صعب أن تحارب نظامًا قمعيًا يحاول صناعة الحاضر. لكن الأصعب أن تقاوم محاولة لتغيير التاريخ. هذا بالضبط ما تخصصت فيه منظمة «ميموريال»، إحدى أقدم مجموعات الحقوق المدنية في روسيا، الحائزة على جائزة نوبل للسلام 2022.

التاريخ – أي تاريخ – حافل بالكتابات الملونة. بعضهم كتب تاريخه خلال حياته لنقل الصورة التي يريدها بالضبط للأجيال القادمة بغض النظر عن الواقع، بينما سعى آخرون لإعادة تدوين تاريخ أسلافهم للبناء عليها في تحقيق مكانة أكبر.

وبينما اشتهر المؤرخ الفرنسي إرنست رينان في أواخر القرن التاسع عشر بمقولته: «النسيان أمر أساسي في تكوين الأمم»، بدرجة دفعت جورج أورويل في 1945 للجزم بأن «عددًا لا يحصى من الأشخاص يعتقدون أن من المخزي تزوير كتاب مدرسي علمي، لكنهم لن يروا أي خطأ في تزوير حقيقة تاريخية»، فإن بعض الأمم تنظر إلى بعض الروايات التي تعيد النظر في حقيقة تاريخها باعتباره تهديدًا. أحد هؤلاء كانت روسيا، خصوصًا في ما يتعلق بحقبة الاتحاد السوفيتي، لا سيما فيما يخص عصر ستالين.

تعود جذور «ميموريال» إلى النصف الثاني ثمانينيات القرن العشرين، تحديدًا عام 1987، في عهد ميخائيل جورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفيتي، الذي أطلق سياسة الـ«جلاسنوست» بهدف تشجيع الانفتاح والشفافية في أنشطة جميع المؤسسات الحكومية في الاتحاد السوفيتي، شاملة منح المواطنين السوفيت حرية الحصول على المعلومات؛ في محاولة لتخفيف فساد الطبقات العليا في الحكومة والحزب الشيوعي، وتقليل التعسف في استخدام السلطة الإدارية في اللجنة المركزية السوفيتية.

لكن أهم إنجازات الجلاسنوست كانت تحرير كتابة التاريخ من سيطرة الحكومة، عبر مرسوم قرر بأن الوقت قد حان لملء «الفراغات» في التاريخ، دون المزيد من «النظارات الوردية». وفي هذه الظروف، انخفضت الرقابة على المواطنين السوفيت، الذين حصلوا على حريات أكبر في الوصول للمعلومة، ليطلق الفيزيائي المنشق، الحائز على جائزة نوبل للسلام في 1975، أندريه ساخاروف، وزوجته الناشطة يلينا بونر، منظمتهم الجديدة؛ بهدف توثيق القمع السياسي الذي ارتكبته الشيوعية في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي الأخرى.

وبشكل خاص، حاولت المجموعة مساعدة عائلات ضحايا الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان، خلال فترة حكم جوزيف ستالين، والتي شهدت إعدام ما يقرب من 700000 شخص، وفقًا لتقديرات رسمية متحفظة، في الوصول إلى ملفات الشرطة السرية المتعلقة بتاريخ عائلاتهم.

ويقدر مراقبون بأن عشرات الملايين لقوا حتفهم في عهد ستالين، في عمليات الترحيل، والمجاعة، والجمع القسري لمعسكرات العمل، والإعدام، وفي معسكرات الاعتقال، لكن ما يقدر بنحو 750,000 شخص على الأقل قتلوا فقط في فترة الرعب العظيم بين عامي 1937-1938.

وغالبًا ما عمل مؤرخو ميموريال بالتعاون مع أمناء المحفوظات التابعين للدولة، واستخدموا المصادر السوفيتية المتاحة حديثًا لإنتاج مجموعة مذهلة من الكتب ومجموعات الوثائق. في عام 2000، أنتجوا أول قائمة كاملة لمعسكرات الجولاج السوفيتية، مع تاريخ موجز لكل منها. وفي عام 2016، أصبحت هذه المادة خريطة تفاعلية عبر الإنترنت. بمرور الوقت، أنشأت ميموريال قائمة بأكثر من 3 ملايين ضحية للستالينية، وفي النهاية أتاحتها على الإنترنت أيضًا.

بالنهاية، جمعت ميموريال قوائم الضحايا، وأضافت إليها شهادات خاصة، ووثائق من أرشيفات العائلات، وأعمال فنية تتعلق بشبكة معسكرات السجون السوفيتية المعروفة باسم «غولاغ»، لتخرج في النهاية بمتحف ومكتبة وأرشيف يعتقد أنها الأكبر في روسيا.

لم يرق لبوتين

لكن كل تلك الجهود لم ترق تلك الجهود لموسكو في زمن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي سعى مرارًا لاستخدام ما يعتبرها بطولات الاتحاد السوفيتي في زمن الحرب والتضحية، في خطاباته إلى الروس، بعدما قدر، منذ البداية، فعالية الخطاب التاريخي لأجندته القومية، لا سيما إذا لعبت دور الحنين الشعبي إلى الاتحاد السوفيتي، الذي كان انهياره بمثابة إذلال لمعظم الروس. كانت هذه نقطة أكدها المؤرخ أورلاندو فيجس في مقال نشر عام 2009 حول نهج بوتين للسيطرة على السجل التاريخي فيما يتعلق بالروس. كما لخص وضعهم: «في غضون بضعة أشهر فقدوا كل شيء: إمبراطورية، وأيديولوجية، ونظامًا اقتصاديًا أعطاهم الأمن، ومكانة القوة العظمى، والكرامة الوطنية، وهوية مزورة من التاريخ السوفيتي».

 وبهذا الإطار، اكتسب قمع محاولات إعادة تقييم فترة ستالين أهمية أكبر.

في مقال نشر في عام 1990، خلص المؤرخ إريك فونر إلى أن:

التاريخ يخدم أساسًا في تبرير الوضع الراهن. يمكن أن يتحول التاريخ إلى حنين إلى الماضي، إلى عصر ذهبي وهمي، أو يلهم السعي اليوتوبيي لمحو الماضي تمامًا. ويمكن أن يجبر الناس على التفكير بشكل مختلف في مجتمعهم، من خلال تسليط الضوء على الحقائق غير السارة. في الاتحاد السوفيتي اليوم، تلعب كل هذه الأدوار وأكثر

وبالفعل، حاول بوتين تغيير السجل التاريخي؛ أملًا في الترويج لما يصفه مراقبون بـ«ترويج الأساطير الوطنية لخدمة مصالحه الذاتية». لكن منظمة مثل ميموريال وقفت كالعصا في عجلة تغيير مسار التاريخ.

تاريخ التعقب

  • 2008: جاء أول استخدام للعنف الفعلي في خدمة سيطرة بوتين على التاريخ في 4 ديسمبر/ كانون الأول، عندما شق ملثمون من مكتب المدعي العام الروسي طريقهم إلى مكاتب ميموريال في سانت بطرسبرج، ليصادروا 12 قرصًا صلبًا تحتوي على معلومات عن أكثر من 50,000 ضحية للقمع، ووثائق أخرى تعود إلى ما بين 1917 و1960، قالت المنظمة إنها «تضمنت وثائق فريدة توضح بالتفصيل الإرهاب السوفيتي من عام 1917 إلى ستينيات القرن الماضي»، فيما وصف حينها بـ«ولادة جديدة لحركة السيطرة على التاريخ».
  • 2009: اختطاف وقتل الناشطة ناتاليا إستيميروفا، التي عملت مع مركز حقوق الإنسان التابع لمنظمة ميموريال في الشيشان. وحتى اليوم، قيدت القضية ضد مجهول.
  • 2014: تصنيف مركز ميموريال لحقوق الإنسان كـ«عميل أجنبي»، في تسمية تحمل دلالات سلبية تعود إلى الحقبة السوفيتية وتجلب معها عبئًا كبيرًا من البيروقراطية.
  • 2016: تصنيف منظمة ميموريال نفسها كـ«وكيل أجنبي».
  • 2016: اعتقال رئيس منظمة ميموريال، المؤرخ يوري دميترييف، بتهم استغلال أطفال في مواد إباحية، في قضية قال أنصاره إن السلطات تلاعبت بتكييفها بعد اكتشافه مقبرة جماعية تعود إلى عهد ستالين. ويقضي دميترييف حاليًا عقوبة بالسجن 15 عامًا.
  • 2018: الحكم على أيوب تيتييف، رئيس مركز ميموريال لحقوق الإنسان في الشيشان، بالسجن أربع سنوات، بتهمة حيازة مخدرات، في قضية قال أنصاره إن السلطات زرعت المخدرات خصيصًا لتلفيقها، قبل أن يحصل على إفراج مبكر مشروط في عام 2019.
  • 2019: وجهت السلطات عشرات التهم إلى المنظمة ومركزها لحقوق الإنسان بدعوى انتهاك قانون الوكلاء الأجانب.
  • ديسمبر 2021: أغلقت روسيا المنظمة ومركزها لحقوق الإنسان، بتهمة ارتكاب انتهاكات منهجية لقانون الوكلاء الأجانب. تلك الانتهاكات لم تكن إلا عدم إضافة إشارة لتصنيف المنظمة الرسمي كـ«وكيل أجنبي» على بعض منشوراتها عبر منصات التواصل الاجتماعي.
  • في أواخر عام 2011، قال العضو البارز في ميموريال، أرسيني روجينسكي، لصحيفة نيويوركر، إن قوة اليوم في بلاده عقلانية للغاية – فهي لا تخرس الجميع. هناك حرية تعبير وحديث. هناك أرفف للكتب المناهضة لبوتين في المتاجر. لكن هذه النظرة المتفائلة لم تستمر، إذ لم يعد بوتين يهتم بالصورة التي يراه عليها معارضوه؛ إذ بات أكثر عزمًا على ترويج رواية واحدة، يسيطر عليها الكرملين، حول ما كانت عليه روسيا.
  • ومع اندلاع غزو أوكرانيا في 2022، وصل الصدام إلى نقطة الانفصال الكامل؛ بينما يقول بوتين صراحة، إنه يريد تدريس نسخة وحيدة من التاريخ يوافق عليها الكرملين في المدارس الروسية، تتهم ميموريال وناشطوها، السلطات، بالسعي على نطاق واسع على جرائم الحقبة السوفيتية.

وفي جلسة محكمة تتعلق بالمنظمة، قالت السلطات إن ميموريال تشكل تهديدًا عامًا؛ لأنها تشوه ذاكرة التاريخ، وتخلق صورة مزيفة عن الاتحاد السوفيتي كدولة إرهابية؛ اعتمادًا على «تكهنات» بشأن القمع السياسي.

مفارقة التوبة في مواجهة الفخر الوطني

جائزة نوبل للسلام 2022 إذن يمكن اعتبارها انتصارًا للناظرين إلا أن إعادة النظر للروايات الرسمية للتاريخ مفيد لـ«صحة الأمة». فبينما تجادل ميموريال بأنها «ليست منظمة ولا حتى حركة اجتماعية. بل هي حاجة المواطنين الروس إلى معرفة حقيقة ماضيهم المأساوي، ومصير الملايين من الناس»، وتقول إنها «صديقة الدولة لا عدوتها»، جادلت الدولة في روسيا بأن «أحفاد المنتصرين لا يجب أن يتوبوا أو يخجلوا، بل أن يفتخروا بماضيهم المجيد، وبحروب الوطن وتاريخه العظيم».