أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم صباح يوم الثلاثاء 3 أكتوبر/تشرين الأول، عن الفائزين بجائزة نوبل للفيزياء لهذا العام، إذ تقاسم الجائزة بالتساوي كل من «بيير أغوستيني» و«فيرينك كراوس» و«آن لويلير»، عن ابتكارهم طرق تجريبية لإنتاج موجات ضوئية في الآتوثانية شديدة القصر بما يكفي لإضاءة الذرة، الأمر الذي قد يعطي لمحة عن أسرار الإلكترون داخل العالم الذري، مُمهداً الطريق لاكتشاف أفضل للأمراض.

حصان مويبريدچ: من سباق خيول إلى سباق الزمن

كم مرة كنت تشاهد أحد الأفلام متسارعة الأحداث، ولتكن مطاردة سيارات في فيلم أكشن، ثم يحدث أن يقع مشهد ما من تركيزك فتضطر لإعادة اللقطة؟ لكنك لدى إعادتها لا تفهم المشهد مرة أخرى، لأن المشهد تمّ سريعاً، فتقوم بتبطيء سرعة المشهد وليكن على 0.5، نصف السرعة، فيستغرق المشهد ضعف الزمن، ما يسمح باستيعابك توتر الأحداث؟

لا بد أننا جميعاً قد قمنا بهذا الشيء ولو لمرة في حياتنا، لكن أحدنا لم يفكر في ماهية الأمر، لقد كان المشهد سريعاً جداً على عينيك، لكنه لم يكن كذلك على التقنية الموجودة في مُشغّل الفيديو الذي تستخدمه لمشاهدة الفيلم أو على كاميرا التصوير التي صوّرت هذا المشهد.

كان «ليلاند ستانفورد»، مؤسس جامعة ستانفورد، أول منْ فكّر في هذا الأمر، حيث تساءل في نفسه مرة، حين يقفز الحصان: يا تُرى هل يقفز بحافريه الأماميين بينما تظل قدماه الخلفيتين على الأرض؟ أم يلقي بشتى أقدامه جميعاً في الهواء دفعة واحدة؟

لحل هذه المعضلة، استعان ستانفورد وقتها بـ «إدوارد مويبريدج»، فإلى جانب كونه عالماً كان إدوارد مُصوِّراً وقد ظل لخمس سنوات يحاول تطوير تقنية لحل هذا الأمر. وليثبت اختراعه قام إدوارد بطلاء حوائط حلبة السباق بالأبيض، ونشر غباراً أبيض على الأرض، وعلّق ورقة بيضاء خلف الحصان كذلك. لقد أراد إدوارد أن يكون الحصان هو الشيء الأسود الوحيد في الصورة.

انطلق الحصان في مساره يجرُ عربةً خلفه عبر 12 سلكاً شائكاً يتصل كل منها بكاميرا، حين يُسرِع الحصان في طريقه تلف عجلات العربة على كل سلك فيلتقط مصراع الكاميرا المتصل بالسلك صورة للحصان، واحدة تلو الأخرى وسلكاً تلو الآخر، تمكّن مويبريدج من تصوير الحصان في مراحل مختلفة من حركته. أصبحت جلسة تصوير مويبريدج حينذاك أول صورة متحركة GIF تُنتَّج عبر التاريخ، ناهيك عن الدور التاريخي الذي لعبه مُمهِّداً لصناعة الأفلام، لكن الإنجاز الأهم الذي ربما لم يعرفه مويبريدجحينها أنه سيبني حجر الأساس لسبر أغوار الذرة مستقبلاً.

كانت الطفرة أن للكاميرا القدرة على رؤية ما لا تراه عين الإنسان، يمكننا استخدام التصوير لنلج عوالم خلف عالمنا.
«شانون بيريش» تعليقاً على تلك الحادثة.
جلسة تصوير الحصان لـ «مويبريدج»
أول GIF في التاريخ، صنعها إدوارد مويبريدج

من الڤيمتو ثانية للآتوثانية: 24 عاماً وجائزتا نوبل

إذا سألتك عن لون فيروس كورونا، ماذا ستكون إجابتك؟ ربما الأخضر لأنّ معظم الرسوم التوضيحية التي تمثل الفيروس على الإنترنت تكون باللون الأخضر، لكنها إجابة خطأ، والأحمر إجابة خطأ كذلك.

في الواقع إن أي محاولة للإجابة عن هذا السؤال ستكون خطأ. لا تمتلك الفيروسات ألواناً لأن قطر الفيروس أقصر من الطول الموجي للضوء المرئي، على سبيل المثال يبلغ قُطر فيروس كورونا 100 نانومتر، بينما الطول الموجي للضوء المرئي 500 نانومتر، وحتى نرى الفيروس بواسطة الضوء المرئي لا بد للضوء أن يمر خلاله.

ينطبق الشيء ذاته على الزمن، إذا أردنا رصد تفاعل كيميائي مدته ثانية، علينا أن نُصوّره بكاميرا يفصل بين لقطاتها أقل من ثانية حتى نحصل على تفاصيل التفاعل، وإذا كان التفاعل يستغرق ڤيمتو ثانية نطوّر الكاميرا حتى تفصل بين لقطاتها ڤيمتو ثانية فقط، وهذا ما فعله العالم المصري «أحمد زويل» واستحق عنه جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999.

يبلغ طول الرابطة التساهمية في الذرة نحو 0.1 نانومتر، وإذا أردنا أن نرصد تفكك هذه الرابطة ينبغي أن نُصوِّر الذرة خلال الفترة التي تتحرك فيها نفس المسافة، أي 0.1 نانومتر. وعلى نفس المنوال سأل زويل نفسه كم هو الوقت الذي تستغرقه الذرة لتسافر مسافة 0.1 نانومتر؟

باستخدام المعادلة الأساسية: السرعة تساوي المسافة مقسومة على الزمن، وقد توصّل أحمد زويل إلى أن الذرة في الثانية الواحدة تتحرك بمقدار كيلومتر، أي تتحرك 0.1 نانومتر في زمن قدره 100 ڤيمتو ثانية، وعليه إذا أردنا أن نرصد التفاعل الحادث بين الذرات الذي ينتج عنه تكسير روابط تساهمية وإضافة روابط أخرى، علينا أن نخترع كاميرا تصور ببطء هذا الزمن.

كانت الفكرة الأساسية لزويل هي إطلاق حزمة من ليزر الڤيمتو ثانية نحو الذرة، ووضع مُجزِّئ في الطريق، بحيث يُقسّم تلك الحزمة إلى حزمتين: تنطلق الأولى نحو الذرة، بينما تنعكس الثانية على مرآة لتعود بعدها للذرة في وقت لاحق، وبعد سلسلة من الانعكاسات لحزم الليزر يكون قد مرّ الليزر خلال الذرة في أوقات تتفاوت بمقدار ، وبتجميع هذا التسلسل نكون قد حصلنا على ترتيب قصير لما يحدث داخل الذرة، وباستخدام الصور التي رصدتها حزم الليزر فها قد تمكّنا أخيراً من تصوير ما يحدث داخل الذرة أثناء التفاعل الكيميائي.

عن الضوء في نهاية الذرة

في ثانية واحدة يمكن للضوء أن يلف الكرة الأرضية 7 مرات ونصف، لكن في آتوثانية بالكاد يتحرك الضوء من طرف جزيء إلى الطرف الآخر. بتشبيه آخر فإن الآتوثانية بالنسبة للثانية كالثانية بالنسبة لضعفي عمر الكون -37 بليون عام- فلو افترضنا أنك شخص خالد يعيش على المقياس الزمني بالآتوثانية، فإنك سوف تعيش 37 بليون سنة، في الوقت الذي استغرقته أنا كشخص على المقياس الزمني بالثانية كي أرمش بعيني فقط.

استحق علماء نوبل 2023 جائزتهم عن تطوير لمبدأ التوليد التوافقي العالي high harmonic generation، الذي ينص على أنه حين نركز ضوءاً شديد التركيز ذا تردد معين على الإلكترونات، تتأثر الإلكترونات في اهتزازاتها بهذا الضوء، وتبعث ترددات أعلى بكثير من الترددات التي أسقطناها عليها بمضاعفات توافقية higher harmonics، فمثلاً إذا أسقطنا على الإلكترونات ضوءاً ذا تردد 50Hz، تُطلِق الإلكترونات ترددات 100Hz و150Hz و200Hz… إلخ؛ بمعنى آخر يمكننا استخدام الذرات لتحويل الضوء من تردد إلى آخر.

وبتذكر القاعدة الأساسية البسيطة جداً: أن التردد يتناسب عكسياً مع الطول الموجي، فإن الضوء الذي تُطلقه تلك الذرات بهذا التردد العالي جداً سوف يمتلك طولاً موجياً قصيراً جداً، هذا الطول الموجي يقع في حدود الآتوثانية أي أصغر ألف مرة من الڤيمتو ثانية.

المضاعفات التوافقية

على نفس النهج الذي اتبعه أحمد زويل، تمكّن علماء نوبل (2023) من خلال مجموعة من الدراسات التجريبية والاكتشافات، من إصدار نبضات ضوئية يُقدَّر طولها بالآتوثانية، وهو ما يكفي، ليس فقط لرؤية التفاعلات الكيميائية للذرة كما اكتشف أحمد زويل، ولكن أيضاً للولوج داخل عالم الذرة ومراقبة الإلكترونات عن كثب.

ميكانيكا الكمّ من جديد

تأتي تطبيقات الآتوثانية في نفس غرابة آليتها، فمع هذا الاكتشاف المثير من نوعه سوف يمكننا مراقبة بعض الأمراض عن كثب، أو توجيه نبضات الضوء تلك من أجل الارتقاء بمستوى الأدوية أو التحاليل الطبية، هذا إلى جانب بقية التطبيقات في الصناعة والطاقة، ولكن يبقى التطبيق الأجمل على المستوى دون الذري إذ ستتيح تلك التقنية مراقبة ديناميكيات الإلكترونات عن قرب.

منذ 100 عام تقريباً غضب هايزنبيرغ لأن ميكانيكا الكمّ في ذلك الوقت أجبرت الفيزيائيين على استخدام كميات غير قابلة للقياس، مثل موضع الإلكترون وفترة دورانه، ولكن الآن مع وجود الآتوثانية يمكننا رؤية ديناميكيات الإلكترون في الذرات والجزيئات والمادة على نحو مكثف، بمعنى آخر نحن على وشك الحصول على فيديو أبطيء قليلاً لحركة الإلكترون.

الآن نحن أقرب خطوة لتفسير ظاهرة الشق المزودج، وأقرب أكثر لفهم ميكانيكا الكمّ وتفسير ظواهرها بشكل أكثر دقة، لكن يبقى السؤال الأهم حين يقفز الحصان في الهواء تُرى هل يرفع قوائمه الأربعة أم قدمين فقط؟

اقرأ أيضًا: أحمد زويل: نظرة على إرث علمي خالد