بنظرة رضا وكرم ملكيين، تحول الشاب اللبناني الذي سافر إلى السعودية في ستينيات القرن العشرين ليعمل مدرسًا للرياضيات، إلى ملياردير يتقلد أعلى المناصب ويمتلك واحدة من أكبر شركات المقاولات في الشرق الأوسط.

«أنا: سعودي أوجيه»هكذا كان يعرف رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، نفسه لأبنائه. مقاول القصور الملكية السعودية الذي رحل في تفجير ارتجت له لبنان عام 2005، ترك لابنه الثاني سعد زعامة الطائفة السنية في لبنان، وشركة كانت كافية لوضع اسم كل من ورثته على قائمة المليارديرات.

زواج المال والسلطة الهانئ هذا لم يدم طويلا؛ ففي 2011 استدعى العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز سعد الحريري إلى السعودية، بدعوى وجود خطر يهدد حياة سعد في لبنان. دعوة طالت واستمرت لخمس سنوات متصلة، مثلت فيها الاستضافة السعودية للحريري الابن منفى اختياريًا، أو إقامة جبرية.

في 2016، وبعد تغير القيادة السعودية، عاد «الزعيم المنتظر» إلى لبنان أخيرًا، ليعقد مع منافسيه اتفاقًا سياسيًا، لم يوافق هوى النظام السعودي، عاد به إلى الواجهة رئيسًا للوزراء، في مقابل تولي ميشيل عون، عدو اتفاق الطائف اللدود وحليف حزب الله، رئاسة الجمهورية.

إلا أن الحريري الذي استعاد مكانته السياسية كان عليه أن يدفع ثمنًا باهظًا للغاية من إمبراطوريته الاقتصادية. «سعودي أوجيه» التي كانت ملء السمع والبصر،تحولت في أشهر معدودة إلى رماد تذروه الرياح؛ وكما صعدت الشركة وازدهرت وتعملقت بقرار ملكي سيادي، قبل أربعة عقود، انهارت الشركة وأفلست وسرحت موظفيها، بقرار ملكي سيادي آخر.

عاد سعد الحريري إلى الرياض دون أن يكمل عامًا واحدًا في مغامرته ورئاسته للحكومة،ليعلن من العاصمة السعودية، وعبر الشاشات السعودية، رفضه للتدخل الأجنبي الإيراني في شؤون بلاده، واستقالته من رئاسة الوزراء بعد أن لمس «ما يحاك سرًا لاستهداف حياته». فاجأ الحريري أطياف اللبنانيين كافة باستقالته تلك؛ لكن الحريري هو رب الإبل، بينما للبنان رب يحميها.


اختراق التابو

محمد بن نايف، محمد بن سلمان، متعب بن عبد الله، آل سعود، المملكة العربية السعودية
الأمير «محمد بن سلمان» ولي عهد السعودية (يمين) والأمير «متعب بن عبد الله» وزير الحرس الوطني السعودي (يسار) يتوسطهما «محمد بن نايف» ولي العهد الأسبق.

لا يمثل آل الحريري إلا جهة واحدة من عشرات، أو بالأصح مئات، الجهات والعائلات التي بنت ثرواتها الطائلة حصيلة العقود والهبات السعودية «السخية» وغير خاضعة للمراقبة؛ وهو سخاء كان المستفيد الأكبر والأصلي منه هو كبار أمراء آل سعود وأبناؤهم أنفسهم، سواء من خلال العقود والتسهيلات التي تمنح لآلاف الشركات التي يملكونها أو يملكون حصصا كبيرة فيها في المملكة وخارجها، أو من خلال «العمولات» والصفقات التي تعقدها الوزارات التي يتولون مقاليدها كإقطاعيات خاصة يُصرِّفونها كيفما شاؤوا.

بين ليلة وضحاها اكتشف حكام الرياض وقرروا أن هذا «السخاء» السعودي المعهود، هو فساد.

في نفس اليوم، السبت الرابع من نوفمر/تشرين الثاني، الذي أعلن فيه سعد الحريري من الرياض استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، دوى في سماء الرياض انفجار صاروخ حوثي تعرضت له الدفاعات السعودية، لكن دوي القرارات التي خرجت في ذات الليلة من الديوان الملكي كان أكبر.

أصدر العاهل السعودي مرسومًا بتأسيس «لجنة عليا لمكافحة الفساد» تتمتع بصلاحيات استثنائية ، ويتولى رئاستها، حالها حال بقية اللجان والمجالس الهامة في البلاد، ولي العهد محمد بن سلمان. في نفس الليلة، وفي غضون ساعات، كانت الاتهامات قد وزعت على العشرات من الأمراء والمسؤولين البارزين، وكانت القوات الأمنية في طريقها لاعتقالهم، بعد أن مُنِعت الطائرات الخاصة من الإقلاع في ذلك اليوم وجُهِّز فندق «الرياض ريتزكارلتون» ليصبح مقر إقامة جبرية لضيوفه من «كبار المعتقلين».

بادرة اعتقال أمراء بتهم الفساد، تشكل اختراقا فريدا من نوعه في تاريخ آل سعود، وتشرعن للشعب نفسه اقتحام تابو محظور متعلق بالحديث علنا عن فساد العائلة المالكة.

على رأس من أطاح بهم «محمد العزم» في تلك الليلة يأتي آخر جناح قوي متبق في العائلة الحاكمة متمثلا في الأمير متعب ابن الملك عبد الله، وأخيه تركي، أمير الرياض السابق، ورئيس ديوان والدهما الراحل، خالد التويجري. لعقود طويلة مثل الحرس الوطني، بوصفه – إلى جانب كل من وزارة الدفاع والداخلية – واحدا من ثلاث وزارات عسكرية سيادية، مركز نفوذ الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز، وضمانته التي مكنته من ارتقاء عرش المملكة وعدم إقصائه من قبل إخوته «السديريين» الذين كانوا يحكمون قبضتهم على وزارتي الدفاع والداخلية.

وبينما كان التويجري يعد خطة صعود الأمير متعب لتسلسل العرش عقب الأمير مقرن، معتمدا على الحرس الوطني، باغتته وفاة الملك عبد الله. أُقيل التويجري ومنع من السفر، ثم قام الملك سلمان بإعادة تشكيل خط ولاية العهد كله، ابتداء بإزاحة أخيه مقرن واستبداله بمحمد بن نايف، ثم الإطاحة بالأخير لصالح ابنه محمد بن سلمان مع تجريد ابن نايف من وزارة الداخلية التي كانت بيد أبيه لعشرات السنين.

بالتالي، لم يكن من المفاجئ أن يطيح محمد بن سلمان بمتعب بن عبد الله من الحرس الوطني، ليقضي على آخر «قوة» قد تناوئه، لكن المفاجئ كان أن تتم هذه الإطاحة تحت مظلة اتهامات بالفساد.

فلعشرات السنين كان الأمراء السعوديون يتربحون من صفقات السلاح وعقود المناقصات ومن «الشبوك» – وهي أراض واسعة تبلغ قيمتها عشرات ومئات ملايين الريالات يستولي عليها الأمراء النافذون ويحيطونها بالشباك التي أتت منها التسمية – كنوع من تقاسم السلطة والثروة بين الملك وأفراد العائلة الحاكمة، دون أن يُسمح بتوجيه أدنى اتهام علني للذمة المالية لأي من الأمراء، حتى لو ضجت الأرض كلها بفسادهم، كما حدث مع «صفقة اليمامة» الشهيرة.

يتضح من ذلك مدى الخطورة التي تمثلها بادرة اعتقال أمراء بتهم الفساد، والذي يشكل اختراقا فريدا من نوعه في تاريخ آل سعود، الأمر الذي يشرعن ويتيح للشعب نفسه اقتحام تابو محظور متعلق بالحديث علنا عن فساد العائلة المالكة.

إلى جانب ابني الملك عبد الله تتسع القائمة لتضم تسعة أمراء آخرين على رأسهم الملياردير الشهير الوليد بن طلال، وصاحب شركة المملكة القابضة وقنوات روتانا، التي ما انفكت عن التغني بأمجاد الأمير محمد بن سلمان، عدا عن الأسهم التي يمتلكها في أكبر البنوك وسلاسل الفنادق وشركات الإعلام والتواصل الاجتماعي العالمية.


لن ينجو أحد

إحدى المفارقات التي تضمنتها حملة الاعتقالات هذه كانت في نشر خبرها عبر قناة العربية السعودية التي تمثل إحدى قنوات مجموعة الـ «MBC» التابعة لوليد آل ابراهيم، صهر الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، والذي هو نفسه أحد المعتقلين بتهم الفساد.

الملياردير بكر بن لادن، عميد عائلة ابن لادن، والنجل الثاني لمؤسسها محمد بن لادن، والأخ غير الشقيق لأسامة بن لادن، هو الآخر طالته يد محمد بن سلمان. أسست أسرة ابن لادن إمبراطورية هائلة عبر شركة المقاولات العملاقة التي أسسها ابن لادن الأب، وورثها أبناؤه، والتي تولت تنفيذ أضخم مشاريع البناء والبنية التحتية في المملكة العربية السعودية بصورة متصلة منذ عهد الملك فيصل، عدا عن شبه احتكارها لمشاريع توسعة الحرمين الشريفين وصيانتهما.

أتت أولى ضربات الملك سلمان لمجموعة ابن لادن على إثر حادثة سقوط الرافعة في الحرم المكي، والتي تسببت بوفاة عشرات الحجاج، إذ أصدر الملك قرارًا بوقف أعمال الشركة ومنعها من التقدم لمناقصات أي مشاريع حكومية وإيقاف سداد الدفعات المالية الواجبة على الحكومة تجاه الشركة، ما كبدها خسائر بالمليارات وأدى إلى أزمة كبيرة تجلت في عجز الشركة عن سداد مرتبات عمالها، الأمر الذي تزامن وتشابه مع أزمة «سعودي أوجيه».

ورغم قرار المحكمة السعودية، الشهر الماضي، ببراءة مجموعة ابن لادن من التسبب في سقوط الرافعة، وسماح الملك للشركة باستئناف أعمالها، إلا أن ولي العهد قرر أن يشمل الملياردير العجوز في قائمة اعتقالاته موجهًا له تهم تقديم رشاوى للوزراء للفوز بعقد توسعة المسجد الحرام الأخيرة.

الوزير المعني هنا ليس إلا إبراهيم العساف، وزير مالية آل سعود لأكثر من عشرين عاما وعلى مدار ثلاثة ملوك، والذي أعفاه الملك سلمان من وزارة المالية العام الماضي مع الإبقاء عليه كوزير دولة في مجلس الوزراء.

قائمة المليارديرات ضمت أيضًا كلا من رجل الأعمال صالح كامل، صاحب «مجموعة دلة البركة» وشبكة قنوات «art» والعديد من البنوك والشركات الاستثمارية والإعلامية، والملياردير ذي الأصول الإثيوبية محمد العمودي الذي يملك مجموعة من مصافي النفط والمناجم في أوروبا وأفريقيا بالإضافة لاستثماراته العقارية والزراعية. اللافت أن كُلًا من الرجلين من الحاضرين بقوة في الأنشطة الخيرية والمجتمعية التي يرعاها أمراء العائلة الحاكمة.

الجدير بالذكر أن بعض المصادر أشارت إلى أن قائمة من رجال الأعمال والشخصيات البارزة صدر بحقها مؤخرا قرارات منع من السفر وطولبوا بتقديم كشوف شركاتهم المالية، لتقرير ضريبة عليهم تستخدم، كما ستستخدم الأموال المصادرة من المليارديرات المعتقلين، في تمويل المشاريع الكبرى التي أعلن عنها محمد بن سلمان.

أما فيما يتعلق بوزير الاقتصاد المقال والمعتقل عادل فقيه، فقد اعتقل على خلفية واقعة غرق مدينة جدة في 2009 نتيجة الأمطار والسيول التي تعرضت لها المدينة وراح ضحيتها عشرات الأشخاص، إذ كان عادل فقيه يتولى أمانة المدينة إبان تلك الحادثة، قبل أن يختاره الملك عبد الله لشغل منصب وزير العمل، ثم ينتهي به المطاف بتعيين الملك سلمان له وزيرا للاقتصاد. أي أن الواقعة المتهم فيه الوزير فقيه كانت قد حدثت بالفعل قبل أن يختار الملك سلمان، وولي عهده منحه الثقة وتعيينه وزيرا للاقتصاد في ظل «رؤية 2030» لتغيير شكل المملكة واقتصادها.


ما الهدف؟

ضمت قائمة الاعتقالات كبار رجال الأعمال السعوديين مثل: الوليد بن طلال، وبكر بن لادن، ومحمد العمودي، وصالح كامل.

السؤال الأهم هنا هو الهدف من هذه الحملة: هل هو وضع خاتمة لتاريخ طويل من الفساد واستغلال المناصب والسلطة في السعودية؛ كما يقول الإعلام السعودي؟ أم تصفية حسابات قديمة، وتثبيت وفرض هيمنة محمد بن سلمان الكاملة على الواقع السعودي، كما تصفها «وول ستريت جورنال»؟

على أية حال، فلا شك أن أخبار مكافحة الفساد هي أخبار مبهجة، تستحق من المواطنين السعوديين أن يسعدوا بها، ويتصدروا بوسمها «تويتر»، وألا يترددوا في تقديم البلاغات القانونية، المدعمة بالأدلة والوثائق، ضد الفاسدين الذين يبددون «مقدرات الوطن» سواء كانوا أمراء يحتكرون عشرات الآلاف من الأمتار في قلب أهم المدن السعودية وعلى طول سواحل المملكة، أو موظفين ووزراء يبددون ملايين الدولارات من ميزانية الدولة في رحلاتهم المترفة خارج البلاد، أو أولئك الذين يشترون قصورا ويخوتا بمليارات الريالات بينما تشهد بلادهم تقشفًا وأزمة اقتصادية.

على الشعب السعودي ألا يتوانى بعد اليوم إذًا في إيصال صوته لولي العهد الشاب، ورئيس اللجنة العليا لمكافحة الفساد والفاسدين، للإبلاغ عن كل هذا «الفساد».