أذكر ذلك السؤال جيدًا، إنه السؤال الطفولي البريء الذي استحال في خلسة من الزمن تقدر بفترة النضوج إلى سؤال مضنٍ عسير. كنت طفلًا يافعًا ربما ساذجًا أيضًا، أيُّ شيء يرضيني، ربما أية إجابة من شخص أثق به وحتى إن كانت الإجابة: لا تسأل مثل تلك الأسئلة مرة أخرى، مع ظهور طابع الغضب بين الحاجبين وعنفوان اللهجة والنفور، فكل ذلك يكفيني فأتوقف عن التفكير في لحظتها، فالأطفال وحدهم قادرون على الهروب من عبث التفكير إلى سذاجتهم الممتعة.

أما الآن فصار السؤال يضنيني ولا أستطيع أن أفر من حيز العقل، جميع خلاياه تحشرني في بؤرتها، ستظل عالقًا هكذا بلا أية إجابات لا يتداركها عقلك الضحل، فقط ستظل هكذا في حيرة البلهاء.

الكثير منا قد تيقن أنه الله كما وصفه الدين، فلا تدركه الأبصار ولا يُنعت بصفات البشر فالكمال له وحده والخلود له سبحانه. ولكن ماذا عساك تفعل حين تُخلق في فترة بلا أنبياء بلا مرشد بلا توجيه؟ فما هي رؤيتك لله؟ هل ستصل إلى تلك الدرجة الإيمانية التي حددها لنا الدين والتي قد جعلت التفكير بالأمر اليسير، وكأنك قد وجدت الإجابة مسبقًا ولكن لا ينقصك سوى درجة الإيمان العالية فقط، أم أنك ستصل بتفكيرك إلى آخر النفق المظلم بلا أي إجابات أو تفسير؟

كل المفكرون هم ملحدون.

اتفقت كثيرًا مع «إرنست هيمنغواي» في تعريفه عن المفكرين لكنني تجردت من مفهومه عن كينونة الإلحاد. فالإلحاد في مفهومه اللغوي هو: الميل والعدول عن الشيء، فهو بداية الإيمان إذا استمر تعميل الفكر واستنباط المجهول. فسقراط كان من أوائل الملحدين الذين اهتدوا بعقلهم إلى درجة قد فاقت عنان الفكر البشري من الفلسفة والتفكير على الرغم من نشوئه في مجتمع وثني معتم العقل، وكأنهم يرثون الفكر ويتناقلونه من جيل إلى جيل بلا أية نية لإثبات أو تمحيص أو تكذيب. ومن هنا بدأ سقراط قاعدته الفلسفية الشهيرة:

أنا لا أعرف غير شيء واحد هو أنني لا أعرف شيئًا.

وبدأ في طرح العديد من الأسئلة التي اعتبرها منبعًا للوصول إلى الحقائق: ما الفضيلة؟ ما العدل؟ ما الديمقراطية؟ ما الأخلاق؟ من الله؟ من نحن؟ وبتلك الأسئلة التي أخذت تغلي في صميم عقله واستثارته إلى التفكير فيما هو أعظم من ذلك الشأن، حتى ابتعد عن آلهة قومه، حيث رأى بعقله ما لم يستطع قومه رؤيته بأعينهم حتى حكموا عليه بالقتل بالسم، فألقى قاعدته الفلسفية الأخيرة:

فلنواجه الموت بشجاعة كما واجهنا الحياة.

فكان يعتقد أنه لا مانع من التفلسف ولا نهاية لأمده، حتى الموت لا يستطيع أن يرضخ عقلك عن البوح بما يثار من فكر ونهج، فبإمكاننا أن نتفلسف وقتما نشاء حتى في لحظات الموت الأخيرة.

أنا أشك إذن أنا موجود.

من هنا نشأ ديكارت وأثبت احتمالية وجوده بإثبات لا يخالطه الشك. فقد أيقن أن الشك هو الطريق إلى معرفة الحقيقة، وقام بنفي كافة الاحتمالات التي تشوبها ولو درجة ضئيلة من الشك. كانت الأفكار تثور في طيات عقله فكان يستخلص منها ما أراد ويشك فيما وجده محلًا للانتقاد، فأرد أن يصل إلى الحقائق من منظور مختلف كليًا عن باقي الفلاسفة، فقد رأى أن الشك هو بداية العدمية بل هو بالتأكيد بداية الوجود.

أنا شيء مفكر، لكن كيما أفكر لا بد أنني موجود، لذا فأنا كائن حي، روح حي.

هكذا اهتدى ديكارت من مبدأ الشك إلى إثبات حقيقة الروح، فشيئان قد أثبت وجودهما: الروح، وأنه لا يمكن له ألا يشك إلا إذا انتُزع منه الروح. وبعدما أثبت حقيقة روحه ونفسه بدأ يتساءل: من أنا؟ من الله؟ لماذا وُجدت؟ كان يسبح في طبيعة الميتافيزيقيا أو دراسة الحقائق الغائبة، وصار يحاول أن يجسد كل الصور المعنوية في محاولات لرسم المادة وكأنه يبحث في الظلام. وقد استثنى من مبدأ الشك شيئين لا يقبل وقوعهما في دائرة الشك وإلا لما قام الشك من الأساس.

أولهما، إثبات أنه موجود بجسم كالآلة، وروح، وهي الجزء المفكر العاقل، فقد كان أبا المادية الحديثة التي تصور الكائن الحي بالآلة، والروح بالعقل المكمل لها.

وثانيًا، الله، فلم يستطع ديكارت أن يعطي في فلسفته شيئًا عن الله، فقد رأى أنه أكمل من أن يتداركه العقل البشري، فصانع العقل لا يقدر العقل على إدراكه ولمسه، فقد رأى أن الله قد اتصف بالكمال لا ينقصه شيء ولا ينبغي بأن يوصف بصفات البشر أو أنه يستدرج إلى درجات الشك فهو يعلو عنان التفكير البشري. كان تصوره عن الإنسانية والخلق بجسم يشبه الآلة المتحركة كالترس ملؤها العقل والروح، وفي الأعلى الله يتحكم بها ويصيغها ويشكلها. وهكذا قد وجد ديكارت حقائقه الغائبة بعدما بدأ من الشك حتى وصل إلى إثبات الوجود، وأن العدمية لا ينبغى لها أن تتصل بمبدئه كما يتصور البعض.

افعل ما بدا لك.

هكذا كانت وجهة أبيقور في الحياة، فقد أراد أن يسعد ووجد في مبدأ اللا شيء كل السعادة. وقد دار بينه وبين معلمه حوار حين كان صغيرًا، قال المعلم:

إن كل شيء قد أتى من العماء. فأردف أبيقور: نعم ولكن من أين أتى العماء؟ فقال المعلم: لست أدري ولا يدري أحد.

ومن هنا بدأ يبحث عن أصل العماء الذي هو أساس العالم. يرى أبيقور أن الهدف من الحياة أن نستمتع بكافة اللحظات وأن ندرك جميع أشيائها السعيدة، وكأن المبدأ الديني قد خلا من السعادة كما يرى في نظره. يرى أن شيئين سيحولان بين الحياة والسعادة: وهما الخوف من الآلهة والخوف من الموت.

رأى أبيقور أنه يمكنك أن تفعل ما شئت وقتما تشاء بلا قوانين أو موانع تعيق سعادتك واستمتاعك، وكأنه عالم فوضاوي عابث مطلق الحرية. وقد توصل في نهاية بحثه أن العالم لايمكن أن ينشأ من العماء واللا شيء وأنه ابن الطبيعة نتيجة حدث طارئ قد أنشأته الطبيعة الوليدة وأن الكون ليس ابنًا لله. رأى أن الكون مكون من وحدات صغيرة من الذرات المتكافئة وأن هناك عوالم أخرى لم يتطلع إليها البشر بعد.

عرض علينا أبيقور في مبدئه شيئًا من النقصان والاستهزاء وكأنه يصف الإنسان بآلة بلا مدير أو محرك له، وهذا ما يرفضه ديكارت، فهو مذهب السعادة الخالية من الواقعية، وكأنك لا تبحث إلا عن حياة بوهيمية فقط بلا قائد أو محرك، وكأنك لا تسعى إلا وراء شهواتك، فقد رأى فيها فلسفة آثمة ناكرة لمذاهب العقل البشري، وأجزم أنه لو ازداد في فكره واستنباطه حقًا لكان قد اكتشف حقائق جديدة بعيدًا عن سطحية الفكر وهامشية الفلسفة.

أصدق نظرة إلى الله.

هكذا قال إرنست رينان في ختام مراسم إزاحة الستار عن تمثال إسبينوزا. فلم يكن إسبينوزا عبدًا لعقله كما فعل الكثير، بل كان قائدًا متطلعًا، فقد تخلى عن ديانة والده وعن كهنوت معبده اليهودي من أجل الاطلاع والسباحة في ملكوت الفكر والتفلسف، وبعدما أظهر أفكاره المغالطة للكنيسة، ومن هنا انبتَّ عنهم ولكنهم أيضًا تبرأوا منه وعزلوه عن حيز شعب الله المختار كما يذكرون، فلا يحيى أحد معه تحت سقف واحد ولا يأكلون ولا يشربون معه، ولا يزوجونه أحدًا من أبنائهم، فلم يصبح في نظرهم يهوديًا، وقد رأى في ذلك تحررًا من عبودية الكنيسة، ومن هنا بدأ يبحث عن تلك الأسئلة التي حيرته: ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟ من أوجدنا؟ ولماذا أوجدنا؟

يرى إسبينوزا أنه لا بداية لهذا العالم، فلو افترضنا أننا وُجدنا في تلك البداية فما وراء تلك البداية سوى اللا شيء، ولا يمكن للا شيء أن يُوجد من العدم إذن، فهذا العالم غير محدود في المكان كما أنه غير محدود في الزمان فلا بداية لأركانه ولا نهاية لحدوده، هو شيء يصعب على العقل البشري تحديده واستجماعه، شيء لا نهائي من الذرات المتجمعة مع بعضها البعض والتي لا تنتهي في حدودها الزمكانية.

أما عن الله، فيرى أن الله هو العالم، هو إله كل شيء وخالق كل تفصيلة وكل صغيرة وكل مكان، فهو الكمال والخلود والبقاء وأنه لا يتسنى لنا أن نستجمع صورته فنظرتنا إلى الله كنظرتنا إلى السماء من فتحة ضيقة بين السحاب، لن نرى شيئًا ولن نستجمع أية تفاصيل بأبعاد السماء، فما بالك بالله بارئ السماء وكل شيء، لا يتسنى لعقلك المحدود النظر في صفات الله الكاملة، فلن ترى سوى بعض الحقائق التي وضعها الله في الأرض كبعض من صفاته التي أرسخها لنا، ولكن لن تستطيع بعقلك المحدود الوصول لشيء، كالدودة التي تسري على الأرض لا يمكنها أن ترى كل شيء في هذا العالم الذي نعيش في أركانه، فما نحن إلا ذرات صغيرة محدودة وحدودنا لا تستطيع أن تستجمع ما هو خارجها.

لكنه أيضًا قد اختلف مع ديكارت حين وصف الإنسانية بآلة بها روح وفوقها الله المتحكم بها، أما إسبينوزا فقد رأى أن الثلاث وحدات قد اجتمعت معًا بلا فاصل ولا حاجز فكلاهما وحدة واحدة لا تتجزأ.

ورأى أنه إذا تحدثنا عن الله فلا بد أن نَحْذَر بأن نصفه بصفات البشر أو أن نتخيله بتخيل الشيخ الكبير ذي اللحية أو أن نشبهه بتلك الصفات التي لا يمكن أن يتصف بها، لأنه خالد كامل في كل شيء لا يمكن تصوره. أما عن حديثه عن سبب وجودنا فقد رأى أننا وُجدنا لنسعد، لكي نبحث عن السعادة ونجتنب الألم.


ما بين العدمية والوجود

هكذا كانت بعض النظرات الفلسفية نتاجًا لتفكير لا يخمد، بعضهم من تعنت وتجرأ على دينه لكي يهتدي في نظره لشيء قد وجده إيمانًا، وبعضهم قد قرر أن المتعة خير من كل هذا وأن الإنكار قد يزيد من متعة زائلة، وبعضهم من وجد نظرته كنظرة دينه ومنهجه، وأخيرًا فالله واحد وهو إله كل دين وكل مذهب وكل معتنق، وتلك النظرة الفلسفية ليست شيئًا ثابتًا، ولكن الإيمان في ذاته شيء عظيم. فكل منهم كان يفكر بما يجده مرضيًا لعقله ومقنِعًا لتساؤلاته، ومنهم من ارتطم تفكيره في منتصف الطريق حتى وصل إلى درجة الجمود والإنكار.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.