صديقي العزيز، لم أعد مؤمنًا بما يكفي، ولا كما يجب، أنت تعرفني جيدًا وتعرف أنني لا أنتوي الحياة دون إله ولا تساورني الشكوك في وجوده بالطبع؛ لكنني لم أعد مؤمنًا بما يكفي.

لم أعد مؤمنًا بما كنا نؤمن به سابقًا، لم أعد مؤمنًا بالخير أو الشر أو انتصار أحدهما في النهاية، ولا بالتغيير والمقاومة، ولا بأن العدل سينتصر، ولا بأن للظلم نهاية، ولا بأن القادم يحمل لنا ما كنا نحلم بتحقيقه يومًا ما.

لم أعد مؤمنًا بأن الأحلام ستتحقق، وأصبحتُ متشككًا في أسباب وجودي على قيد الحياة، فالأشياء جميعها تسير في الاتجاه المعاكس دون مخالفات سير، فمخالفات السير الوحيدة نحن فقط من نعاقب بها لأننا لم نختر الطريق الخاطئ الذي أصبح، مؤخرًا، متصلًا بالنهايات السعيدة.

أنت تعرف أيضًا أنني لولا معاناتي من رهاب الموت واقتناعي التام بأن مخالفة أقدار الرب تستوجب العقاب الأشد في دار البقاء لما كنت على قيد الحياة لأكتب تلك الكلمات.

ليبقى السؤال الذي يؤرقني كل ليلة، ماذا حدث منا لنستحق هذا الكم من العناء، ماذا حدث ليتحول هذا الحلم الرقيق لأسوأ كابوس في الحياة؟

ماذا لو لم نحلم من البداية، لم يكن ليختلف قدرنا عمن سبقونا أو على الأقل لم نكن لنرى هذا الكم من المعاناة.

أعرف يا صديقي أنك ربما تقول إنني أضخم الأمور قليلًا، فالكثيرون نسوا وربما تخلى البعض منهم، ولكنني لم أنس أبدًا أنني عشت بضع سنوات أشعر بقيمتي وغاية وجودي.

وماذا الآن؟! أعيش ملتحفًا بهزائمي وخيبة أملي ولا أرى في الأفق أي ضوء ولو خافت أتعلق به. الغربة يا صديقي قاتلة والباقون معذبون مثلي. أما الراحلون فهم كثر، من رحل وترك آثار دمائه شاهدة علينا، ومن رحل وترك سني عمره الضائعة تخبرنا أننا تخلينا! والمفجع دائمًا هم الراحلون عن أنفسهم، فلم نعد نعرفهم ولم يعودوا قادرين على معرفة أنفسهم عند النظر إلى المرآة. حاولت مرارًا التحول والانخراط داخل قطيع الذين لا يعنيهم شيء سوى أنفسهم ولكنني فشلت. دائمًا ما أشعر بالغربة في جميع الأوساط إلا من يحملون نفس أضرار هزيمتي.

أتذكر يا صديقي عندما كنا نتحدث عن أن الحديد لا يفله إلا الحديد، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها؟ أصبحتُ متشككًا في هذا أيضًا.

تربينا على شعارات زائفة تخلى عنها داعموها في النهاية عندما أحسوا بالخطر، وعقيدة متلونة يخبرك رهبانها بواجب الوقت الخاطئ دائمًا. والتخلي الأكبر يا صديقي كان عنا نحن، نحن الذين لم يؤمنوا بالكهنة، ولم يسمعوا إلا صوت عقولهم حسب ما تحركهم مبادئهم، نحن الذين لفظنا من الجميع وتهافت علينا الجميع حينما حان دورهم.

التخلي كان موجعًا للغاية يا صديقي فذكراه دائمًا مختلطة بدماء نقية وسنين عمر ذهبت هباءً، ولكن على الرغم من كونه موجعًا فإن خيره الوحيد أننا لم نسقط حينما سقط الرهبان. تعثرنا ثم أكملنا السير محملين بأعباء تلك الهزائم ولم نهرب.

الغريب في الأمر يا صديقي أن النماذج كلها فاشلة، جميعها سقطت واحدة تلو الأخرى ولم تنذر واحدة منهم على الأقل ببارقة أمل تخبرنا أنها كانت ستنجح لولا تناولنا الخاطئ لها.

ثم تعاودني الشكوك من جديد، لماذا تكبلنا الأقدار بهذا القدر من الألم النفسي، ونحن لا نستطيع تحمله؟! أم أن الأمر كما يقال، إن المشكلة تكمن في عدم معرفتنا بما لا نطيق، وأن أحدًا لم يكتب عليه أبدًا ما لا يستطيع تحمله.

ولماذا أشعر الآن أن روحي لا تستطيع المضي ولو بضعة ملليمترات للأمام. ما الخطأ الذي ارتكبناه يا صديقي لنصعد بروحنا وأحلامنا لنلامس عنان السماء ثم نسقط من شاهق وكأننا استبحنا اللواط!

لقد كنا بالنقاء الكافي يا صديقي أو هكذا كنا نرى، على الرغم من وجود الكثير من الأفاقين في صفوفنا فإن العصبة النقية كانت تستحق النصر، فلماذا هزمنا؟!

منذ أعوام ليست بالبعيدة كنت أصلي مستمتعًا باحثًا عن راحة داخلية فأجدها، أما الآن فأصلي خائفًا من الموت، خائفًا من عذاب الله، والخوف الأكبر بداخلي أن تمر الأيام ويتلاشى ذلك الخوف، فأصبح كمن لا يعرفون أنفسهم عند النظر إلى المرآة.

كم أتمنى أن يعود هذا الشعور مجددًا ، كم أتمنى أن يكتمل الإيمان فعذاب من ذاق حلاوته ثم انقطع لا يضاهيه عذاب. ولكن كيف؟!

ولماذا كتب علينا نحن مرارًا تلك الهزائم لو أننا لن ننتصر، ولماذا تمدنا الحياة أيامًا ونحن لن ننتصر، ولماذا لا ننتصر؟ ما السبيل؟ ما النموذج الذي نجح تطبيقه؟

عذرًا يا صديقي فقد أثقلتك بهمومي وشكوكي وقلة حيلتي.

أخبرني يا صديقي كيف حال السنين الضائعة، أم ترى فيها خيرًا لا أراه؟ أفتقدك حقاً يا صديقي وأفتقد الطريق. أما زلت على عهدك يا صديقي بلف سجائري، ونحن نسير في رضا في نعيم الجنة؟ أما زلت ترى أننا نستحق الجنة؟ ربما لو رأيتني الآن لتغيرت نظرتك عني! أخبرني يا صديقي حقًا لماذا لم أعد مؤمنًا؟!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.