ذكر الشيخ «محمد الخضر حسين» في الجزء الأول من «رسائل الإصلاح» أن «الشريف التلمساني» كان جالسًا يذكر نعيم الجنة فدخل عليه «أبو زيد» وقال له: أفي الجنة كتب؟ فأطرق قليلًا متعجبًا من السؤال ثم قال له: نعم

هو حلم يشغل بال كل القراء تقريبًا، بعد أن أنعم الله علينا بنعمة القراءة في هذه الدنيا الفانية، وجعلها لنا حصنًا نحتمي بداخله من واقعنا المرير الذي لا نستطيع تغيير كثير من الأحداث التي لم يكن لنا أي سبب فيها، هل سيحرمنا الله هذه النعمة في جنته؟!

في حين أن «أيمن العتوم» لم يدخل إلى الجنة لكي يرى ما فيها بالطبع ويتأكد بنفسه هل يوجد بداخلها كتب أم لا؟ إلا إنه اصطحبنا معه في هذه الرحلة التي خلقها بنفسه ورسم أحداثها من مخيلته الثرية. لنرى اللحظات الأولى لحياة قارئ بعد أن يُبعث ويبقى في الحياة الأخرى، هي ليست الجنة أو النار، بل هي حياة سابقة لها.

في عالم البرزخ تدور أحداث الرواية، وبنخفة واحدة في أنف البطل كانت كفيلة لإيقاظه في قبره نستيقظ معه وتبدأ الرحلة. بعد البعث مباشرة يجد البطل نفسه في فضاء ممتد بلا نهاية، أرض واسعة منبسطة على مد البصر، يهيم فيها على وجهه، سنوات من التيه في العدم.

إلى أين أركض، وكل الجهات بلا جهة وكل المعالم بلا هداية. الركض في اتجاه يساوي الركض في أي اتجاه آخر ويساوي العدم. فلأركض إذًا في العدم. أركض هاربًا من أي شيء ومن لا شيء وإلى لا شيء.

في رحلة خيالية نسير مع العتوم في هذا البرزخ، و يقابل البطل عددًا من أهم الشخصيات التي كان لها تأثيرًا في تاريخنا عارضًا لنا بعضًا من أشهر مقولاتهم، وأفكارهم، مقارنًا في بعض الجزئيات بين فلسفاتهم في محاورات يخلقها بينهم وبين بطل الرواية.

يغلب حب الكاتب للشعر والشعراء، ونرى هذا بوضوح في مسار الأحداث، فأغلب الشخصيات التي نقابلهم من الشعراء، مقارنة مع الأنبياء والمفكرين.

يرى القارئ أن الرواية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول من الرحلة وهو ما بعد أن يُبعث البطل من الموت. البطل الذي يظل مجهول الهوية تقريبًا حتى نهاية أحداث الرواية، ولكن المتابع للعتوم خارج نطاق كتاباته سيرى من بين سطور الرواية أن هذا البطل ما هو إلا العتوم ذاته، وهذه الرحلة ما هي إلا تصور العتوم الخاص حول ما يتمناه أن تكون حياته بعد الموت. في هذا الجزء من الرحلة نرى فلسفة العتوم وأفكاره حول الحياة، والموت، وما بعده. نقابل أيضًا العتوم كقارئ، وهو قارئ على قدرٍ كبيرٍ من الثقافة والتبحر في شتى مجالات القراءة المختلفة.

في الجزء الثاني، وهو ذروة أحداث الرواية – في رأيي – عندما يجد البطل بناءً حجريًا عملاقًا، يدخله ليجد نفسه في مكتبة عملاقة تتكون من تسعة عشر طابقًا.

بلغني أنه رُئَي في مدينةٍ جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتبٌ لا تُحدُّ وهو مشتغل بمطالعتها. فقيل له: ما هذه الكتب؟! قال: سألت الله أن يُشغلني بما كنتُ أشتغل به في الدنيا، فأعطاني.

هذه المقولة التي قالها «ابن الجوزي» متحدثًا عن الإمام «أبي العلاء الهمذاني الحافظ»، ربما تكون هي الوصف الأدق لهذا الجزء من الرحلة. وهو الحلم الذي تحدثت عنها سابقًا، أن يجد القارئ نفسه في وسط هذا الكم الهائل من الكتب.

في هذه المكتبة سنلاحظ تغييرًا في سير الأحداث، ونشعر أن العتوم نقلنا بطريقةٍ ما إلى المستقبل البعيد، فبينما يشعر القارئ أن البطل كان في زمن موغلًا في القدم في بداية الرواية، يشعر القارئ بالعكس هنا.

مكتبة على قدر عالٍ من التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي، بكبسة زر واحدة يمكنه التنقل بين الكتب وبين طوابق المكتبة كلها، وبكبسة أخرى تأتيه كل مؤلفات الكاتب، وبكبسة ثالثة تأتي له المكتبة بكافة الكتب التي كانت محرمة وممنوعة من القراءة في الدنيا، وتم إعدامها والتخلص منها نهائيًا، فهذه المكتبة تضم كل ما كتبه البشر في حياتهم.

في ترتيب طوابق المكتبة نرى أن العتوم جعل البداية من طابق الأديان، يعلوه تسعة طوابق، وتنزل تحته تسعة أخرى، ومن ترتيب الطوابق يمكن أن نرى أولويات هذه الفروع من القراءة عند العتوم، فنجده يضع في أعلى الطوابق طابق الفلسفة وفي أسفلهم طابقي السحر والتنمية البشرية. وكأنه يقول إن الدين هو أساس كل شيء، وكل الفروع تأتي بعده إما في مرتبة أعلى أو أدنى.

ولم يكتف بجعل طابق الفلسفة في مرتبة أعلى من كافة طوابق المكتبة التي تضم اللغات، والفكر، والأدب، وعلم النفس، وعلم المكتبات، وغيرهم. بل جعله أكثر الطوابق حداثة وجمالًا. وكأن العتوم يخبرنا بمدى أهمية الفلسفة في حياتنا. ضاربًا بعرض الحائط كافة الآراء التي جعلت من الفلسفة علمًا منبوذًا يحرم قراءته وجعل كل أصحابه زنادقة وكفرة!

في هذا الطابق بالذات شيء من الجمال والجلال والروعة ليس موجودًا في أي طابق آخر. هنا بخلاف البقية، هناك ما يعادل تسعة أرفف في الأعلى ليس فيها أي كتاب، وهي من بلورٍ نقي كأنه مفتوح على الفضاء. غرفة القراءة لا تقع على أرضية الطابق كما في الطوابق الأخرى، بل في قمة الطابق الأعلى، تمر السحب بجانبها.

وحتى أنه جعل خلاص البطل مما هو فيه باستخدام كتاب «منطق الطير»، وجعل من فريد الدين العطار مرشدًا له حتى نهاية الرحلة.

في الجزء الأخير من الرواية، نرى أن البطل قد ترك المكتبة، وارتحل إلى مكان آخر لأن نعيم هذه المكتبة لم يعجبه، لم يرتض أن يكون وحيدًا بين كل هذه الكتب. ونرى أن العتوم يضع تساؤلًا يصيغه على مدار الأحداث تقريبًا، وهو: هل يمكن الاستغناء عن الكتب بالبشر؟! القراء – الحالمون – سيجيبون على الفور أجل يمكن ذلك، ولكن كما كان «فرانز كافكا» يقول في إحدى مقالاته:

إن الكتاب لا يستطيع أن يعوض العالم، هذا غير ممكن، لكل شيء في الحياة معناه ووظيفته التي لا يمكن أن تشغل بالكامل من قبل شيء آخر.

فنحن بحاجة إلى التواصل البشري بقدر ما نحب قراءة الكتب. نرى أيضًا تخبط البطل واضطرابه في سير الأحداث ونقرأ كذلك من بين السطور تساؤلًا آخر، وهو: هل يبعث الفرد منا على نفس فكره وبنفس ذاكرته؟ نحن نعرف أن المرء يبعث على ما يموت عليه، ولكن هل يبعث أيضًا بنفس الذاكرة ونفس الأفكار التي عاش عليها في الحياة؟

كان البرد شديدًا في تلك الليلة، هل في البرزخ برد؟! إنها الذاكرة التي تستجلب كل شيء هنا. إنها تصنع الظروف المحيطة بي. أصبحت أخاف من هذه الذاكرة، لقد صارت تبدو كقاتل يعشّش في عقلي، حين تنهض تجر خلفها أشلاء وضحايا، وتسبب كوارث ونوائب.

جاءت لغة العتوم كما اعتدنا منه دومًا، فصحى رائعة الجمال تستمد أغلب لفظاتها ومعانيها وتشبيهاتها من القرآن الكريم، إلا أن هناك بعض المعاني الصعبة بعض الشيء التي تستلزم أن يكون مع القارئ معجم صغير حتى يستطيع فك أسرارها، خاصة وإن كان ما زال مبتدئًا في القراءة. تبلغ جمالية لغة العتوم أقصاها في الأحداث عندما يزور البطل طابق اللغة في المكتبة.

من غرائبية سرد الأحداث التي لا أعرف أهي ثغرة من الكاتب أم اعتمد على أن القارئ سيغفو عنها ويتقبلها كما تقبل كافة الأحداث السابقة بحكم أن الرواية تنتمي إلى أدب الفنتازيا، وهي الكيفية التي اتخذها البطل في معرفة عدد السنين في رحلته. ربما هو توكيد ضمني من الكاتب أن الميت لا يبعث على ما مات عليه فقط، بل يبعث أيضًا بكافة الأفكار والآراء والعلوم التي اكتسبها في حياته.

جاءت نهاية الرواية بقليل من العبثية أو السخرية، فالعتوم ذيل خاتمة الرواية بأنه قد أنهى كتابتها في شهر واحد فقط. وهو شيء حتمًا سيصدمك كقارئ في النهاية، ولكن كما قلت إن المتابع لشخصية العتوم خارج نطاق كتابته سيتأكد من أن هذا الأمر ليس بقليل على كاتب عظيم القلم مثله.

هي ليست مجرد رواية، هي أشبه بكتاب ترشيحات للقراءة مكتوب بأسلوب أدبي بليغ، في رحلة مليئة بالغرائب والعجائب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.