل، و«حكايات السيد زومر» تعبر عن أن الهرب وعدم التكيف مع الحضارة سيؤدي إلى الموت أيضًا.

«الكونتراباص»

مسرحية «الكونتراباص» هي العمل الأول لزوسكيند، عُرضت عام 1981، وهي مونودراما من فصل واحد. لعازف «الكونتراباص» الثلاثيني الذي لخص لنا مساوئ الحضارة دون أن يتحدث عنها مطلقًا، فهو يسكن في شقة في منتصف المدينة لكنه بطَّنها بمواد عازلة للصوت لكي يستطيع الحياة، فعندما فتح النافذة سمعنا ضوضاء وأصوات أبواق سيارات وآلات ذات صوت عالٍ.العازف يرى أن «الكونتراباص» عندما كان ثلاثة أوتار كان أفضل في الصوت بالرغم من قلة أنغامه، أما «الكونتراباص» الأربعة أوتار فأسوأ في الصوت وأكثر في النغمات، وهكذا الخماسي، كلما زادت جودة «الكونتراباص» أصبح أسوأ وأكثر إزعاجًا، فالتطور جعل من الآلة الجمالية شيئًا مزعجًا لا يحتمل. كما أن عازفو «الباص» هم الوحيدون –حسب كلام العازف- الذين يخرجون عن النغمة دون أن يلحظ المايسترو الذي يدير الأوركسترا، فهم يخترعون نغمات مختلفة عن الموضوعة دون أن يكون هناك مشكلة.كما قلت مسبقًا بأن الرأسمالية حلت مع بداية الحضارة بديلًا عن الشيوعية البدائية، فترتب على هذا نشأة الطبقية الاجتماعية. العازف يصف لنا بسخرية مريرة هذه الطبقية من خلال نظام ترتيب العازفين في الأوركسترا، ثم في لمحة عبقرية من زوسكيند يحدثنا عن الثورة التي لم تغير سوى في ترتيب الصفوف الثانية بالأولى وظلت الصفوف الأخيرة في مكانها، والمقصود هو الثورة الماركسية التي قامت من أجل البروليتاريا ثم لم تفدها الثورة في شيء.ثم تحتد نبرة العازف ويحدثنا عن استمراره في الوظيفة الحكومية لكي يستطيع العيش، فهو ليس موهوبًا فسيعزف «الكونتراباص» كما كان في آلات أخرى، لكن عدم وجود الكثير من عازفي «الباص» دفعته إليه ليضمن العمل، فعزف «الباص» – كما قال – صعب، وليس بحاجة للموهبة بل للقوة.أخبرنا العازف في النهاية بأنه سيذهب للمسرح وقبل أن تبدأ الأوركسترا سيصرخ، سيصرخ ليجذب أنظار حبيبته إليه، بل أنظار كل الأوركسترا، ولن يهمه إذا أقالوه، المهم أن يصرخ ويحدث جلبة.

«العطر»

«جون باتيست غرنوي» صاحب الأنف الدقيق القادر على معرفة كل الروائح، حتى الأشياء التي لا رائحة لها يستطيع معرفتها. هو جانب من تطور الحضارة، فقد كان في البداية صانع عطور متميز يصنع أجمل العطور، ثم استغل الإمكانيات التي امتلكها في القتل ليصنع له عطرًا يجعل كل الناس تحبه. لم يشعر غرنوي بالذنب، بل كان يقتل بآلية وانتقاء شديدين، حتى تم اكتشاف جرائمه فتمت محاكمته، ويوم الحكم نثر على نفسه العطر الفريد الذي كونه من روائح البنات اللاتي كان يقتلهم، فافتتنوا به حد العبادة ونسوا الحكم، وتلاحم الحشد بحيوانية في نشوة جنسية كالمغيبين بينما هرب غرنوي، لكن النهاية كانت صادمة، فكل السبل الذي اتخذها غرنوي لكي يعبده الناس ويحبوه كانت هي السبب في موته.تدعم الرواية رؤية روسو بأن العقل أول النكسات وقوله:فكانت الرواية ظاهريًا كما أشار البعض تشير لصعود النازية وما أريق بسببهم من دماء، لكن بالنظر إلى مجمل أعمال زوسكيند نجد أن القاتل هنا هو التطور الحضاري وما جلبه، وكما ساعدت هذه الأساليب في التطور ستكون هي السبب في موتها.

«الحمامة»

الرواية في جوهرها نقد للرتابة التي يخلِّفها العمل المستمر سعيًا وراء معيشة آدمية، وفي سبيل هذا يفقد الإنسان جوهر آدميته، الحرية.كانت حمامة صغيرة كافية لتهز دواخل الرجل الخمسيني الذي أتعبته رتابة العمل، فتذرع اللاوعي بوجود هذه الحمامة أمام البيت لكي يغير مسار حياته.في هذه الرواية نجد أن الحدث الفرعي هنا هو المقصود وليس الحدث الرئيسي، فنظرة «نويل» للمتسول في مختلف حالاته هي المقصد هنا، فنظرة الغبطة الأولى من حريته المطلقة، ثم نظرة الشفقة عليه بأنه عندما يتبول أو يتغوط لا بد أن يكون تحت نظر الناس وهو شيء مهين، فهو يصوره حرًا مطلقًا، لكن هذه الحرية لا تتناسب مع الحالة الحضارية وتجعل من فعله شيء مهين وغير آدمي، ثم نجد أن نهاية الهاجس الذي ألمَّ بـ«نويل» ينتهي بعد العشاء الأخير له قبل أن يعود لبيته مرة أخرى، نفس عشاء المتسول الذي حسده ثم أشفق عليه مؤخرًا، لكنه داخليًا لم يهدأ سوى بعد هذه الأكلة، بعد أن نال حريته ولو للحظات. ثم في النهاية يعود لبيته، وهو ليس بالفعل السعيد إطلاقًا، بل هو عودة للحياة الرتيبة الهادئة الخالية من المتاعب، لكنه الحل الوحيد كي لا يحدث له كما حدث للسيد «زومر».

«حكايات السيد زومر»

فإنني أجرؤ على القول بأن حال التفكير مناقضة للطبيعة، وأن الإنسان الذي يفكر حيوان فاسد.

في هذه الرواية نجد نوعًا من الهروب والمواجهة في ذات الوقت، يرسم زوسكيند مرحلتين مهمتين في حياة الإنسان، فيرسم الطفل الذي نراه على فطرته محبًا لتسلق الأشجار ويجد راحته وسط الطبيعة، والسيد زومر العجوز الذي يتهرب من الناس ويرتكن للتجول ما بين الطبيعة بعيدًا عن العيون الفضولية.الطفل مع الوقت عندما يكبر نجده ينخرط في الحياة العادية، لكن السيد زومر الذي ظل يولي وجهه للوسائل المدنية، وقد أدى به هذا إلى الموت بطريقة درامية. ولى دبره للحضارة فابتلعته!خاتمة:عبر العبقري المجنون باتريك زوسكيند عن الكثير من آثار الحضارة في الإنسان في رواياته، لم يقل هذا مباشرة كما ذكرت في البداية لكنه عمد للترميز، فتناول العديد من الجوانب بشكل مميز.موضوع الحضارة وآثارها طويل، وقد تناوله الكثير من المفكرين والفلاسفة على مدارالتاريخ، فلم يسلم من تطور الحضارة الحديثة أي شيء، فقد حاول الدين البعد عن أي تفسيرات كونية لأن العلم يتطور باستمرار ويجدد نفسه، كما هو حال الكنيسة في العصور الوسطى ومشكلة مركزية الأرض للكون. وحُصِرت الفلسفة في فلسفة اللغة والتحليل فأصيبت بالجمود وعدم القدرة على الإتيان بجديد، ولم يستطع أي جانب في مجاراة العلم، يقول المفكر «علي الوردي»:

إن المخترعات العظيمة التي تزخر بها الحضارة الحديثة قد منحت الإنسان متاعًا ماديًا غير أنها أفقدته المتاع الروحي[3].

وبالرغم من كل المساوئ والمخاطر التي زخرت بها الحضارة الحديثة إلا أنها محتومة علينا، وكل ما يمكننا فعله هو التنبؤ بالمساوئ التي تأتي معها ونحاول معالجتها أو التقليل من أضرارها. وهذا ما أدركه زوسكيند بهدوء نبرته التدريجي من الاحتداد في «الكونتراباص» إلى مواجهة الحقيقة في «حكايات السيد زومر».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. «أصل التفاوت بين الناس» لـ«جان جاك روسو»
  2. كتاب «نشأة الحضارة» لـ«ويل ديورانت»
  3. كتاب «في الطبعة البشرية» لـ«علي الوردي»