يبدو أننا ما زلنا في زمن الكوفيد-19، رغم انكسار الموجة العاتية للجائحة العالمية لهذا الفيروس، التي بلغت ذروتها عاميْ 2020 و2021. لكن هذه المرة، فلحسن الحظ، لا يتعلق الحدث هذه المرة بانتشارٍ جديد لهذا الفيروس الخطير، إنما بتكريم عالميٍّ عظيم لمن بذلوا جهوداً فاصلة في مسار محاربة هذا الفيروس، وكسر وبائه العالمي في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2023، أعلنت اللجنة المشرفة على جائزة نوبل بمعهد كارولينسكا السويدي، أنها منحت جائزة نوبل في الطب لهذا العام مناصفة إلى العالمة المجرية «كاتالين كاريكو» والعالم الأمريكي «درو وايزمان»، تقديراً لإنجازهما الكبير الذي أسهم في سرعة ابتكار لقاحات كوفيد-19 التي اعتمدت على تقنية الحمض النووي الريبوسي الرسول mRNA الحديثة. ومن أبرز أمثلة لقاحات كوفيد-19 التي بُنِيَت على تلك التقنية، لقاحيْ فايزر-بيونتيك، وموديرنا، اللذيْن لعبا دوراً مهماً في مواجهة جائحة كوفيد-19 لا سيما في البلدان المتقدمة.

وتبلغُ قيمة الجائزة لهذا العام ما يقارب 980 ألف دولار أمريكي، ستُقسَّم مناصفةً بين الفائزيْن. وهي القيمة الرقميَّة الأكبر للجائزة في تاريخها منذ تأسيسها.

مجريّة وأمريكي وصدفة

بادئ ذي بدء، شعرت بلذةِ ودهشةٍ لا تصدَّق، ثم بعدها انقلب شعوري إلى نوعٍ من الخَدَر!
العالم الأمريكي «درو وايزمان»، يصف شعوره عندما أُبلِغَ بفوزه بجائزة نوبل في الطب 2023.

العالمة المجرية «كاتالين كاريكو»، تعمل كأستاذ في جامعة سيجيد المجرية، وكأستاذ مشارك في جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وكانت نائب الرئيس الأعلي لمؤسسة بيونتيك الألمانية، التي أنتجت لقاح فايزر ضد كوفيد-19. ومن المفارقات أن كاريكو ظلَّت لسنوات قبل وباء كوفيد-19 تبحث بعناءٍ شديد عن منح وتمويل لأبحاثها حول استخدام الحمض النووي الريبوسي الرسول mRNA، ووفق المثل السائر (رُبَّ ضرةٍ نافعة) مثَّلت الضغوطُ والمخاطر التي خلقتها جائحة كوفيد-19 فرصةً ذهبية لأبحاثها، ومنحتها دَفعة كبرى.

أما شريكُها في البحث العلمي على مدار أكثر من عشرين عامًا، ثم نصيفها في الجائزة العالم الأمريكي «درو وايزمان»، فهو أستاذ في جامعة بنسلفانيا، مُتخصص في أبحاث اللقاحات، ويدير معهداً متخصصاً في أبحاث الحمض النووي الريبوسي RNA. ومن المواقف الطريقة، أنَّ صداقتَهما العلمية قد نشأت بالصدفة البحتة بينما كان يقفان في طابور انتظار أمام ماكينة لتصوير الأوراق.

والآن نعود إلى بداية القصة.

اقرأ: الوصايا العشر: كيف نستعد للوباء القادم.

رحلة اللقاحات من الماضي إلى الـmRNA

منذُ عقود، ظهرت اللقاحات ضد الفيروسات، التي عند حقن البشر بها، تُحفِّز جهاز المناعة كما لو أنه يواجه الفيروس نفسه، ويحتفظ في ذاكرة المناعة بتلك القدرة على المواجهة، فإذا أصيب الإنسان بالعدوى الحقيقية، كانت قدرة مناعته على التغلب عليها أفضل. وكانت تلك اللقاحات عبارة عن فيروسات كاملة مقتولة أو أُضعِفَت معملياً. وفي عام 1951، مُنحت جائزة نوبل في الطب للعالم «ماكس ثايلر»، لابتكاره لقاح الحمى الصفراء. لكن كان يعيب تلك اللقاحات القديمة نقص فاعليتها، وزيادة فرص وجود حساسية ضدها لدى عديد من البشر.

لاحقاً، ومع تطور علم البيولوجيا الجزيئية، واكتشاف الأحماض النووية، ودقائق الدقائق حول تركيب البروتينات والأحماض الأمينية التي تكونها، أصبح الاتجاه البحثي في مجال تطوير اللقاحات، هو استخلاص أجزاء معينة من الفيروس، قادرة على تحفيز رد فعلٍ مناعي قوي، يؤدي إلى إنتاج جهاز المناعة أجساماً مضادة للفيروس، دون الحاجة إلى حقن الفيروس كاملاً، ولكن كيف يمكن نقل تلك الأجزاء الفيروسية؟ من أبرز وأحدث الإجابات، باستخدام الحمض النووي الرسول mRNA.

في داخل الخلايا، يلعب الـmRNA دوراً خطيراً في إنتاج البروتينات، حيث يعمل كقالبٍ تُنتَج على أساسه الأحماض الأمينية المكونة للبروتينات، على أساس الخارطة الجينية الموجودة في الأحماض النووية الوراثية في نواة الخلية. وفي الثمانينيات من القرن العشرين، توصَّل العلماء إلى آلية لإنتاج الـmRNA معملياً خارج خلايا الجسم، وكان هذا نقلةً مهمة في علم البيولوجيا الجزيئية وتطبيقاته.

في تسعينيات القرن العشرين، درس وايزمان وكاريكو في جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وأجريا أبحاثاً عديدة، حول تصنيع الحمض النووي الرسول mRNA ليكون ناقلاً لأجزاءٍ من الحمض النووي للفيروسات، تلك الأجزاء قادرة على إنتاج بروتينات داخل الجسم تستفز رد الفعل المناعي. وفي عام 2005، نشر الباحثان ورقة علمية عن نجاحهما في إنتاج mRNA مُعدَّل لكي يمكن حقنه بأمان إلى الجسم، حاملاً لجزء من المادة الوراثية الفيروسية، ويكون قادراً على تحفيز الجسم ليُنتِجَ أجساماً مضادة تظل رابضةً في الجسم لمواجهة الإصابة الحقيقية عندما تحدث.

وفي السنوات التالية على نشر تلك الورقة العلمية الهامة، ركَّز الباحثان جهودهما على زيادة أمان اللقاحات التي تستخدم الـmRNA حيث وُجِدَ أنَّ بعضَها قد يحفزُ ردَّ فعلٍ مناعي زائد على الحد، وخطير، نتيجة الإفراز الكثيف لموادٍ التهابية تُعرَف بالسيتوكينات، التي قد تسبب ضرراً بالغاً في الجسم إذا أُنتِجَت بشكلٍ كثيف، مُحدثةً ما يُعرف بعاصفة السيتوكينات، التي قد تؤدي إلى هبوطٍ شديد في الدورة الدموية وفشل في وظائف الأعضاء الحيوية بالجسم.

كذلك، اهتمَّ الباحثان بتطوير آليات وقدرات إنتاج الـmRNA المستخدم في اللقاحات، بحيث يمكن إنتاج كميات كبيرة في فتراتٍ وجيزة، وقد لعب هذا دوراً جوهرياً في سرعة إنتاج الملايين من تطعيمات كوفيد-19 المبنية على الـmRNA خلال شهور قليلة، للدرجة التي أثارت بعض المهووسين بالمؤامرات، الذين رأوا أن سرعة إنتاج اللقاحات تدل على أن الأمر برمَّته كان جزءًا من مؤامرة أنتجت الفيروس ولقاحاته، لتصنع المشكلة، ومعها حلَّها، ذاهلين عن الدور الأساسي الذي لعبته جاهزية الأرضية البحثية العلمية التي أنشأها كاريكو ووايزمان وغيرهما، وتضافرها مع القدرات الإنتاجية الحديثة التي تمكن من الإنتاج الواسع النطاق، طالما كان الأساس العملي جاهزاً.

اقرأ: أهم 8 خرافات حول تطعيمات كورونا في مصر.

وقد ركَّزت اللجنة المانحة على جائزة نوبل في الطب 2023 على الدور المحوري الذي لعبته أبحاث العالِميْن في سرعة إنتاج لقاحات كوفيد-19 الفعّالة بكمياتٍ كبيرة، في فتراتٍ قصيرة، ممَّا مكَّننا من كبح جماح الموجات العاتية من الجائحة العالمية في شهورٍ، حافظين بذلك أرواح الملايين من الضحايا المحتملين.

ولا تقتصر النقلة الهائلة التي أحدثها هذا التطور على لقاحات كوفيد-19، فبالإمكان تطبيقها لإنتاج لقاحات بشكلٍ عاجل وفعَّال ضد ما يستجد من فيروساتٍ وبائية في السنوات والعقود القادمة.