كان طريق الثنائي الصيني شو شين وليو شيوين نحو نهائي تنس الطاولة الزوجي في الدورة الحالية مرهقًا، ورغم التدريب القاسي الذي تلقاه الثنائي ومهارتهما الفذة، فإن الضغط النفسي كان هائلاً. الخسارة ليست خيارًا مطروحًا، والمنافس كان الفريق الياباني الذي يلعب على أرضه ويملك أفضلية بطبيعة الحال.

بدأ اللقاء وبدا المستوى متكافئًا، شوط هنا وشوط هناك، حتى وصلت النتيجة ل3-3، قبل أن يحسم الفريق الياباني المباراة في شوط فاصل، ويتوج بالميدالية الذهبية، ويكتفي الفريق الصيني بالفضية.

بعد المباراة انخرط الثنائي في البكاء عندما التقيا مع أحد الصحفيين، وعبرا عن أسفهما للأمة الصينية على هذه الخسارة، قبل أن تندلع موجة عارمة من الانتقادات القاسية لهما عبر الإنترنت وتطبيق التواصل الاجتماعي الصيني الشهير weibo.

اتهمتهم الانتقادات بالتخاذل وبأنهم جلبوا العار للصين، وكتب البعض أن ما حدث كان خيانة وطنية مكتملة وليست خسارة مباراة تنس طاولة على الإطلاق.

طالع الثنائي تلك الانتقادات بالطبع، وربما جلس كل منهما ليتذكر رحلته الطويلة حتى هذا اليوم، رحلة التدريبات القاسية، والحياة الشاقة، وفي النهاية ولأجل خسارة مباراة اتهما بالخيانة، وقف أحدهما حينها ليسأل: لماذا؟ هل يستدعي الأمر كل ذلك؟

شو وليو ليسا الوحيدين اللذين سألا هذا السؤال، سيمون بايلز طرحت السؤال نفسه قبل أيام حين انسحبت من أولمبياد طوكيو 2021، وقد دار في ذهن الآلاف من قبل.

دار في خلد طفل صيني آخر لم ير أهله منذ سنوات، أو فتاة سوفييتية تعرضت للاغتصاب لأجل ميدالية الجمباز، أو مواطن من بلد فقير تنفق بلاده على الأحداث الرياضية ملايين الدولارات في الوقت الذي تعاني فيه قطاعات التعليم والصحة.

والسؤال مرة أخرى: هل تستحق الميداليات الأولمبية ما تفعله الدول من أجلها؟ ولماذا تبذل الدول كل ذلك؟

نزرع لنحصد

تنفق الدول الملايين سنويًا لإعداد لاعبيها للأولمبياد. أنفقت إنجلترا حوالي 374 مليون جنيه إسترليني للتجهيز لأولمبياد طوكيو، أما الصين فتمتلك مشروعًا كاملًا لإنتاج الأبطال الأولمبيين. دولة نامية مثل مصر تنفق نحو 12.5 مليون دولار لتجهيز البعثة الأولمبية.

تنشط الدول كذلك في عمليات التجنيس، فاز فارس حسونة صاحب الأصول المصرية بذهبية رفع الأثقال الأولى لقطر، معتز برشم كذلك صاحب ذهبية الوثب العالي من أصول سودانية، أمريكا تمتلك الكثير من اللاعبين المجنسين أيضًا.

ترصد أغلب الدول كذلك مكافآت عملاقة للفائزين بالميداليات، سيحصل بطل الكاراتيه السعودي طارق حامدي على مليون ريال، الرباعة الفلبينية هيديلين دياز صاحبة ذهبية رفع الأثقال في طوكيو ستحصل على نحو 600 ألف دولار، وصاحب الميدالية الذهبية في سنغافورة يفوز بنحو 737 ألف دولار.

كل هذه الجهود والأموال تبذلها الدول لأجل الميداليات، رغم أنه لا عائد مادي مطلقًا للدول من الفوز بالميداليات.

يُمنح الفائز الميدالية فقط ولا تمنح اللجنة الأولمبية أي أموال كجائزة أخرى، فلماذا إذن تبذل الدول كل ذلك لأجل ميدالية؟

سياسة رغم أنف الجميع

ينص الميثاق الأولمبي أن أحد المبادئ الأساسية للأولمبياد هو أن «المنظمات الرياضية الموجودة يجب أن تطبق الحياد ولا تظهر أي موقف سياسي في الأولمبياد»، لكن الواقع أن الألعاب الأولمبية لم تنفصل يومًا عن السياسة، وكانت دائمًا منبرًا للكثير من المواقف السياسية والاحتجاجات وإبراز المواقف العدائية منذ انطلاقها في 1896.

اكتسبت الأولمبياد أهمية سياسية كبرى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت المشاركة بها ترمز إلى الاعتراف السياسي والشرعية.

لم تتم دعوة ألمانيا واليابان إلى دورة لندن 1948 بسبب أدوارهما وقت الحرب، ولم تشارك مصر والعراق ولبنان في دورة ملبورن 1956 احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على شبه جزيرة سيناء.

قاطعت أكثر من 60 دولة على رأسهم الولايات المتحدة وألمانيا الغربية واليابان ألعاب موسكو 1980 احتجاجًا على الغزو السوفييتي لأفغانستان، والذي قرر بدوره رفقة 14 دولة حليفة مقاطعة دورة لوس أنجلوس 1984.

وبذلك فإن الأولمبياد احتفظت بمكانتها دائمًا كمنبر سياسي تستخدمه الدول دائمًا للتعبير عن مواقفهم بشكل صريح وواضح، وتتفوق بذلك على العديد من المحافل الرياضية الأخرى التي لا تهتم بها الدول الاهتمام ذاته.

نحن نفوز = نحن أفضل

خلف السياسة الظاهرة، فإن كل دولة تعتبر الأولمبياد فرصة مواتية لإثبات التفوق والأفضلية، نحن نفوز أكثر لأننا أقوى وأفضل، شعب أفضل وحكومة أفضل، وهو ما يخلق هوسًا دائمًا بعدد الميداليات في كل دورة.

في كتابه «لماذا تتحارب الأمم»، يرى ريتشارد نيد أن الأمم كانت تتحارب منذ القدم في ميادين القتال من أجل المكانة، تثبيت المكانة الحالية أو انتزاع مكانة جديدة، ولم تنته هذه الحروب إلى الآن، لكن لم تعد ميادين القتال هي الأصل، وإنما انتقلت الحرب نحو ميادين أخرى، مثل استكشاف الفضاء وجوائز نوبل والميداليات الذهبية الأولمبية.

وحاليًا، وجد الصراع بين الصين والولايات المتحدة على قمة العالم طريقه للأولمبياد بالفعل، مع ظهور الصين كقوة اقتصادية جبارة على الساحة، بدأت في مشروعها لإثبات ذلك في الأولمبياد، ورغم أنها لم تشارك إلا متأخرة جدًا، منذ 1980 فقط، لكنها صارت الآن منافسًا على صدارة الميداليات الذهبية في كل دورة، باعتبار ذلك دليلًا على القوة والنفوذ.

طبقًا لشيلدون أندرسون، الباحث التاريخي المختص، فإن الحزب الاشتراكي الألماني الذي حكم ألمانيا الشرقية كان يؤمن أن عدد الميداليات التي ستفوز بها البلاد في الأولمبياد هي الطريقة الأكثر فعالية من حيث التكلفة لعرض نظامهم الاشتراكي وانتزاع الاعتراف الدبلوماسي بوجوده، وتحديدًا مقارنةً بألمانيا الغربية، حيث سيكون عدد الميداليات مقياسًا موضوعيًا لقوة النظامين.

الصراع في الأولمبياد رياضي نعم، لكنه يحمل مدلولًا أكبر من ذلك عند الجميع، حين تهزم الأرجنتين إنجلترا فهذا انتقام من حرب الفوكلاند، وحين واجهت الصين اليابان في تنس الطاولة فهو تجديد للحرب التي بدأت باحتلال اليابان لإقليم منشوريا شمال الصين وراح ضحيتها ملايين الصينيين، وحين فاز جيسي أوينز صاحب الأصول الأفريقية بأربع ميداليات ذهبية في أولمبياد 1936 ببرلين، كان هذا ردًا واضحًا على ادعاءات هتلر بتفوق الجنس الآري.

لذلك فإن الإجابة الثانية على السؤال، أن الأولمبياد ليست أكثر من ساحة حرب جديدة بين الدول، والرياضيون بالنسبة للدول لا يختلفون عن الجنود في المعارك، الشيء المهم الوحيد في الأمر هو المكانة ومجد الدولة.

طوكيو يا شوقي

علاقة الأنظمة الحاكمة بالرياضة كانت دائمًا علاقة نفعية بامتياز، لا تتذكر الدول الرياضة إلا حين تتطلبها أغراض السياسة، والتسويق للنظام خارجيًا وداخليًا هو أهم غرض دائمًا.

يبدو كلامًا كليشيهيًا مكررًا بالطبع، لكنها حقيقة، العديد من الأنظمة تستخدم البطولات الرياضية لهذا الغرض، كأس العالم 1934 و 1938 اللذان فازت بهما إيطاليا استخدمهما نظام موسوليني لإلهاء الشعب والتسويق لنجاحات نظامه الفاشي، كأس العالم 1978 الذي فازت به الأرجنتين كان وسيلة النظام العسكري هناك للتغطية على القمع والفقر اللذين عانى منهما الشعب آنذاك.

تشكل الأولمبياد فرصة ذهبية لاستثارة الروح الوطنية لدى الشعب، طبقًا لأورنيلف سيبر عالم الاجتماع فإن المنتخبات الوطنية ما زال لها قدرة متفردة على اجتذاب الشعوب وإثارة روح القومية لديهم، يلتف الناس حول الرياضيين الوطنيين في ألعاب لا يفهمون قواعدها من الأصل، نتحمس ونفرح ونحزن ونحن لم نشاهد هذه اللعبة قبل الآن.

وتدور آلات النظام الإعلامية، لتذيب الفارق بين المنتخب الوطني وبين النظام الحاكم، وتجعل الالتفاف حول المنتخب فرصة لإثارة القومية المطلقة في نفوس الشعب، واستغلال ذلك سياسيًا في تمرير القرارات أو إحداث تغييرات.

لقد ساعد الفوز بالميداليات في توحيد الأمة، وما زلنا بحاجة إلى ميداليات ذهبية أكثر لرفع الروح المعنوية، والرياضيون على استعداد للمقامرة بشبابهم من أجل غد أكثر إشراقًا. 
ليان تشيانغ، الكاتب الرياضي الصيني

لا يفوت أغلب الزعماء فرصة التقاط الصور مع الأبطال الأولمبيين، ودعمهم ظاهريًا والتأكيد على براعة التخطيط الذي قاد إلى النجاح في عهد الزعيم المبجل، هذه صورة تتكرر في كل مرة وتؤتي أكلها كذلك في كل مرة.

لذلك فإن الإجابة الثالثة، أن الدول ترغب في استغلال الفوز والنجاح للتسويق للنظام داخليًا وخلق حالة من الوطنية الزائفة لتمرير القرارات وتغطية القمع والفساد.

نحن هنا

بينما تتنافس الدول الكبرى على الميداليات من أجل ترسيخ مكانتها، وتأكيد سطوتها على غيرها، فإن دولًا أخرى تستغل الأولمبياد كفرصة ذهبية، فقط لتقول للجميع: نحن هنا.

دول مثل كوبا وجامايكا وكينيا، هذه دول لا وجود دولي مؤثر لها، وربما مصدر شهرتها الأول هم أبطالها الأولمبيون الذين يحصدون الميداليات الذهبية في كل دورة، تتفوق كوبا في الملاكمة، وصنع يوسن بولت العداء التاريخي شهرة واسعة لجامايكا، ولا يدخل أحد مضمار الجري الأولمبي دون أن يتذكر إنجازات العدائين الكينيين.

سيكون أداء بولت في أولمبياد لندن مؤثرًا على جامايكا لسنوات عديدة وسيساعدنا في جذب المزيد من السياح.
وزير السياحة الجامايكي ويكهام ماكنيل

بولت صاحب فضل كبير في شهرة الجزيرة بالفعل، تقع جامايكا في البحر الكاريبي، ولا تتجاوز مساحتها 11100 كيلومتر، وتتمتع بمجموعة من أجمل الشواطئ ومطاعم المأكولات البحرية، وقد ساهم تألق بولت في ازدهار السياحة هناك بشكل كبير، في عام 2010 وحده زار الجزيرة نحو 2 مليون زائر طبقًا للبنك الدولي.

لذلك فإن الأولمبياد فرصة ذهبية لجميع الدول، يحقق الجميع فيها أغراضهم، تتنازع الصين وأمريكا على سيادة العالم، وتعلن جامايكا عن شواطئها الرائعة، وينتظرها زعيم في دولة نامية ليلتقط صورة مع أبطال بلاده فيشكره الجميع على دعمه الدائم للرياضة، ويدعون له باستكمال النجاحات، ونحن ندعو له بالتوفيق.